بدأت لجنة القوى العاملة بمجلس النواب في مناقشة مشروع قانون العمل الجديد، وذلك بالتوازي مع مناقشة اللجنة العامة لقانون الإجراءات الجنائية الجديد، وكأن هذا المجلس بتشكيله يريد أن يختم دورته التشريعية الأخيرة بإصدار هذين القانونين، على الرغم من أهميتهما المجتمعية، وعلى الرغم من الكثير من التحفظات، وأوجه النقد والملاحظات التي أبديت عليهما، وهذا ما كان واضحاً حاليا بخصوص قانون الإجراءات الجنائية، وقد كان أيضا ملحوظاً، وقت أن تم عرض مشروع قانون العمل من عامين.
وإذ لا شك في كون النظم القانونية المحترمة، يجب أن تستمد وجودها من منطلق الاحتياج المجتمعي لتنظيم أمر من أموره تشريعياً، إذ أن عملية الضبط الاجتماعي وتنظيم الحريات والمصالح عبر وجود قواعد وأحكام، هو ما أطلق عليه اسم القانون، ويجب ألا تخرج الغاية العليا للتنظيم القانوني أو القواعد القانونية عن تنظيم أوجه النشاطات المجتمعية، وفك الاشتباك بين أوجه السلوك الإنساني، وبمعنى أكثر نضجا، لا يتواجد القانون، إلا إذا تواجدت الحاجة المجتمعية إليه، إذ لا حاجة ولا قيمة حقيقية للنصوص القانونية، إذا ما خرجت عن احتياجات المجتمع، أو إذا ما تجاوزت في تنظيمها لأمر من الأمور لمعنى الاحتياج المجتمعي، فخرجت بذلك عن مضمون الحماية المقررة بالقانون، إلى الميل أو التجاوز عن الهدف الأساسي للقاعدة القانونية.
وفي الأصل، يجب أن تتجه القواعد القانونية، بما تستحدثه من تشريعات ذات المنحى الاجتماعي أو الاقتصادي إلى حماية الشرائح المجتمعية المختلفة، ويجب حين تنظيم الهيئة التشريعية لقواعد قانونية ذات بعد اجتماعي، أو تتماهى مع الاحتياجات الاقتصادية للجماعة، فإنه ولا بد، وأن تتجه هذه التشريعات لحماية الطبقة الأقل حماية، أو تسعى بما تنظمه من قواعد قانونية مستحدثة إلى حماية المكتسبات المجتمعية على أقل تقدير، إن لم تكن تزيد عليها.
ولما كان مجلس النواب بدأ المناقشة الداخلية في مشروع قانون العمل الجديد، فإنه جدير بالذكر، أن الاهتمام بمسألة الصياغة القانونية ليس مجرد اعتناء بالجانب الشكلي والإجرائي، إنما الهدف منه هو الوصول إلى تطبيق دولة القانون والحكم الراشد من خلال سن تشريع جيد ومتطور، في منتهى الوضوح والدقة في الصياغة، منسجما مع الدستور وغير متعارض مع القوانين الأخرى، مفهوم عند عامة الناس وقابل للتطبيق، وتعد نوعية الصياغة التشريعية مكونا هاما من مكونات الإدارة الرشيدة؛ لما لها من أثر على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للبلاد. وتعد الهيئة التشريعية في حاجة إلى استحضار بعض المعطيات وتفعيلها معا، لتحديد أهداف وملامح التشريع المرجو، ثم لصياغته بالطريقة الملائمة، وربما يراه البعض أمرا تنظيريا أكثر من اللازم، لكنه في الحقيقة تجسيد لمنطق بسيط، وهو العقلانية والنظرة الشمولية في التعامل مع قضايا الصياغة التشريعية، وقد اعتاد عليه النواب ومارسته البرلمانات طويلا، حيث كلما كانت ممارسة هذا النهج مستقرة وعامة، كانت جودة التشريعات أعلى وتوافقها مع مبادئ الديموقراطية والحكم الجيد، إذ أن النظر إلى التجارب السابقة والمجاورة لمجال التشريع من المعطيات التي يجب أن تكون حاضرة دوما، كما يجب أن لا يغيب عن ذهن المشرع الهدف المرجو من التشريع محل التعاطي، بحيث أن يتم صياغة نصوصه، بما يسعى لتحقيق آمال المخاطبين بأحكام هذا التشريع. كما أن حوكمة التشريعات والقوانين تعني وجود مختصين، توكل إليهم مهمة تقييم ودراسة وبحث فكرة إصدار التشريع أو القانون منذ البداية، أو مراجعة ما سبق إقراره منذ عقود من خلال قنوات ومسارات قانونية وفنية، تضمن توافر الحداثة في التشريع والقانون والجودة في الصياغة والتطبيق، مسارات تتضمن إعداد دراسات اجتماعية للآثار الاجتماعية والاقتصادية والقانونية والقضائية لتطبيق مضامين القانون أو التشريع على المجتمع او الدولة، وأيضاً دراسات تضمن أن التشريع أو القانون المطلوب يحقق متطلبات خطط التنمية، ودراسات أخرى لتقييم التشريعات والقوانين السابقة المماثلة، أو الاستفادة من التشريعات والقوانين الأجنبية، بما يتلاءم مع النظام القانوني.
وذلك بحسب أن قانون العمل يشكل أحد أهم القوانين الاجتماعية، بحسب أن العمل أول مفردات الحياة، ومن المفترض أن يهتم قانون العمل الجديد بتوفير العديد من الحقوق التي يحتاج لها العامل، والتي لم تكن متوفرة في القانون القديم، والذي يخلق بيئة وظيفية جاذبة للقطاع الخاص الذي ظل طاردًا لموظفيه خلال الفترات السابقة، ووفر قانون العمل الجديد العديد من المزايا، ما جعل العديد من العاملين بالقطاع الخاص، ينتظرون صدور مشروع قانون العمل الجديد، ولكون مشروع قانون العمل، ما هو إلا تشريعاً اجتماعياً، يمس حياة الملايين من العمال المصريين، وينظم العلاقة بين أطراف اجتماعية تتباين مواقعها ومصالحها.. فإنه من الطبيعي أن يكون محط اهتمام كبير، وأن يحظى بنصيب وافر من الجدل الاجتماعي.. ومن اللازم أن يدور بشأنه حوار مجتمعي حي وحقيقي، يتسع لكافة الأطراف الاجتماعية، وتُتاح المشاركة فيه لجميع المخاطبين بأحكامه من خلال آليات فاعلة ديموقراطية، تكفل تمثيل فئاتهم وقطاعاتهم المتنوعة وتعبيرهم عن مصالحهم ومواقفهم، دون إقصاء أو استبعاد لأحد، كما أنه من الأمور واجبة الذكر في هذا الصدد، أن العلاقات العمالية تمثل أهم أسباب الثورات والاحتجاجات على مدار التاريخ، وذلك في حالة غلبة الجهة الإدارية أو أصحاب رؤوس الأموال على حقوق العاملين، وقد شهدنا في مصر الاحتجاجات العمالية في مدينة المحلة في 6 إبريل سنة 2006، والتي شكلت التمهيد المباشر لثورة الخامس والعشرين من يناير سنة 2011 .
لذلك، ومن هنا وجب أن تكون فلسفة مشروع القانون متوجهة بشكل أساسي إلى الاستجابة للحاجات المجتمعية للعمال، والتصدي كذلك للمشكلات التي أفرزها الواقع، أو أفرزتها القوانين السابقة على المشروع الجديد، فنحن بحاجة إلى قانون يتصدى للأزمات والمشكلات التي عانى منها العمال في الحياة الواقعية خلال السنوات الماضية، والتي أفرزها تطبيق القانون السابق والتي كانت سبباً رئيسياً للسعي نحو مشروع القانون الجديد، كما أنه يجب السعي نحو تفعيل نصوص ومبادئ دستور 2014 ، كما يجب السعي نحو الالتزام بالاتفاقيات الدولية التي انضمت إليها مصر بخصوص العمال وحقوقهم، وهي كثيرة العدد، وبها من النصوص ما يصلح أو يكون كافياً حال تطبيقه، أو إدخاله ضمن القوانين الداخلية، بعيداً عن قيمة المعاهدات والاتفاقيات الحقوقية سواء من الناحية الدولية، أو من زاوية قوتها الدستورية أو مدى إلزاميتها. كما أنه لا يمكن بحال من الأحوال تصور أن يصدر قانون العمل في صياغته التي تُناقش حاليا، دونما عرض على اللجان النقابية والنقابات العمالية، وأخذ أوجه الرفض أو القبول منها، وذلك وصولا إلى حالة من التراضي المجتمعي حول هذا القانون صاحب الصبغة المجتمعية، ولا يكون هناك ميل لأصحاب الأعمال، من زاوية جذب الاستثمار، وما على ذلك من أسباب، دون النظر إلى حقوق العمال، بمعنى أن يكون هناك توازن جيد بين الحقوق العمالية والمطالب الرأسمالية.