شاهدت ومعي كل أبناء جيلي والأجيال التي تلتنا منذ بداية الثمانينيات وحتى الآن، الصفعة القوية التي سددتها السلفية للبيوت المصرية، سمعنا قوة اللطمة على رؤوسنا ورؤوس أهلنا وأخواتنا، انتشر الحجاب بعد أن كانت كل ألبومات الصور العائلية بفساتين زاهية الألوان راقية التصميم.
نحن الأجيال التي وعيت منذ صغرها على الصراخ التمثيلي للشيخ عبد الحميد كشك، بطل الكاسيت الشعبي، منذ صغرنا نسمع شائعات التطرف والوقيعة بين المسلمين والمسيحيين تلك التي كانت تطلقها التيارات السلفية في بداية ظهورها، شرائط كاسيت مسجلة يتبادلها بعض المسلمين فيما بينهم بصوت قساوسة يحكون أنهم رأوا نور الإسلام يخرج من جدار الدير.
الأسود التي كانت شائعات التطرف تتخيل أنها تُربي فى بدرومات الكنائس كي يُلقى لها كل من يغير دينه من المسيحيين ويدخل الإسلام، عشنا مع الخيال السلفي المهووس، ومازلنا نسمعه حتى الآن بنفس لكنته القديمة، ونراه ينموا في العقول ويتشعب.
مازالت المناظرات الساذجة بين الملحدين والشيوخ مثل التي كنا نتبادلها فى الثمانينيات مسجلة على شرائط فيديو، مناظرات أحمد ديدات كانت تختم بمشاهد حية من بطولات الأفغان ومعجزاتهم في الحرب مع السوفييت الكفرة، امتلأت جيوبنا بكتيبات الحصن الحصين وأحاديث الترهيب من خلع الحجاب وترك الصلاة.
ماكينة إعلامية ضخمة لم تنضب ملياراتها منذ طفولتنا وحتى الآن، نغصت علينا حياتنا بالكامل، وأخفت عن عيوننا كل جمال ورثناه من الإسلام، لم تعد خطوط النسخ والرقعة وفنون الكاليجروفي الإسلامي تزين جدران المساجد لأن كتابة القرآن على الجدران أصبحت بفضل الوهابيين بدعة.
اختفت المقامات الصوتية والحناجر الملائكية التي تربينا عليها تتلوا القرآن، لأن ذلك فيه لحن واللحن لا يجوز مع كلام الله، حرم على آذاننا سماع الصلاة والسلام عليك بعد الآذان والتي كان يتفنن في غنائها مؤذنوا الأرياف قبل المدن، لأن الصلاة على النبي بعد الآذان بدعة.
أصلاَ استبدال الآذان المنغم بالمقامات الموسيقية المعقدة بآذان يملؤه الصراخ والعجلة بحجة أن ذلك هو الآذان الشرعي السلفي، إنني وأبناء جيلي سئمنا من هؤلاء المتحزلقين الذين ما زالوا يتحدثون ببجاحة كأنهم كلمة الله، ولا مستقبل لنا معهم إلا بالحجة القرآنية كي يفكوا عن حياتنا ونعود إلى إسلامنا الذي شرّبه لنا الأساتذة والعلماء الحقيقيون.
هناك حقيقة إلهية سحقتها مطارق هؤلاء الفقهاء وعشاق الفتاوى والمرويات وقصص الأثر هي: أن الله سبحانه وتعالي أرسل النبي صلى الله عليه وسلم محملا برسالته إلى الخلق جميعًا، لا لكي يثبت اصطفاءه للنبي وأفضليته على كل الخلق فقط؛ وإنما كان الغرض الرئيس هو أن يحمل النبي الوحي من الله ويتجول به بين الناس ليرى الخلق جميعًا، كيف يمكن العيش وتنظيم الحياة اليومية والشخصية وفق مرسوم سماوي؟
حتى إذا ما رأت الأمم الأخرى أمة واحدة تتعايش بالوحي سيدخل الناس فى دين الله أفواجًا، ذلك هو التجسيد الحي و الكامل لمفهوم التبليغ: ” يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا”، هكذا يبدو القرآن الإلهي واضحًا صريحًا، لا يحتمل جذب وشد التعريفات الكلامية التي ظل علماء الكلام قرونًا يتبادلونها في معاركهم اللفظية واللغوية حول تعريف التبليغ والأنبياء والرسل.
ويكفي القرآن فصاحة وسموا وأعجازًا في نقطة التبليغ هذه بيانه الواضح وهو ينهى النبي صراحة بلهجة ربانية قاطعة عن التفريط في اتباع الوحي، وتقديمه على أي قول آخر في كل موقف حياتي:” يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ”.
ولأننا كالنبي لا نملك قلبين في أجوافنا، فليس أمامنا الآن سوى أن نتبع ما أوحي إلينا، ونفحص حجم النور الذي تركه الوحي في قلبنا الوحيد، أن نستعيد إسلامنا الحقيقي من فم الرواة وحروب التاريخ، أن ننقيه من كل الميراث المذهبي والسلطوي، ثم ننظر في نوره وهو يلمع أمام أعيننا مليئًا بالحريات، يعرف لحظة السلم، ويحفظ منطق القوة.
لا يستطيع أي فقيه مهما كان أن لا ينطلق من قاعدة “المباح” واعتبارها القاعدة الأم في علم أصول الفقه: “الأصل في الأشياء الإباحة” ابن تيمية ذاته زعيم السلفية ومؤسسها في كتابه مجمع الفتاوي، يقول نصًا:
«أعلم أن الأصل في جميع الأعيان الموجودة على اختلاف أصنافها وتباين أوصافها أن تكون حلالًا مطلقًا للآدميين، وأن تكون طاهرة لا يحرم عليهم ملابستها ومباشرتها، وممارستها، وهذه كلمة جامعة، ومقالة عامة، وقضية فاضلة عظيمة المنفعة، واسعة البركة، يفزع إليها حملة الشريعة، فيما لا يُحصى من الأعمال، وحوادث الناس».
إن استعادة عالمية الإسلام بتعبير المفكر السوداني الكبير أبو القاسم حج حمد، لم تك عصية على المسلمين في أي من مراحل التاريخ مثلما هي عصية على مسلمي هذا الزمان، ذلك لأننا مثقلون بميراث سلفي كان من المفترض أن يحكم العقل الإسلامي لفترة ثم يختفي، مثل أي مذهب أو دولة أخرى حكمت المسلمين، إسلام بني أمية بمكتبته السلفية المترهلة_هو الذي تسيد العقل الإسلامي منذ القرن الثالث الهجري_منذ أن بدأت عمليات تدوين الفقه والحديث.
وحتى يومنا هذا، مسح بنو أمية إسلام النبي والصحابة من العقل الإسلامي تمامًا، نحن لا نعرف شيئًا عن الـ120 عامًا التي أعقبت وفاة النبي إلا ما يمليه الرواة على بعضهم البعض باختلاف مذاهبهم ومشاربهم، على عكس ما كان النبي والقرآن يتوقعان من المسلمين:” اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم.
نسي المسلمون نعمة الله هذه، وإلى الآن لم نفكر في كيفية استعادتها وتنقيح ميراثنا الفقهي من شوائب التنصيص الديني والفقهي خدمة للسلطة، ليس أمامنا الآن خيار سوى الاستماع إلى الوحي وصوته الواضح القاطع دائمًا:”اذكروا نعمة الله عليكم وميثاقكم الذي واثقكم به”.
ضاقت دائرة المُباح والحريات الشخصية لحساب اتساع دائرة التحريم والإلزام، وإلى الآن مازالت أجيال من هؤلاء الرواة والفقهاء يتسيدون علي حياتنا، بملامحهم الجافة، وكبتهم الجنسي، ولكنتهم السلفية ذات الصفير في مخارج الصاد، هؤلاء الرواة والفقهاء الجُدد، مثل: أجدادهم بناة القياس ومبتدعو المقدسات الوهمية التي يسمونها بالإجماع والجمهور؛ يريدون النجومية، ليطلقوا قواعد فقهية تنافس في قداستها، حاش لله، قداسة القرآن.
على سبيل المثال لا الحصر فإنه لم يرد على لسان الله إطلاقًا حد الرجم للزاني أو الزانية، الرجم بالمناسبة عادة يهودية لا علاقة للإسلام بها لا من قريب أو بعيد، وأتحدى من يستخرج من القرآن حكمًا بالقتل إلا القصاص، الله لم يعتمد القتل كعقوبة في كتابه إلا في حكم القتل العمد، والفقهاء والرواة لم يعجبهم سماحة ربنا، واعتمدو القتل عقوبة لأربعة أحكام: الردة، والزنا للمحصنات، والشذوذ الجنسي، والزندقة.
لن يعود لنا إسلامنا قبل أن نتخلص من هؤلاء المتباهين بعلم سلفي أجوف لا يمت للإسلام الأصلي بأية صلة، إلا اللؤم والتزوير للبقاء في السلطة، في القرآن سورة باسم الشورى، لكن فقهاء التزوير والتملق استبدلوا الشورى بالخلافة، ونظموا لها في كتب الفقه أبوابًا، بمعني آخر الإسلام سبق الجميع إلى التصويت والديمقراطية لولا فقهاء الخلفاء، النظرة المتعمقة في حال العقل الإسلامي تكشف بما لا يقطع مجالاً للشك عن مؤامرة تتمد بطول عمر الأمة طرفيها الإسرائيليات ورواة السلفية.
لا سبيل لاسترداد نورنا الفطري إلا بتتبع تلك المؤامرة وتنقيح عقولنا من ميراثها، ولابد أن يتم ذلك بشكل شخصي وفردي خالص، كل مسلم على حدة عليه أن يسترد حقوقه الشخصية والروحانية كاملة من هؤلاء المهرطقون:”ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها، إنا من المجرمين لمنتقمون”، “أن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين” النص واضح لا لبس فيه كأن صديقًا يكلم صديقه، لا يحتاج فقط سوى أن نعود إليه وقد تخلصت عقولنا من غشاوة السلفية وهرطقات المرويات.
من فضل الله على عقولنا المسلمين فإن ميراثنا الإسلامي يمتلئ بمئات العلماء والمفكرين منذ القرون الأولى وحتى الآن كانوا وما زالوا يقتلون من أجل استعادة نورنا الفطري وحرياتنا الشخصية فى الإسلام، هناك مدرسة كبيرة منذ ابن حزم الأندلسي الذي أحرقت كتبه كلها ونفي، مثل: مئات غيره على مدار التاريخ.
تلك مدرسة لابد أن يعاد إظهار منطقها للمسلمين، حيث تجسد إعجاز القرآن في أنه يكلم وبفصاحة كل فرد من المسلمين على حدة، بحيث لو اقترب المسلم بعقله من الآيات سيجد من يكلمه بشخصه، ويوجهه بسهولة نحو كل ما يريح روحه قبل جسمه، ولن يستطيع فكر أو فقيه أو مذهب أن يجرد الإسلام أو القرآن من خصوصيته الذاتية تلك، آيات لا حصر لها تكلم فطرة كل مسلم منا على حدة، وأخرى تقذف في قلب كل فرد من الأمة نورًا إلهيًا خص الله به كل مسلم كبصمة الصوت والإصبع.
آن لنا أن نتتبع ذلك النور الذاتي وهذه الفردية والشخصية التي ما نفك القرآن يعلمنا إياها : “وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه”، يوم يفر المرء من أبيه وأمه وأخيه وصاحبته وبنيه” الحساب الإلهي دائمًا فردي، لا يقبل أو يسمح بتطبيق قواعد الفقهاء المعممة دائمًا على الجميع.
فالله خلق التطور والتغير وجعله من معجزات قدرته، إلا أن الفقهاء وأصحاب الفتاوى يصرون على تجميع الأمة في سلة واحدة ذات قواعد واحدة يسير عليها جميع المسلمين مهما اختلفت أزمانهم وجغرافياتهم وثقافاتهم واجتماعياتهم، دعاة السلفية الحاليون مثل أجدادهم: “يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وماهو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون”.
مازال فقهاء زماننا، مثل: فقهاء الأزمنة الغابرة يستحدثون مرجعيات كالقياس والإجماع والجمهور ليغلبوا بها وضوح القرآن وخطابه الفردي المعجز حين يكلم أي إنسان، حتى وإن لم يكن مؤمنًا: “يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك، يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه، هذا بخلاف كل الآيات الأخرى التي أمر فيها الله النبي “قل للمؤمنين” وقل للمؤمنات وكأن القرآن يريد أن يهمس في الآذان ليحفظ لكل إنسان خصوصيته وسريته مع خالقه.
من يتعامل مع القرآن ككتاب شخصي، فلن تنفك آياته أن تلمس كل موقف بإعجاز متفرد، القرآن فى حقيقته كتاب حي من لحم ودم، لا يحتاج إلى وساطة لنفهمه_ إن لزمت تلك الوساطة فلن تكون إلا للنبي وحده دون بقية البشر، كذلك كان كلام رسول الله الأخير واضحًا صريحًا يغلق خلفه باب الاجتهاد بحزم لا يقبل المراجعة، بعد أن حرّم دماءنا وأموالنا على بعضنا البعض.
في خطبة الوداع قال”اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”، هكذا جزم النبي بإكتمال الدين وإتمامه بشكل يرضي الله، ولا يصح بعد قول الله ورسوله أي قول مهما كان فالنبي كان يعرف وعن يقين أن الأمة ستتخبط بعده.
ليس لنا من بعد النبي إلا البحث عن ذاك النور الإلهي الشخصي الذي نفخه الله في كتابه، لقد بني القياس والجمهور والإجماع، سدًا عاليًا بين القرآن والمسلمين، ولولا مدرسة ابن حزم الأندلسي، ومواقف أبي حنيفة من الأحاديث المزورة، لتبددت الحرية الشخصية في الإسلام، وضاع النور الإلهي الشخصي.
هناك ملايين المسلمين لا يستطيعون قراءة القرآن بلغته الصحيحة، على الرغم من إنّي مثلاً ومع كثير من أصدقائي حين نسترجع آيات من القرآن نحفظها نستشعر لغته البسيطة ومعانيه الواضحة المناسبة لكثير من المواقف اليومية، لقد جرى ترسيخ العزلة بين القرآن والمسلم حتى ارتاب أغلبنا في المعاني وعجزنا عن فهم خطابه الفردي المعجز.
هناك مدرسة عظمى في الإسلام بدأت منذ عهد النبي وصحابته وامتدت حتى الآن، تمتلئ بأكابر العلماء وملايين المسلمين تعترف بالحرية الشخصية في الإسلام، وترى عن كثب كل الخطابات النورانية الفطرية الصريحة الموجهة لكل مؤمن فرد في الأمه.
هذه المدرسة تتبني المباح وترفض التضييق، وتقول للفقهاء منذ القرون الأولى أن الأصل في الإسلام هو الإباحة، لأن كل ما أراد الله أن يحرمه ذكره في القرآن مسبوقًا بلفظ حرّم عليكم، وما أحله سبقه بلفظ أحل لكم، أما ما سكت الله عن تحريمه، وبالنسبة إليّ فإن إعجاز القرآن يبدو ماثلاً أمامي كاملاً في ما يخص مسائل الحرام والحلال هذه إذ أنه ينطلق أصلاً من الإباحة حين يقول أحل لكم الطيبات.