اجتمعت على النظام العقابي للجمهورية الجديدة أربعة مقاصد، رسمت مسار العدالة الجنائية في مصر بعد ٢٠١٣: التحكم والسيطرة والإخضاع بغية استرداد الدولة من انتفاضة يناير ٢٠١١، ومواجهة الاضطرابات التي خلقتها، ومجابهة الإخوان كأكبر قوة سياسية منظمة- تحت دعاوى الحرب على الإرهاب، وضبط حركة المجتمع السائلة في الاقتصاد والعمران والدين والقيم، وتنظيمها لتكون معدة للسياسات الاقتصادية النيو ليبرالية، وإعداد الدولة والمجتمع للاندماج في المشاريع الإقليمية والدولية ذات الطبعة الرأسمالية.
تعرضت بالتفصيل في مقال سابق لهذه المقاصد والأهداف، وعرضت لسياقاتها الأوسع. في هذا المقال أعرض للاستراتيجيات التي اتبعها النظام لإنتاج ما أطلقت عليه في المقال الأول من هذه السلسلة: “استباحة” العدالة الجنائية في مصر. بعبارة أخرى هذا المقال مخصص لكيفيات الاستباحة التي تتبدى في التشريعات والسياسات، وكذا الإجراءات والقرارات، والتقاليد والممارسات، وهو ما ينبغي أن نعتني به لأنه سيستمر معنا عقودا، ونحتاج إلى جهود ممتدة لتفكيكه وتقويضه. هذه الاستراتيجيات تخلق التكامل والتناسق بين المكونات المتعددة لمنظومات الاستباحة، وأظن أنها هي ما أحدثت النقلة النوعية التي نشهدها على مدار العقد الماضي في انتهاكات العدالة الجنائية.
أولا: انتفاء الحدود الفاصلة بين دولة الامتياز والدولة المعيارية:
ألغت دولة يوليو ٢٠١٣ تقاليد دولة يوليو ٥٢ التي حافظت على ديكتاتوريتها من خلال وجود نظامين قانونيين متجاورين: الأول: “الدولة ذات الامتيازات”، التي تشمل الأجهزة الأمنية وتتمتع بسلطة غير محدودة لقمع جميع الأنشطة والتنظيمات والأشخاص الذين يمثلون تهديدا أو تحديا للوضع الجديد الذي دشنته حركة الضباط الأحرار، والثاني: “الدولة المعيارية”، التي تشير إلى العقلانية القانونية التي تمارسه بعض المؤسسات وتحميها المحاكم العادية التي تتمتع بقدر أعلى من الاستقلال في مقابل الاستثناء الذي يحكم الأول.
جرى تقسيم العمل بين “الدولة المعيارية” وبين “الدولة ذات الامتياز”. حافظت الهيئات القضائية المعيارية على مستوى ملحوظ من الاستقلالية والالتزام بسيادة القانون، خاصة في القضايا التي نظر فيها القضاء الإداري والمحكمة الدستورية العليا، لكن بعد ٢٠١٣- كما يشير عزت.
- تم الحفاظ على حالة الاستثناء من خلال مأسسة الدولة لآليات استثنائية ضمن النظام القانوني العادي.
لم يكن لدى النظام الجديد- الذي نشأ بعد يوليو ٢٠١٣- ثقة في معيارية القانون في منع التحديات لحكمه. كانت لحظة تأسيسه استثنائية- كما أشرت في المقالات السابقة؛ لذا تم دمج الامتياز بالمعياري، ونقل الاستثنائي إلى المجالات كافة من خلال: ١- عقيدة الأمن القومي التي اكتسبت معنى شاملا متسعا وعبر ٢- الحرب على الإرهاب.
سيصبح دمج الاستثناء في القاعدة هو النموذج القانوني، والممارسة التي تحكم نظام يوليو ٢٠١٣ فصاعداً. بالنسبة للنظام الجديد؛ كان استرداد الدولة يعادل استعادة حالة الاستثناء التي انهارت في ميدان التحرير في يناير/ كانون الثاني ٢٠١١، ودمجها في النظام القانوني العادي- كما يشير عزت بعبارة أخرى، تطبيع الاستثناء.
ساهمت الحرب على الإرهاب- خاصة بعد اغتيال النائب العام، وشعور القضاء العادي بمخاطر انتفاضة يناير على تغيير أوضاعهم، وتهديد الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها، وسطوة الدولة الأمنية، وتمدد العسكرة في كل مجال على دمج القضاة في دولة الامتياز.
في هذه الفترة تم تصفية تيار الاستقلال بفصل عدد كبير من قضاته، وإحالة بعضهم للمحاكمة، كما تم تهديد الجميع، بعد أن تم فصل من يكتب مجرد بوست على السوشيال ميديا، وفي نفس الوقت، جرى إطلاق الامتيازات المالية والخدمية لهم.
بلغة أكثر عسكرية، انتقلت دولة الامتياز من محاولة تضمين نفسها داخل التشريعات والمنظومة القضائية، وتوظيف بعض جوانب دولة القانون لصالحها، إلى اجتياح دولة القانون بالكامل.
أدى إطلاق الدولة ذات الامتيازات في المجالات كافة، وليس في المجال السياسي فقط، إلى التأثير على المجال الاقتصادي الذي يحتاج فيه النظام الجديد للاندماج في النظام الرأسمالي الاقليمي والعالمي، من هنا جاءت فكرة المراوحة بين المعيارية والاستثناء (مجال الاستثمار والاقتصاد يحكمه قوانين واجراءات تحميها العقلانية القانونية والثقة، في حين يغلب على السياسي الاستثناء)، بما أودى بالثقة التي تتطلبها عمليات الاندماج الرأسمالي، وهو ما أدي- في النهاية- إلى الطلب على الاستثناء أو تحصين الاستثمارات وحمايتها من خلال الاتفاقيات- كما جرى مع السعودية موخراً.
ثانيا: جعل الرئاسة مركزية في النظام وفي الدولة؛ فهي الأول والآخر، ومنها المبتدأ وإليها المنتهى.
جرى تطابق بين الرئاسة والنظام والدولة من مداخل متعددة. انتهت فكرة الفصل بين السلطات، وتم التحكم من قبل الرئيس في تعيين رئاسات المؤسسات جميعا، بما فيها المؤسسات القضائية، مما قضى على استقلالها الذاتي في تسيير أمورها الداخلية، وتركزت دائرة صنع القرار واتخاذه في مجموعة ضيقة، تحيط بالرئيس، وأصبح غير المرئي منها أكثر من المنظور.
كان المطلوب أن يبدو جهاز الدولة أكثر توحيدًا وتماسكا، مما كان عليه في عام 2011، ويخضع لسيطرة مركزية أكبر. أنتجت هذه الحالة دمجا شبه كامل للسلطة القضائية في السلطة التنفيذية، انتهى إلى ضرورة تلقي المعينين الجدد فيها دورة تدريبية في الأكاديمية العسكرية على غرار نظرائهم من البيروقراطية.
من التقاليد التي استقرت عليها دولة يوليو ٥٢، هو التماهي/ التطابق بين الدولة والنظام والقيادة السياسية؛ بمعنى صدور الثلاثة عن إرادة واحدة، هي غالبا إرادة الرئيس- أو هكذا كان التصور. تكونت الكثير من السياسات المصرية منذ حركة الضباط الأحرار من محاولة إعادة بناء نظام حول رئيس قوي لديه خلفية عسكرية، واستخدام ذلك لبناء دولة متماسكة تحمي أمن المجتمع والدولة- وفق التعريف الذي يحدده الحاكم و النظام.
برغم هذه الحقيقة، إلا أن درجة التمييز بين الثلاثة- القيادة والنظام والدولة- اختلفت من رئيس لآخر، كما أن كل رئيس استخدم طرقا متباينة؛ لتحقيق الهيمنة على النظام والدولة. الطريقة التي يتفاعل بها الحاكم والنظام والدولة متداخلة، وقد تصل إلى حد التطابق- كما نشهد في الفترة الحالية، ولكنها تعمل بطرق مختلفة من رئيس لآخر، وقد تختلف درجة التطابق وطريقة تحقيقها لدى نفس الرئيس من فترة لأخرى.
في الفترة المحدودة من ٢٠١١ حتى ٢٠١٣، بدأنا نشهد ظاهرة مختلفة وهي: الصراع بين المكونات الثلاثة، وقد تلاشى هذا التمييز سريعا بعد ٢٠١٣؛ لنشهد حركة “استرداد” للدولة وإعادة بناء للنظام السياسي تحت قيادة جديدة، تدرك ضرورة صدور الثلاثة عن معين واحد ومن إرادة واحدة، بهدف تحقيق أهداف عدة ولمعالجة تداعيات كثيرة.
تشابكت ثلاثة عوامل لتدفع بهذا التطابق الذي نشهده الآن:
١- لحظة يناير التي أبرزت مدي هشاشة هياكل الدولة وعدم قدرتها على تلبية الحاجات العامة للمصريين ومعالجة التحديات الخارجية والداخلية التي تواجه الدولة والمجتمع على السواء، والأهم من وجهة نظري، أنها ولأول مرة بعد يوليو ٥٢ أبرزت أن الدولة ليس كيانا مصمتا يتسامى ويعلو فوق المصريين- كما قدمته يوليو٥٢، ولكنه محل للصراع الاجتماعي والسياسي من فئات اجتماعية، تتعارض مصالحها وتتباين رؤاها للدولة والمجتمع.
شهدت عديد المؤسسات صراعا داخلها بين منتسبيها من المستويات الإدارية الدنيا والوسطى تجاه قيادات هذه المؤسسات التي استأثرت بالامتيازات والمنافع على حساب الآخرين، كما شهدنا حركة مطالبات اجتماعية تجاه الدولة، تمثلت في تعيين المؤقتين في الوظائف بشكل دائم، بالإضافة إلى زيادة الأجور، وهي حركات تم وصمها مبكرا من قطاعات من النخبة بالمطالب الفئوية.
كان المطلوب بعد ٢٠١٣ “استرداد الدولة”- كما هي في حركة الاسترداد المسيحي في إسبانيا القرون الوسطى- من المصريين بإحداث قدر من التماسك بين مؤسساتها لمعالجة: تداعيات هذه اللحظة، ولتعود الدولة إلى حقيقتها الأولى- كما قدمتها يوليو٥٢، ولتقضي على حالة الانقسام بين مكوناتها- كما شهدتها سنوات مبارك الأخيرة،
٢- حشد قوة الدولة وراء قائد تمتع بشعبية كبيرة لمواجهة التهديدات التي أعقبت ٢٠١٣، والتي تم توصيفها مبكرا وقبل تصاعد داعش بالحرب على الإرهاب، وأضيف إليها عدم الانزلاق لحالة الفوضى التي طالت بعض دول المنطقة في أعقاب الموجة الأولى من الربيع العربي 2010/2011.
٣- حشد موارد الدولة والمجتمع والنظام السياسي معا للحفاظ على الدولة، وتحقيق نمو اقتصادي يؤثر على حياة المصريين. تطلب ذلك بناء نظام سياسي متحرر من القيود التي يمكن أن يفرضها المجال السياسي أو حتى القيود الآتية من الصراع الاجتماعي- كما قدمت.
كان تماسك الدولة ضروريا لإدارة عملية تفاوض موسعة مع الأطراف الخارجية- خاصة في الخليج- من أجل الوصول إلى الموارد اللازمة؛ للتعامل مع الاحتياجات الداخلية، وما يرتبط بذلك من القدرة على تقديم خدمات استراتيجية- خاصة في مجال الأمن- تطلبها هذه الأطراف- كما في اليمن وليبيا وأمن البحر الأحمر.
اقرأ أيضا : محددات فهم النظام العقابي للجمهورية الجديدة