كان احتلال بغداد في إبريل (2003) حدثا مزلزلا في حسابات القوة، كل شيء اختلف والأطراف الإقليمية كلها بدأت في إعادة ترتيب أوراقها حول سؤال، ما قد يحدث في اليوم التالي؟
بعد أقل من شهر على الحادث المزلزل، طرأ موعد بغير ترتيب مسبق مع أمين عام “حزب الله” “حسن نصر الله”.
كانت تلك فكرة “نواف الموسوي” أمين العلاقات العربية والدولية في “حزب الله” أثناء اجتماع طارئ للمؤتمر القومي العربي، انعقد في بيروت للبحث في تداعيات احتلال العراق، حضر “نصر الله” افتتاحه وتحدث فيه.
عند مدخل الفندق، الذي كان يعقد فيه المؤتمر بشارع “الحمراء”، أخذتنا سيارة، كأنها تخطفنا.
تصرف السائق في حدود مهمته، لكنه عندما أخذ يتحدث، بدا على إلمام، بما كان يجري في المؤتمر من مناقشات، وبما يجري في الإقليم من تفاعلات.
بجواره كان هناك مدفع كلاشينكوف على الجانب الأيمن من المقعد الأمامي.
لم يكن من الصعب استنتاج أنه كادر عسكري وسياسي مدرب، وليس محض سائق يؤدي وظيفته.
تابعت سيارات أخرى حركة السيارة التي أقلتنا إلى مكان مجهول للقاء قائد المقاومة، حتى لا يكون هناك من يحاول الوصول إليه والنيل من حياته.
استلهم “نصر الله” أسلوب الزعيم الفلسطيني الراحل “ياسر عرفات” أثناء مرحلته البيروتية في التخفي وتغيير أماكن الاجتماعات والمبيت من يوم لآخر.
وصلت السيارة إلى الضاحية الجنوبية، ثم شقت طريقها إلى حارة حريك، قلعة “حزب الله”، التي تدخل فيما يسمى المربع الأمني، قبل أن تدلف من بوابة حديدية كبيرة، لما يمكن أن نسميه بشيء من التجاوز تجمعا سكنيا.
كان هناك أطفال في حدود سن العاشرة من العمر يلعبون كرة قدم.
لا شيء في المكان، يدل على أنه متميز، أو أن قائد المقاومة يقيم في إحدى مبانيه المتواضعة.
عند مدخل المبنى، أمام مصعد متهالك، استقبلنا أحد كوادر الحزب، أبلغ الحرس الخاص في الدور الثالث، بأن الضيوف قد وصلوا.
لم تمنع هذه الاحتياطات الأمنية المشددة في بداية الحرب الحالية على لبنان من الوصول إليه قصفا بأطنان من القنابل الثقيلة الخارقة للحصون، أثناء اجتماع لقادة الحزب في طابق تحت الأرض بمعلومات استخبارية دقيقة، توفرت على الغالب من اختراقات أمنية.
في أوقات مقاربة، جرى الوصول إلى أغلب قيادات الصف الأول، وطرح السؤال نفسه، إذا كان الحزب قد تقوض إلى الأبد؟
استعاد الحزب عافيته في الميدان بوقت قياسي، وألحق بالجيش الإسرائيلي خسائر باهظة في الأرواح والمعدات، وأثبت قدرة الجنوب مجددا على الصمود.
تمكنت مسيراته وصواريخه من ألحاق أضرار فادحة بمواقع ومصانع عسكرية في الداخل الإسرائيلي، واضطر نحو مليونين للحياة أغلب الوقت في الملاجئ.
لم يكن صمود الجنوب محض صدفة، ولا إيلام إسرائيل قرار لحظة.
أنه التخطيط المحكم لمواجهة كافة الاحتمالات.
ربما يساعد ما جرى من حوار مع “نصر الله” قبل إحدى وعشرين عاما على كشف طريقة تفكيره، وأخذ نفسه بالجدية الكاملة لأي مواجهات محتملة.
في ذلك اللقاء المطول، تطرق إلى ثلاث قضايا مقلقة، وأبدى ملاحظاته عليها.
الأولى، تتعلق مباشرة باحتلال العراق والموقف منه.
كانت تلك معضلة سياسية وأخلاقية..
من حيث هو شيعي بالتكوين، وحليف لإيران بالطبيعة، كان هناك شحن طائفي في لبنان، وداخل “حزب الله” نفسه، ضد نظام “صدام حسين”.
ومن حيث هو قائد مقاومة، لم يكن بوسعه أن يغفل حقيقة، ما حدث في العراق من احتلال عسكري، ينذر بتحطيم مقومات وجوده وتفكيكه مذهبيا وعرقيا.
في مقاربته للمأزق، الذي وجد نفسه فيه إثر احتلال العراق، قال “نصر الله”: انتظروا قليلا، فهناك أوضاع وتعقيدات إنسانية وسياسية، يصعب تجاوزها”.
حاول أن يشرح تعقيدات الموقف الشيعي في العراق، وبطبيعة الحال ممتدا إلى لبنان، برواية ما استمع إليه عقب الغزو مباشرة من مرجع شيعي كبير في العراق، اتصل بصديق مباركا ومهنئا بسقوط “صدام حسين” واختفائه، قبل التوصل إليه وإعدامه بعد محاكمة صورية أشرف عليها الاحتلال.
رفض الصديق تلك المباركة والتهنئة: “لن أصدق، أننا تخلصنا منه حتى أرى جثته، ثم أجلس على قبره ثلاثة أيام، كاملة حتى أطمئن أنه لن يعود”!
أبدى “نصر الله” خشيته؛ من أن تؤدي المبالغات في الثأر السياسي إلى غياب أية رؤية حقيقية، لما سوف يجري في المنطقة من مخاطر وتحديات.
كانت ملاحظته الثانية، ثبت أنه مصيب فيها، أن احتلال بغداد ووجود القوات العسكرية الأمريكية بصورة مباشرة في المشرق العربي، سوف يؤدي إلى تبني خطط عسكرية جديدة ضد لبنان والمقاومة فيه.
مالت حساباته في ذلك الوقت، إلى أن الولايات المتحدة يمكن أن تقوم بنفسها بتلك العمليات العسكرية ضد “حزب الله” مستفيدة من وجودها العسكري في المنطقة، أو يحتمل أن تسند المهمة إلى إسرائيل.
قال: “لا أعد بالنصر، لكننا سوف نقاوم، قد نهزم، لكننا سوف نلحق بهم خسائر باهظة”.
كانت تلك تقديرات واقعية لحدود قوة حزب الله.
هكذا بدأ يأخذ حيطته، ويستكمل استعداده لأية مواجهات عسكرية منتظرة في الأسابيع الأولى بعد احتلال العراق.
هناك من يعتقد أن الاستعداد قد بدأ بعد تحرير الجنوب عام (2000)، قد تكون بالفعل جرت بعض الاستعدادات لكن– باليقين– فإن رفع مستويات التسليح والتدريب والتجنيد بدأ بعد غزو العراق مباشرة باعتقاد سياسي واستراتيجي، أن الحرب مقبلة لا محالة.
عندما بدأت عمليات القتال عام (2006)، وعد مقاتليه ومواطنيه بالنصر، وهو ما لم يكن متأكدا منه قبل ثلاث سنوات في لقاء “حارة حريك”.
وكانت الملاحظة الثالثة لـ “حسن نصر الله”، تتعلق بمصر ودورها في المنطقة.
أخذ يروي أن سبعة من سفراء الاتحاد الأوروبي في بيروت، طلبوا لقاء عاجلا معه أثناء مظاهرات الغضب، التي عمت شوارع القاهرة مع بداية الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي اشتهرت بانتفاضة “محمد الدرة”.
بدا الأمر محيرا، حتى اكتشف– بحس سياسي وإعلامي وأمني، اكتسبه من خبرة قيادة “حزب الله”– بحسب تعبيره الحرفي، أن السؤال عن مصر ومستقبل نظامها السياسي، فيما لو تصاعدت موجات الاحتجاجات الشعبية، هو نقطة التقاطع في ركام أسئلة تلقاها من السفراء الأوروبيين.
هكذا استلفت نظره الدور المحوري، الذي تلعبه مصر في الصراع على المنطقة، سلبا أو إيجابا.
كانت معضلة “نصر الله” دوما: كيف يحظى كحركة مقاومة على أوسع دعم شعبي لبناني وعربي في حرب تكسير العظام مع آلة الحرب الإسرائيلية، دون أن يقع في مصيدة التكوين السياسي الطائفي لحزبه داخلا في المناكفات اللبنانية؟
في ملاحظته لأهمية الدور المصري لم يتوقع– يومها– أن يضفي نظام الحكم غطاء عربيا على العدوان الذي كان ينتظره، وبدأ في الاستعداد لمواجهته.
ربما توقع– دون أن يصرح– أن أقصى ما قد تفعله الدول العربية إصدار بيانات شجب وإدانة.
الوقائع خالفت التوقعات مع بدء العمليات العسكرية الإسرائيلية، حيث أدانت مصر ودول عربية أخرى، ما أسمته “مغامرة حزب الله”، قبل أن تنقلب الطاولة على إسرائيل، بما لم تكن تتوقعه.
يمكن الآن الاستنتاج بدرجة عالية من الثقة، أنه استخدم المنهج نفسه في التفكير والحيطة نفسها في الاستعداد؛ انتظارا لمواجهة مقبلة لا محالة مع الجيش الإسرائيلي.
هذا ما حدث بالضبط في حرب الاستنزاف الجارية الآن.
إنها معركة “نصر الله” الأخيرة.