لا زالت السياسة الإثيوبية القائمة على المراوغة، تلعب بمصر ومقدراتها. مياه النيل، لا يوجد أعظم منها، هي الأمن القومي بعينه، هي الأهم وسط كل ما يهدد الأمن القومي المصري، سواء من المستعمرين الصهاينة أو الإرهاب والعنف، أو من غيرهم.

واحد من أبرز ما أتت به الأنباء مؤخرا، كان تصريح لوزير الري المصري الحالي د. هاني سويلم، خلال ملتقى التحالف العالمي لشركات مشغلي المياه التابع لبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية، بأن مصر التي تعاني من شح المياه، ناهز العجز بها 50% من حاجات مصر الفعلية. وهذا العجز ربما–وفقا لتصريح الوزير- يشكل تحديا كبيرا، يواجه قطاع المياه في البلاد، وهو ناتج عن ندرة المياه وتغير المناخ، وهي أسباب لا زالت قائمة وعلى الأرجح ستستمر، لكون مصر من أكثر بلدان العالم جفافا وندرة في سقوط الأمطار.

أبرز ما حدث في الأسابيع القليلة الماضية، دخول اتفاقية عنتيبي حيز التنفيذ، بعد توقيع سادس دولة من دول الحوض عليها في يوليو 2024. وتعد تلك الاتفاقية هي أول محاولة لوضع إطار مؤسسي لدول حوض النيل، اتساقا مع الاتفاق الإطاري للأمم المتحدة لاستخدام المجاري المائية الدولية في غير أغراض الملاحة لعام 1997. فجمهورية جنوب السودان التي قمنا في السنوات القليلة الماضية بالاستجابة لعديد مطالبها التنموية من مصر، حيث كانت مصر تستجيب لاحتياجاتها، سعيا لجذبها إلى جانب الموقف المصري، وقعت مؤخرا على تلك الاتفاقية، وانضمت عمليا لإثيوبيا في موقفها من السد الإثيوبي، بعد أن حسمت أمرها بعد قيام إثيوبيا بتوقيع عديد الاتفاقات معها بشأن الطرق البرية وتصدير النفط من جنوب السودان. ما سبق بشأن دخول تلك الاتفاقية حيز التنفيذ، ينهي الحقوق التاريخية المكتسبة لمصر في مياه النيل، ويعيد تقاسم المياه، وكل ذلك يؤكد الهيمنة الإثيوبية على دول الحوض، ويجعل للمفوضية الجديدة الناتجة عن اتفاق عنتيبي المشروعية الدولية بغرض الحصول على تمويل لأية مشروعات تخص دول الحوض، دون شرط موافقة دول المصب.   

من الزاوية المقابلة نقرأ يوميا، ومنذ بضعة سنوات، عديد التصريحات من خبراء مياه النيل، أن السد سينهار غدا، وأن أثيوبيا لن تتحمل الزلازل والشروخ في الأخدود الإفريقي، وأن بعض تربينات السد لا تعمل، وأن هناك مشكلات كبيرة في تمويل إنشاء السد، وغيرها من التصريحات التي أثبت الواقع، أنها لا تغني ولا تسمن. تصريحات للتسكين، نعزي بها أنفسنا، ونبتلع بها الغيظ من إثيوبيا، ونشمت بها عن شيء لم يحدث، وربما لن يحدث قريبا، ونواسي بها أنفسنا على ما فعلته بنا ورضينا به غير مضطرين.

يقال إن مصر رضت بما قسمته إثيوبيا لها، وهي غير مضطرة لذلك، لأنها في يوم من الأيام وتحديدًا قبل صيف عام 2020، أي قبل الملء الأول للسد، كانت مصر قادرة على ضرب السد، وكانت الفرصة كبيرة للغاية، وكان المناخ الدولي متاح لذلك، حتى أن الرئيس الأمريكي وقتئذ (المنتخب حاليا) دونالد ترامب، أقر بصحة موقف مصر لو فعلت ذلك. يومها قلنا إن الأمريكيين يريدون توريط مصر، وقبلها أقسمنا على آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا أنه لن يُعطش مصر. حنث آبي أحمد بقسمه الذي اضطر إليه، وكان الجميع يعلم أنه سيحنث، وأنه لا شيء في السياسة سوى المصالح، فلا أقسام ولا أيمان ولا وعود.

ضيعنا الفرصة تلو الفرصة، وأخذنا الرجل إلى ملعبه، وحتى الأجهزة الأمنية التي كان كل همها تاريخيا مياه النيل وإسرائيل، انشغلت وقتئذ بالشأن الداخلي. مبارك من محبسه نسب إليه حديث مهم، بأن السد الإثيوبي لو شرع في بنائه في عهده لقصفه بدون تردد، أما نحن فانتظرنا جولة المفاوضات تلو الأخرى، واستجبنا للمماطلات، وارتحنا مؤخرا، بأن نصف السد بأنه ليس سد النهضة، بلا السد الإثيوبي!! تلكؤ يتلوه تلكؤ حتى أعلن رئيس وزراء إثيوبيا في 31 أكتوبر الماضي، أن السد اكتمل بناؤه بنسبة 100%.

اليوم انتهى الملء الخامس للسد، وحجزت أثيوبيا 62,5 مليار متر مكعب من المياه، وبدأ التشغيل التجاري للسد بتوليد الكهرباء، وأصبحت مصر أمام سياسة الأمر الواقع. لا شيء يبدو في الأفق اليوم صحيح، أن مصر أرسلت عتادا وجندا إلى الصومال، في محاولة لمنع دخول اتفاق أرض الصومال وإثيوبيا حيز التنفيذ، بأن يكون لإثيوبيا موطئ قدم على ساحل البحر الأحمر، إلا أن المواجهة بين الطرفين التي لم تحسم على أرض السد الإثيوبي نفسه، ربما تنجح أو تفشل على أرض الصومال.

البعض يرى، أن هناك فرصة جديدة أمام القاهرة لبدء التعامل الخشن والمضمون هذه المرة فوق أرض إثيوبيا، وذلك عندما تشرع الأخيرة في بناء ثلاثة سدود جديدة في كاردوبي وميندايا وبيكوابو؛ لتخفيف الضغط على سد النهضة، وهي سدود تقول إثيوبيا إنها ستحجز بموجبها 11 مليار متر مكعب إضافية من المياه.

مصر قد تكون مضطرة هذه المرة لتعي دروس الماضي، فهي أنفقت مليارات الدولارات على مشروعات ترشيد المياه وحجز مياه السيول والأمطار، وتنقية وتدوير المياه، وكذلك تأسيس محطات التحلية وحفر الآبار وتبطين الترع وإحلال منظومة الري الحالية بمنظومة حديثة، وتعديل التركيب المحصولي للأراض الزراعية المصرية. ويقدر البعض تكلفة حجز أثيوبيا مليار متر مكعب من المياه بـ 10 مليارات جنيه مصري. هنا من المفيد التأكيد، أن ناتج ما فعلته مصر هو زيادة التوسع بشكل كبير في معالجة وإعادة استخدام المياه، مما أضاف حوالي ٢١ مليار متر مكعب من الموارد المائية غير التقليدية إلى الميزان المائي في مصر، ومن المتوقع– حسب وزير الري المصري الحالي- زيادة هذا الرقم إلى ٢٦ مليار متر مكعب في غضون عامين، خاصة مع سعي الحكومة لتبني التكنولوجيا الحديثة والذكاء الاصطناعي، وحوكمة المياه، ودراسة تحلية المياه للإنتاج الكثيف للغذاء تحت مظلة الجيل الثاني لمنظومة الري.

نتغنى دائما، بأن نظامنا السياسي لم يورط البلاد في حرب خارجية طوال العقود الثلاثة الأخيرة ونيف (منذ حرب الخليج 1991)، لا شك أن هذا الأمر جيد. لكن المأساة الحقيقية والأكبر، أن نستمرأ ذلك، ونحن على حافة العطش المائي، فنترك هذا البلد يتحكم في مقدرات النيل، دون أن يعي أن هناك حساب أليم وموجع. لدينا اليوم بعد أن سأمنا مفاوضات، لا تنتهي إلا بسياسة الأمر الواقع، الملعب الصومالي لمنع أي موطئ قدم لإثيوبيا على البحر الأحمر، والملعب الإثيوبي بضرب أي سد جديد، قبل أن يشرع الإثيوبيين في البناء ونبكي على فرصة أخرى عقب ملئه.