لا يخفى على أحد من المهتمين بالحقل السياسي والمجال العام، مدى الأهمية التي تلعبها الأحزاب السياسية، حال كونها فعليا، تقوم بالدور المرسوم لها في تطوير حالة الديموقراطية في البلاد، وذلك لا بد وأن يكون مبنياً أو مؤسساً على كيفية تكوين تلك الأحزاب منذ نشأتها، وعدد الأعضاء المنضمين إليها، وكذلك مدى قدرتها على مخاطبة الشارع، والانخراط في المشاكل المجتمعية، وهذا ما يتبلور في مدى تحققها من داخل أروقة الهيئات النيابية، وتمثيلها فيها بعدد يشكل كتلا برلمانية.

ولا بد، وأن نؤكد أنه منذ لحظة انطلاق التعددية الحزبية في مصر في عهد الرئيس الراحل/ أنور السادات، وكان لها هدف مرسوم في المجتمع، بدأ في التطور رويداً رويداً، حتى صار هو العصا السحرية التي من خلالها يتم تمرير كافة الأمور السياسية، وكذلك القوانين، ومن الممكن أن نشير في ذلك إلى الانطلاقة الفعلية في ذلك الأمر، في ما تم تمريره من اتفاقيات لمعاهدة السلام أو اتفاقية كامب ديفيد، على الرغم من حالة الاختناق الجماهيري من ذلك حينها، إلا أن لوجود الحزب الوطني بأغلبيته ورئاسة رئيس الجمهورية له في ذلك الحين، كان له دور الفاعل الرئيسي في إتمام ذلك.

وإذا ما قفزنا بالتاريخ إلى مرحلة ما بعد ثورة يناير، والتي تم خلال مراحلها الأولى السماح بإنشاء العديد من الأحزاب، وذلك في حالة الزهوة والنشوة بالانتصار الثوريين؛ أملا من الجماهير المنضمة حينها في إحداث نماذج تغييرية ديمقراطية من خلال تلك الأحزاب، والتي ووفق لها على نحو سريع، وكأنها كانت حالة إرضاء للجماهير في تشكيل تلك الأحزاب؛ انتظاراً لما سوف يجد مستقبلاً، وهو ما أنتج مجموعة من الأحزاب الصغيرة، والتي بالكاد يعرف البعض أسماءها، وهو الأمر الذي أفرز عدم وجود تمثيل نيابي حزبي، يوحي بوجود حياة حزبية تعددية.

ولكن من زاوية مغايرة؛ فهناك أحزاب ولدت من رحم السلطة، أو بمحاذاتها، وهو من الزاوية التاريخية تجد صداه في الحزب الوطني الديمقراطي، الذي أنشأه الراحل/محمد أنور السادات، ثم كان دوره الرئيسي في مجاراة السلطة والسير في ركابها، وهو فعليا ما شاهده المجتمع المصري بشكل واضح إبان فترة حكم مبارك، والتي كان فيها يستحوذ الحزب الوطني على الأغلبية البرلمانية، ثم فيما بعد ثورة يناير جاء الدور على حزب مستقبل وطن، إذ على الرغم من كونه حديث النشأة كغيره من الأحزاب التي ظهرت في حيز الوجود في أعقاب ثورة يناير، إلا أن المدهش والمثير، هو سرعة انتشاره بهذا الشكل ، واستحواذه على الغلبة النيابية.

إذن فالمحصلة، أننا أمام حزب رئيسي تحتضنه السلطة على مدار الحقب التاريخية، مع وجود مجموعة من الأحزاب الصغيرة، منها ما هو قديم، “حزب الوفد– التجمع” وبين ما هو جديد، وله تمثيل بسيط داخل مجلس النواب مثل الشعب الجمهوري، وحماة الوطن، ومصر الحديثة، والمصري الديمقراطي الاجتماعي، وغيرها من الأحزاب الممثلة بأعضاء، تعد على أصابع اليد الواحدة، وهذا ما يعني أن الكتلة التصويتية كما كانت في فترة ما قبل الثور، فقد انتقلت إلى حزب مستقبل وطن، وهو الحزب الممثل في مجلس النواب الحالي بعدد 316 عضوا.

لكن ما هي النتيجة المترتبة على ذلك، لا تخرج تلك الهيمنة النيابية عن مسايرة السلطة في قراراتها، وانحيازه بشكل مستمر إلى القوانين التي تمررها السلطة من خلاله، أو من خلال استخدام كتلته التصويتية، فيما تتقدم به الحكومة من قوانين. وهذا الأمر يعني أو يؤكد على استحواذ السلطة التنفيذية على مقررات السلطة التشريعية بطريقة مغايرة، وبالتالي لا يتبقى من الأمر سوى المقاومة الشعبية عن طريق السبل الإعلامية وصفحات الميديا، وهذا ما أفرزته تجربة مشروع قانون الإجراءات الجنائية، والذي لم يستطع حزب مستقبل وطن تمريره، والتوقف عن مناقشته، وذلك نتيجة لكم الاعتراضات الشعبية الواسعة، والتي كان أهمها ما نتج عن نقابة الصحفيين، وكذلك المواقف الاعتراضية التي أبداها نادي القضاة، أو نقابة المحامين، والعديد من المواقف الشعبية ممثلة في المؤسسات الحقوقية، أو الصفحات الشخصية للعديد من الكتاب.

هذا المؤشر يؤكد بشكل أولي على عدم وجود مناخ سياسي معتدل في الحياة السياسية المصرية، وهذا ما يؤكد على عمد استقلالية الحياة الحزبية في مصر، كما أن ذلك الأمر يفرز في الطبيعية السياسية والاجتماعية للحياة، أن تسير في اتجاه واحد، وهو الاتجاه الذي تراه السلطة التنفيذية، بحسب كونها هي صاحبة التصرفات الفعلية في الوجود، كما أن لها الحق بحسب نصوص الدستور التقدم لمجلس النواب بمشروعات قوانين، وهي ضامنة بشكل كبير تمريرها من خلال الأحزاب الموالية لها، كما أن ذلك يؤثر بشكل قطعي على المقررات الرقابية للسلطة التشريعية على تصرفات السلطة التنفيذية، وهو ما يدعم تكريس السلطات جميعها في قبضة السلطة التنفيذية، غير مكترثة بأي تقسيم نظري للسلطات، حتى ولو كان ذلك من خلال النصوص أو القواعد الدستورية.

الأمر برمته لا يدعم أو يحفز نحو أي تقدم سياسي حقيقي في الحياة السياسية المصرية، أو ما يلحلح الحياة السياسية بشكل عام، وهذا ما ينتج عازلا سياسيا ما بين الفئات الشعبية المصرية، وبين تلك الأحزاب بشكل حقيقي، كما أن ذلك لا يبشر بوجود تفاعل مجتمعي ما بين الأحزاب والمواطنين، أو ما بين المواطنين والسلطات، إذ لا شك أن ذلك لا يخلق سوى حالة من الانحياز لجانب السلطة بحزبها الغالب، وحالة من المعارضة المجتمعية البعيدة عن الحياة الحزبية، وبالتالي يخرج بالمجتمع عن الانتماء الحقيقي، وهذا ما عبر عنه الراحل /عبد الرحمن الأبنودي بقوله:

 بين الإمام والمصلين فيه اتصال مفصول

أو انفصال موصول

وفيه مسافة بين صفوف الخلق والإمام.