كان يفترض أن تكون انتخابات الرئاسة- التي جرت في شهر ديسمبر الماضي- بداية لتطبيع الحياة السياسية المصرية، وذلك وفقا لبعض المؤشرات الأولية (أو الإرهاصات) التي سبقت أو لحقت تلك الانتخابات. المقصود بتطبيع الحياة السياسية هنا، هو قبول السلطة ومعها الدولة العميقة لمفهوم التعددية والمشاركة الشعبية شكلا ومضمونا، وليس شكلا فقط، كما كان الحال دائما.
من المفهوم، أن ذلك يقتضي تعديل ما يلزم من القوانين والمواد الدستورية والممارسات المنظمة لحياتنا السياسية.
من هذه القوانين، قانون الانتخابات، لإلغاء نظام القوائم المغلقة، والأخذ بنظام القائمة النسبية، مع أن الأفضل- من وجهة نظري- هو العودة للنظام الفردي، بما أنه يحد من سيطرة تحكم المركز والقيادات العليا في قوائم المرشحين، وبالتالي ينتج برلمانا مدجنا من البداية.
ومن هذه التشريعات أيضا، المادة الدستورية العجيبة التي تحدد حصصا ملزمة لفئات بعينها في انتخابات المحليات، بعد أن ثبت، أنها مستحيلة التطبيق، مما أعاق إجراء الانتخابات المحلية لأكثر من عشر سنوات.
وتتضمن القوانين المطلوب تعديلها لتطبيع الحياة السياسية المصرية كذلك، قانون الأحزاب السياسية، وقانون المطبوعات، و قانون النشر الإلكتروني، وقانون العقوبات، وذلك لإلغاء العقوبات السالبة للحريات في ذلك النوع من المخالفات، وبالتأكيد يأتي تعديل تشريعات الحبس الاحتياطي في مقدمة الشروط اللازمة لحياة سياسية قادرة على إفراز قوى قادرة على حماية الدولة، والمجتمع من فوضى الفراغ السياسي، ومن وصول قوى معادية للدولة المدنية الديموقراطية للسلطة، وكذلك من مشكلات الصراع على هذه السلطة في نهاية كل عهد رئاسي، وبالطبع يفترض أن هذا كله يجري على أساس التداول السلمي للحُكم وفق اختيار الناخبين. لكن تعديل التشريعات لا يكفي وحده لإحداث ذلك التحول النوعي المطلوب في السياسة المصرية، إذ أن الممارسة الواقعية يمكن أن تبطل كل ما تنص عليه القوانين المعدلة، وإذن فمن اللازم أيضا إزالة معوقات عمل النقابات المهنية والعمالية، والكف عن التدخلات الإدارية في العملية الانتخابية، وإلغاء الرقابة غير الرسمية على المجال الإعلامي، وغير ذلك من الممارسات التي تصادر فاعلية النصوص.
نعود إلى المؤشرات التي أوحت بأن انتخابات الرئاسة (في شهر ديسمبر الماضي)، ستكون بداية سياسية جديدة، لنجد أن أولها مبادرة الرئيس السيسي منذ أكثر من عامين بالدعوة إلى حوار وطني بين مختلف القوى السياسية، أي بين السلطة والمعارضة والمستقلين، وقد فهمت هذه المبادرة وقتها، على أنها تمهيد لانتخابات رئاسية تكون محطة بارزة في الطريق نحو تطبيع حياتنا السياسية، لا سيما، وأن الرئيس نفسه طلب أن يكون هدف الحوار هو خلق مساحات مشتركة بين أطرافه، تؤسّس لجمهورية جديدة.
من تلك المؤشرات أيضا، ما تردد على لسان مصادر مقربة من السلطة، من أن الرئيس عبد الفتاح السيسي لا ينوي الترشح مرة أخرى بعد انتهاء فترته الرئاسية الجديدة في عام ٢٠٣٠، ومن ثم، فهو حريص على ضمان ألا تنشأ حالة فراغ سياسي بعده، تهدد الاستقرار، أو تمكن قوى معادية للدولة الوطنية المدنية من القفز على السلطة، وهو ما يتطلب حياة سياسية نشطة وتنافسية، تفرز قوى قادرة على أن تنال ثقة الناخبين، ومؤهلة للحُكم بكفاءة في الوقت نفسه.
ومن المؤشرات كذلك، جريان الحملات الانتخابية للمرشحين المنافسين للرئيس السيسي في أجواء شبه مفتوحة، أو أقل تضييقا، سواء من زاوية الاتصال بالجماهير، أو من ناحية الظهور الإعلامي، وذلك باستثناء العقبات التي واجهها المرشح أحمد طنطاوي في عملية جمع التوكيلات الشعبية اللازمة لقبول أوراق ترشيحه، مما حال دون، إحرازه للنصاب المطلوب من تلك التوكيلات، وبالتالي حرمانه من الترشح، وهي عقبات أكثرها مقصود.
وأما المؤشرات التي ظهرت بعد إجراء الانتخابات وفوز الرئيس السيسي، فإن أبرزها استقبال الرئيس للمرشحين الذين نافسوه، وكان معنى ذلك أن السلطة لم تعد ترى المنافسة الانتخابية عدوانا على حقها المكتسب، أو هذا ما ينبغي أن يكون.
طبعا يصح القول، إن عاما واحدا من فترة رئاسية مدتها ٦سنوات، قد لا يكفي للإجابة على سؤال: هل كانت تلك الانتخابات الرئاسية حقا بداية التحول الديموقراطي الجاد، أم سيبقى الحال على ما هو عليه؟
في رأينا، أن البدايات مقلقة، فمثلا تأخر إعادة تشكيل الحكومة الجديدة، دون أن تعرف الأسباب، وفي النهاية لم يأت التغيير بجديد يذكر.
وجاء مشروع قانون الإجراءات الجنائية المعروض على مجلس النواب حاليا؛ ليزيد من دواعي القلق، لأن بعض مواده تنتقص من حق الدفاع عن المتهمين، والبعض الآخر منها يقيد العمل الإعلامي، أما الجدل الذي ثار بين البرلمان وبين نقابتي المحامين والصحفيين حول تلك المواد، فهو في حد ذاته مجاف تماما لروح الحوار الديموقراطي.
في الوقت نفسه، لم يعالج جذريا بعد ملف الحبس الاحتياطي، لا إجرائيا ولا تشريعيا، واستمر التوسع في هذه الممارسة، كما استمر تجديد الحبس بعد انتهاء المدد المقررة قانونا، وذلك بالتدوير على تهم أخرى، دون محاكمة، مع الاعتراف بأنه أطلق سراح كثير من الحالات.
ولا زال ملف مسجوني الرأي السياسي هو الآخر مفتوحا، دون إنكار، أن عددا معتبرا من قرارات العفو الرئاسي قد صدرت قبيل انتخاب الرئاسة الأخيرة .
ومع أننا نأمل أن تشهد السنوات المقبلة من الفترة الرئاسية الجديدة متسارعة جادة لتحقيق الشروط المذكورة، فيما سبق لتطبيع طال تعثره لحياتنا السياسية، فإن سوابق نظام يوليو في كل أطواره، تشهد بأن وعود الإصلاح تبقى مجرد وعود على الورق، أو أحلام في خواطر المواطنين، فمثلا من فينا نحن الذين عاصروا النظام اليوليوي، ينسى مقولة جمال عبد الناصر، إن الديموقراطية هي توكيد السيادة للشعب؟ ومن ينسى مقولة أنور السادات أُحكم يا شعب؟ ومن نسي تأكيد صفوت الشريف بالنيابة عن حسني مبارك، أن مصر تعيش أزهي عصور الديمقراطية؟ وفي نهاية المطاف لا الشعب كان سيدا، ولا الشعب هو الذي حكم، ولا عرفنا ومن الأصل في أزهي عصورها المزعومة!!!!
……………………… …
كما يلاحظ القارئ، فقد اقتصر تقييمنا لمجريات العام الذي انقضى على الانتخابات الرئاسية على الشأن السياسي وحده، وقد يكون الشأن الاقتصادي والحالة المعيشية أهم من وجهة نظر البعض، لكننا ممن يؤمنون، أن الاقتصاد ذاته هو شأن سياسي في التحليل الأخير.