على مر الزمن، طوّر صندوق النقد الدولي أكثر من لغة خطاب مع المقترضين، لغة أثناء مشاورات المادة الرابعة، ولغة أخرى أثناء أعمال المراجعة على البرامج، ولغة ثالثة في البيان الصحفي الذي يصدر عن كافة أنشطته، وهي التي لا يتم التعويل كثيرًا عليها؛ لأنها الأكثر نعومة.

كانت تلك الكلمة مضمون مناقشة بين الدكتور محمد العريان، الخبير الاقتصادي العالمي، وأحد مسئولي البنك الدولي في ندوة شهيرة، والتي توضح كثيرًا الفرق بين تصريحات مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا، مع المسئولين المصريين في المؤتمرات الصحفية، والتصريحات الأخرى التي تصدر عن بعثة المراجعة الرابعة التي تناقش حصول مصر على شريحة بـ 1.2 مليار دولار.

 تتعلق مراجعات المادة الرابعة بإجراء مناقشات ثنائية مع البلدان الأعضاء بصندوق النقد، تتم في العادة على أساس سنوي، إذ يقوم فريق من خبراء الصندوق بزيارة البلد العضو، وجمع المعلومات الاقتصادية والمالية اللازمة، وإجراء مناقشات مع المسئولين الرسميين حول التطورات والسياسات الاقتصادية في هذا البلد.

في المؤتمر الصحفي الأخير الذي عقدته جورجيفا الأحد الماضي بالعاصمة الإدارية الجديدة مع الدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء، كانت الإشادات كثيرة، قالت إن الصندوق يقدّم كامل الدعم لمصر في سبيل استقرارها وتطورها وتنميتها الاقتصادية، وتابعت: “أدركنا أنّ الظروف ازدادت صعوبة؛ بسبب الأزمات في الشرق الأوسط”.

شعارات براقة

شددت جورجيفا على ضرورة تعزيز “الحماية الاجتماعية” من خلال الابتعاد عن الدعم غير المستهدف، مؤكدة أن المصريين سيرون فوائد هذه الإصلاحات في اقتصاد مصري أكثر ديناميكية وازدهارًا.

في جميع المراجعات الثلاث السابقة لبرنامج صندوق النقد، كانت هناك إشادة بمؤشرات الاقتصاد الكلي في مصر والحماية المجتمعية، حتى أن كريستين لاجارد المديرة السابقة للصندوق، هنأت الشعب المصر على نجاحه في تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي الطموح، لكن في التقارير الصادرة عن وفد الصندوق كانت اللغة جافة والطلبات كثيرة، ما بين ضرورة التعويم الكامل للعملة بصرف النظر عن التأثير على الفئات الاجتماعية.

في اللقاءات الصحفية، لا يحدد مسئولو الصندوق جميع الشروط المطلوبة من الحكومة، لكن التقارير الفنية للصندوق النقد، تقول إن مصر استوفت حتى إبريل الماضي 7 إصلاحات هيكلية من ضمن 15 معيارًا هيكليًا وضعها الصندوق.

النقاط المؤجلة من المراجعات السابقة

يريد صندوق النقد نشر تقارير المراجعة السنوية للجهاز المركزي للمحاسبات على الحسابات المالية بحلول نهاية مارس 2024، وهو شرط ملزم، ونتيجة لذلك مدد صندوق النقد الدولي الموعد النهائي حتى نهاية نوفمبر 2024، وبدلاً من إصدار تعديل خاص بالجهاز، أرادت الحكومة دمج هذا الشرط في قانون “المركزي للمحاسبات” الذي يتم دراسة تعديله بدلاً من إصدار مرسوم خاص به.

كانت خطة إعادة رسملة البنك المركزي (موارد البنك التي تؤهله لتمويل عملياته وضمان قدرته على تنفيذ سياساته النقدية بشكل فعال) من النقاط التي مدد صندوق النقد الدولي موعدها النهائي حتى نهاية أغسطس 2024، وطلب البنك المزيد من الوقت لوضع تخطيط استراتيجي فعال لإعادة رسملته.

ووفق القوائم المالية للمركزي، فإنه حقق أرباحًا بأكثر من 7 مليارات جنيه من استثماراته في عدد من الشركات، ارتفاعًا من 2.99 ملياري جنيه فقط خلال العام المالي 2022 -2023، وتعتبر هذه هي المرة الأولى التي يحقق فيها المركزي ربحية منذ 7 سنوات.

وعدّل صندوق النقد الدولي التنفيذ ربع السنوي لآلية أسعار الوقود لمصر، واستبدلها بالتزام ثابت بالوصول بأسعار الوقود إلى مستويات استرداد التكلفة الحقيقية بحلول ديسمبر 2025، لكنه لم يعيد تحديد الموعد النهائي لتنفيذ خطة خفض مطالبات البنك المركزي على هيئات القطاع العام باستثناء وزارة المالية.

والتزمت السلطات المصرية بالفعل بخفض هذه المطالبات بمقدار 150 مليار جنيه بحلول نهاية يوليو 2024، مع خفض إضافي قدره 100 مليار جنيه كل سنة مالية، حتى تصل المطالبات إلى الصفر، وعلاوة على ذلك، لم يحدد الصندوق الموعد النهائي لإعداد خطة لمعالجة متأخرات الهيئة المصرية العامة للبترول، حيث حددت السلطات استراتيجية لسدادها.

من بين النقاط أيضًا، طلب صندوق النقد الدولي التخارج من المزيد من شركاتها المملوكة للدولة، ومن الناحية النظرية، كان من المفترض أن يؤدي إعادة تقييم الجنيه إلى تسريع  خطة التخارج، لكن مسئولي الصندوق يرون أن هناك تباطؤا  في هذا المجال.

 تجري مجموعة “إنتيسا سان باولو” البنكية الإيطالية مناقشات متقدمة لشراء حصة 20٪ المتبقية من بنك الإسكندرية؛ لتصبح حصة المجموعة 100%، كما توجد تحركات حكومية، فيما يتعلق بطرح محطات سيمنز للطاقة، ومنح القطاع الخاص حق إدارة عدة مطارات.

العبء الإضافي على الطبقة المتوسطة

وقالت الدكتورة عالية المهدي، أستاذة الاقتصاد وعميدة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية السابقة بجامعة القاهرة، لصحيفة ذا ناشيونال، إنها كانت تتوقع موافقة مديرة الصندوق على تخفيف بعض تخفيضات الدعم على الكهرباء والوقود بعد أربع زيادات هذا العام على الوقود، إذ أن أي زيادات أخرى غير مستحبة للاستقرار الاجتماعي في البلاد، لكن من المحير، أن جورجيفا لا تأخذ هذا في الاعتبار.

خلال زيارة مديرة صندوق النقد الأحد الماضي وقبل بدء المراجعة الرابعة، تم الكشف عن زيادة أسعار الغاز المنزلي التي تم تطبيقها في سبتمبر، وبدأت تظهر في فواتير الاستهلاك الجديدة، بزيادة تتراوح بين 40 و100 قرش للمتر المكعب.

رغم توقع الصندوق تراجع التضخم لـ 16% بيونيو المقبل، إلا أنه يريد تطبيق قرارات بتقليص الإعفاءات الضريبية على بعض السلع المستثناة من ضريبة القيمة المضافة، ويرى أن الجنيه لا يزال أقوى من قيمته الحقيقية، رغم ارتفاع سعر الدولار منذ زيارة مديرة صندوق النقد لمستوى 49.20 جنيها للبيع.

مؤسسة لا تستهدف خدمة التنمية

في البيانات واللقاءات الصحفية، يقول الصندوق، إنه يعمل على تحقيق النمو والرخاء على أساس مستدام لكل بلدانه الأعضاء البالغ عددها 191 بلدا عضوا، بجانب ضمان الاستقرار المالي، وتيسير حركة التجارة الدولية، وتشجيع زيادة فرص العمل والنمو الاقتصادي.

لكن الدكتور محمود محيي الدين، الذي ظل حتى وقت قريب المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، يقول إن الصندوق مختلف عن البنك الدولي؛ فالأخير يمول مشروعات تنموية، وقد يعرض هو تمويلها، لكن الصندوق مثل غرفة الطوارئ بالمستشفى لا يأتي، إلا إذا لجأت إليه، وهو ليس من أولوياته خدمة التنمية، لكن من المفترض ألا يعطلها.

وفقًا للمدير التنفيذي السابق بصندوق النقد الدولي، فإن دور تلك المؤسسة التمويلية في قرض “إنعاشي” لإصلاح الاختلالات المؤقتة في ميزانية الدولة أو ميزان المدفوعات، أو في أسواق النقد الأجنبي، أي أزمة منها، ستجد الصندوق حاضرًا.

من الأقوى؟

لكن أيمن إسماعيل، خبير استثمار ومصرفي متخصص في عمليات الدمج، يبدي استغرابه حاليا من انتقاد الصندوق رغم الموافقة على شروطه من البداية، مضيفا أن تنفيذها خلال الفترة الحالية ضروري في ظل الالتزامات المتزايدة معه.

يضيف أن الصندوق كان يسعى لحرية سعر الصرف، وطلب من الحكومة خفض قيمة الدولار في البنوك إلى ما بين ٤٣ و٤٦ جنيهًا، لكن وزارة المالية والبنك المركزي كانت لديهما مخاوف من حدوث تحقيق أرباح عملة سريعة للمستثمرين الأجانب في الأموال الساخنة، ما يدفعهم إلى سحب أموالهم لجني الأرباح، وهذا أمر جيد ومن قواعد إدارة سلة العملات الجيدة.