عاد ترامب إلى السلطة مرة أخرى، ليحكم أكبر دولة في العالم أربع سنوات جديدة، بعد أن قضى السنوات الأربع الماضية في المحاكم، وأدين في جرائم احتيال وفساد، لم تحل دون ترشحه، ثم فوزه في الانتخابات، وهي خصوصية للنموذج الديمقراطي الأمريكي غير متكررة في كثير من دول العالم.

فاز ترامب مستغلا الضعف النسبي لمنافسته ومستثمرا لأقصى درجة في توجهات الاتجاه المحافظ الذي لا يفضل ذوي الأصول العرقية “غير البيضاء”، ولا يحب أن تحكمه امرأة، ويكره المهاجرين، حتى لو حملوا الجنسية الأمريكية.

أما توجهات الرجل أو ما يفترض إنه ينوي تقديمه لبلده، فشملت وعود بازدهار اقتصادي و”عودة أمريكا العظمي” وتخفيض الضرائب، أما سياساته في الشرق الأوسط، فقد نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلي القدس، وقال إن مساحة إسرائيل محدودة، ويجب أن تتسع أكثر في موافقه ضمنية على احتلال الضفة الغربية وغزة، بما يعني العودة إلى مشروع تهجير الفلسطينيين إلى الأردن وسيناء.

والسؤال الذي سيطرح هل ستختلف الطبعة الجديدة من ترامب عن الطبعة التي سبق وحكمت من قبل؟ الحقيقة أن هناك بعض المؤشرات في أداء حملته الانتخابية، تقول إنه أصبح أكثر انضباطا وإيمانا بالعمل المؤسسي مقارنة بالأداء العشوائي الذي ميز سنوات حكمه الأربع، فقد خسر ترامب جانب من حلفائه، وهاجم بشدة كثيرا من المسئولين الذين عملوا معه، ودخل في صراع مع بعض أركان فريقه الرئاسي ووزراء في حكومته، والعديد من المسئولين الكبار، وقطاعات من مؤسسات الدولة، وخاصة القضاء والمخابرات والخارجية وغيرهم، كما سبق أن شتم المدير السابق لمكتب التحقيقات الفيدرالية ووزير العدل السابق الذي عينه، لأنهم جميعا أداروا مؤسساتهم وفق قواعد وتقاليد مهنية كرهها ترامب.

تجربة ترامب في الحكم تقول، إنه حاول تطويع المؤسسات لصالح أهوائه وتقلباته وفشل، والمؤشرات هذه المرة تقول، إنه تغير قليلا، واكتشف إنه مضطر، أن يحترم قواعد عمل هذه المؤسسات المهنية، ولا يُدخلها في معاركه الشخصية والسياسية.

تعامل ترامب أثناء انتخابات 2016، على أنه رجل مخلص قادم من خارج المشهد السياسي ومن خارج المؤسسات الحاكمة؛ لينقذ البلاد من سيطرة النخب والمؤسسات، من إعلام وقضاء وإدارة، أما في هذه الانتخابات، فقد تخلى تقريبا عن هذا الوهم، واستثمر في أخطاء إدارة بايدن وفي ضعف منافسته وقدم نفسه، باعتباره “رجل شعبي” يقود عربة قمامة، ويعمل في محل ماكدونالد، وليس رجل النخبة.

والحقيقة، أن أحد أهم دروس حكمه السابق تكمن في قوة المؤسسات الأمريكية، ونجاحها في تصويب كثير من تصرفاته الهوجاء، ووقفت أمام قراراته الفجائية وأسلوبه وطريقته الخاصة في الحكم والإدارة، وساعدت على إعادة تشكيل خطاب التطرف الذي تبناه ترامب تجاه المهاجرين، وتجاه خصومة السياسيين وكل من يكرههم على المستوى الشخصي، وتحوله إلى “شطط مقبول”، يمكن استيعابه داخل عقلانية المؤسسات الأمريكية.

الجميع يتذكر موقف القضاء الأمريكي الرافض لقرار ترامب بمنع مهاجري 7 دول “إسلامية” من دخول أمريكا، وهو ما دفعه إلى تعديل القرار، وسمح بدخول حاملي بطاقات الإقامة الدائمة من البلدان السبعة لأمريكا بعد مراجعة سفارات الولايات المتحدة في بلادهم؛ لإضافة إجراء أمني جديد، وأجبر على أن يقول، إن “الحظر لا يستهدف المسلمين ولا يتعلق بأي ديانة، إنما هو إجراء احترازي لحماية أمن وحدود البلاد”.

إن تهديد ترامب لمعارضيه وكراهيته للإعلام ومنع بعض القنوات التلفزيونية من دخول البيت الأبيض، لم يحل دون قيام المعارضين بنقده وإصدار كتب، تهاجمه وتتهمه اتهامات لا حصر لها، وإن CNN التي منع مراسلها من دخول البيت الأبيض انطلقت في دنيا الله الواسعة، تهاجم توجهات ترامب بمهنية وتأثير كبير.

ميول ترامب وتوجهاته ونزقه الشخصي لا يختلف كثيرا عن توجهات الزعماء المستبدين في العالم العربي، وهو ما يعني أن نفسية الاستبداد وتركيبة المستبدين لا تخص مجتمعا وثقافة بعينها دون أخرى، إنما هي “آفة بشرية” والفارق الرئيس، أن في البلاد المتقدمة هناك مؤسسات راسخة وقويه قادرة، على أن تقف في وجه هؤلاء الحكام، وتعدل وتهذب من تطرفهم، في حين أن في مجتمعات أخرى، نجد أن الزعماء هم الذين يطوعون المؤسسات لصالح ميولهم الشخصية، ويقضون على مهنيتها وحيادها، وتتحول إلى جهاز تابع للحاكم.

عودة ترامب تقول، إنه على الأرجح وعى الدرس هذه المرة، وإنه ولو مضطرا، سيكون أكثر احتراما لحياد ومهنية المؤسسات القائمة ولن يسعى إلى تطويعها لحسابه الخاص كما حاول وفشل في سنوات حكمه السابقة.

عودة ترامب أكدت أن أمريكا العميقة لا زالت محافظة وبيضاء، وإنها لكي تنتخب رئيسا من أصول عرقية غير بيضاء؛ فيجب أن يكون رجلا، ويمتلك كاريزما “باراك أوباما” وقوه خطابه وقدرته على الإنجاز، وجذب جانب من القوى المحافظة لصالح توجهاته؛ ليعاد انتخابه بسلاسة مرة أخرى، أما أن تكون امرأة ومن أقلية عرقية “غير بيضاء”، ودفعت بها الصدفة أن تكون مرشحة لانتخابات الرئاسة، فإن هذا يجعل مهمتها في الفوز شبه مستحيلة.

عودة ترامب تمثل عودة جديدة للخطاب اليميني الشعبوي ولنظريات المؤامرة ولكراهية الشعوب “غير البيضاء” وإلى خلط التجارة بالسياسة، وتكريس جملة “ادفع تأخذ”، كما سيشهد العالم توترات جديدة، وخاصة فيما يتعلق بالشرق الأوسط، وربما نشهد تصعيدا أمريكا إسرائيليا ضد إيران، قد يفجر حربا شاملة، وسنشهد محاولات حقيقية لتهجير، ولو جانب من الشعب الفلسطيني حتى تتوسع إسرائيل، كما قال ترامب، وأخيرا فإن الفرصة الوحيدة لتسوية سلمية فستكون خارج الشرق الأوسط وفي قلب أوروبا، وهي إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية بضغوط على أوكرانيا المتراجعة عسكريا.