“الوضع الحالي يشبه ما بعد نكسة 1967”.

كان ذلك تصريحا مثيرا بنصه وتوقيته ومغزاه.

ما الذي يقصده الرئيس “عبد الفتاح السيسي” بالضبط؟

يستلفت الانتباه، أن الجهة التي نظمت احتفالية أكتوبر هذا العام لم تكن عنوانا مناسبا لملحمة الحرب بكل بطولاتها وتضحياتها.

إنه ما يطلق عليه “اتحاد القبائل العربية”، الذي تثور حوله تساؤلات عميقة وجوهرية، تنال من طبيعة الدولة ومستقبلها، كأننا أمام إعادة إنتاج لاحتفال سابق، تصدره “الأهل والعشيرة”، وكان محل استهجان وغضب واسع.

لا أحد يقرأ التاريخ، ويتعلم من دروسه.

كما لم تكن مقاربة “أجواء النكسة” في محلها.

ربما أراد الرئيس، أن يرسل إشارة أمل إلى شعب، يستبد به اليأس من وطأة الأزمة الاقتصادية، بأننا يمكن أن “نتحدى التحدي”، كما فعلنا إثر النكسة، لكنه تجنب الدخول في طبيعة الأزمة الخانقة وحدودها والمسئولية عنها، ولا أبدى استعدادا لمراجعة السياسات والأولويات والوجوه التي فاقمتها، وأوصلت البلد إلى حافة الإفلاس.

الاعتراف بالأزمة من ضرورات مواجهتها، شرط أن توضع الحقائق كاملة أمام الرأي العام، حتى يمكن دعوته للتضحية بأكثر، مما ضحى والصبر بأكثر مما صبر.

إذا لم يكن هناك تصحيح شامل في بنية النظام، فإن البلد داخلة لا محالة إلى تراجعات أخطر وأفدح، مما حدث حتى الآن.

بمنطوق التصريح الرئاسي، فإننا أمام هزيمة بلا حرب.

هذه أسوأ أنواع الهزائم.

ما الذي حدث بالضبط، حتى نصل إلى هذا الوضع الكارثي؟.. ومن يتحمل مسئوليته؟.. وإلى أين نحن ذاهبون؟

رغم فوارق الأزمان والتحديات والنظم والرجال، فإن الوضع مختلف جذريا عن “أجواء النكسة”، إلا إذا كان المقصود أننا في وضع هزيمة تستدعي التحدي.

مراجعة “أجواء النكسة” ضرورية، حتى تنضبط المفاهيم والتصورات على حقائق لا افتراضات متخيلة.

عند هزيمة يونيو، تحمل الرئيس “جمال عبد الناصر” مسئوليتها الكاملة، وأعلن تنحيه عن الحكم يوم (9) يونيو من ذلك العام الكئيب.

كان رأيه أن النظام الذي يفشل في صيانة التراب الوطني لا يحق له البقاء.

من يتحمل المسئولية الآن عن الهزيمة بلا حرب؟

بحكم منصبه، فإنه الرئيس والسياسات المتبعة، والإعراض عن أي اجتهاد أو رأي آخر.

عند هزيمة (1967)، تقوضت شرعية “عبد الناصر” وسقط نظامه، غير أنه تبدت في تظاهرات (٩) و(١٠) يونيو شرعية مستأنفة، رفضت تنحيه، وفوّضته الحكم من جديد لإزالة آثار العدوان.

لم يسبق لأمة مهزومة ومجروحة في كبريائها الوطني، أن راهنت على قائدها المهزوم، باعتباره أملها في رد اعتبارها وتحرير أراضيها التي احتلت.

بأي قياس تاريخي، فإنه حدث استثنائي.

لا تضاهي تظاهرات (٩) و(١٠) يونيو سوى جنازته، التي لا مثيل لها في التاريخ، بعد ثلاث سنوات.

لماذا كان ذلك ممكنا؟

حسب شهادة للمفكر الاقتصادي الراحل الدكتور “جلال أمين”، كتبها على صفحات جريدة “العربي” في يناير (2002)، فإنه حجم الإنجاز الاجتماعي أولا وقبل كل شيء:

“عندما عدت من البعثة في ١٩٦٤، لم يكن لديّ أي شك في صحة اتجاهات عبد الناصر وفلسفته، وقد تبينت فيما بعد، عندما ظهرت الأرقام وأمكن النظر إلى تطور مصر الاقتصادي، أن ما كان يحدث في مصر اقتصاديا واجتماعيا بصرف النظر عن مشكلة الديمقراطية منذ ١٩٥٦، وحتى ١٩٦٥، كان أفضل ما مر في تاريخ القرن على الأقل، لم نكن في ذلك الوقت نرى إلا الجزئيات، ولكن حياتنا اليومية كانت تعكس هذا التطور الرائع في حياة مصر”.

لقد حدث أوسع حراك اجتماعي، سمح لأعداد غفيرة من الطبقات الدنيا، ظلت محرومة قرونا طويلة بالترقي في جودة الحياة ومستويات المعيشة والصعود إلى سطح الحياة، والانتفاع بثمرات التنمية والتعليم والتقدم.

أسوأ ما جرى بعد “عبد الناصر” تقويض إنجازاته الاجتماعية، صرحا بعد آخر وبيع المقدرات العامة.

بلغت المأساة ذروتها بعد حرب أكتوبر مباشرة بسياسة الانفتاح الاقتصادي (1974)، التي أنشأت طبقة جديدة تدعم نوعا من السلام، أهدر أي معنى لاستقلال القرار الوطني وأية قدرة على التنمية المستقلة.

بالتزامن، جرت أوسع وأشرس حرب على الذاكرة الوطنية، لتيئيس المصريين من قدرتهم على صنع مصائرهم بأنفسهم بالتركيز على هزيمة يونيو بالذات.

لم تكن تلك الهزيمة محض مؤامرة خارجية، والمؤامرة موجودة وثابتة؛ للتخلص من التجربة الناصرية، التي أضفت على مصر أدوارا قيادية في المنطقة العربية والعالم الثالث كله.

أفضت بنية النظام إلى الهزيمة بكل هذا الحجم الفادح.

حسب صياغة “عبد الناصر” في (٣٠) إبريل (١٩٦٧) ـ كما تضمنتها “مجموعة أوراق محمد حسنين هيكل” قبل الهزيمة العسكرية بـ (٣٥) يوما:

“الأزمة لم تعد أزمة أشخاص، إنما هي أزمة نظام”.

“القوى الاجتماعية والأفكار التي أطلقتها الثورة، قد أصبحت أكبر من النظام السياسي الذي أقامته”.

“المستقبل يقتضي صيغة جديدة تماما، وأن الحزب الواحد في هذه الظروف وهذا العصر أصبح لعبة خطرة”.

بنص كلامه، الذي دونه “هيكل” على ورق، واحتفظ به في مجموعة أوراقه: “إن النظام على النحو القائم الآن يترك مصير البلد لرجل واحد، وهذه مخاطرة بالمستقبل”.

باليقين، كانت هناك مؤامرات على ثورة “يوليو” لإجهاض مشروعها وإنهاء أدوارها، غير أنها ما كانت لتمر لولا الثغرات الداخلية في بنية “النظام المقفول الذي يُعلق مستقبل البلد على مجهول”ـ بتعبير زعيمها.

بتوقيت واحد، أجرى مراجعتين ضروريتين.

الأولى، عسكرية في أسباب الهزيمة وأوجه الخلل داخل القوات المسلحة.

بموجب تلك المراجعة، جرت إعادة بنائها من جديد على أسس احترافية، وأبعِدت تماما عن أي تدخل في السياسة، حتى تتفرغ لمهمتها الأصلية في تحرير الأرض المحتلة.

الثانية سياسية، وقد قادها بنفسه، بمراجعات وثائقها متاحة الآن أمام من يطلب الحقيقة.

بدا “عبد الناصر” كمن يثور على نظامه.

ولم تكن أول مرة.

في مطلع الستينيات، ثار على نظامه بتحولات اجتماعية غيرت في البنية الطبقية، وأحدثت حراكا غير مسبوق.

كأي تجربة إنسانية، كانت هناك أخطاء بعضها أقرب إلى الخطايا، غير أن المسار العام حكمه مشروع واضح في معالمه وتوجهاته.

كانت تلك ثورة اجتماعية.

في أعقاب الهزيمة، ذهبت انتقاداته لنظامه إلى حدود غير متصورة.

دعا إلى مجتمع سياسي مفتوح و”دولة المؤسسات والقانون”، والقضاء على مراكز القوى داخل النظام، ودخل باجتماعات مسجلة للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي، إلى ما يشبه المحاكمة لنظامه كله.

فكرة الانتقال إلى نظام حزبي تعددي، طرحها على اجتماعات تنفيذيةـ “مجلس الوزراء” في أغسطس من نفس السنة، وتنظيميةـ “جلسات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي” (٣) أكتوبر (١٩٦٨)ـ (١٩) أكتوبر (١٩٦٨)، لكن لم يتح له الوقت الكافي لبناء نظام جديد، يحفظ قيم الثورة الرئيسية في التحرر الوطني والعدل الاجتماعي، ويرد اعتبار الحريات العامة والحق في التعبير.

تستحق تجربة حرب الاستنزاف، أن تقرأ بجدية لا بتصفيات حساب مع ثورة غيرت معادلات المنطقة العربية، ولعبت أكبر الأدوار في تحرير القارة الإفريقية، وألهمت العالم الثالث كله.

على مدى أكثر من خمسين عاما، جرت محاولات لا تتوقف لتكريس الهزيمة في الوجدان العام، كأنها قدر مكتوب علينا، رغم انتصار أكتوبر، الذي جرى إجهاض نتائجه السياسية، حتى وصلنا إلى تهميش الدور المصري في حروب الإبادة التي تستهدف إعادة تقسيم المنطقة من جديد ومصر غير مستبعدة.

من يتحمل المسئولية الآن؟

هذا سؤال لا مفر منه.