في النصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين، كانت إيران تحتفظ بعلاقات وثيقة مع مصر، بينما كانت كل الدول العربية، باستثناء السودان وسلطنة عُمان، تقطع علاقاتها مع مصر، والوضع الآن أقرب إلى الألغاز والأساطير منه إلى المنطق والعقل، حيث كل الدول العربية لها علاقات إيران باستثناء مصر، حتى كأن الشرق الأوسط أعصابه لا تحتمل علاقات طبيعية كاملة بين اثنتين من أعظم حضاراته وأخصب ثقافاته. كلتاهما مصر ومثلها إيران، قوة استيعاب وتجاوز، تستوعب حركة التاريخ بكل ما فيها من بغتة وعنف وحدة وعمق وتناقض، ثم تتجاوزها، البلدان تستوي فيهما الأساطير والحقائق، الحقائق من ضخامتها تبدو أساطير، والأساطير من جمالها تحل مكان الحقيقة.

وزن مصر الجيوسياسي جعل منها خلال قرنين كاملين من 969 -1171 م، مركز انطلاق لأضخم حركة تشيع في تاريخ الإسلام، توسطنت عالم الإسلام كعاصمة لمذاهب آل البيت، وعن شرقها الخلافة العباسية في بغداد، وعن غربها الخلافة الأموية في الأندلس، اقتطعت أكثر أملاك الخلافة العباسية من المغرب إلى شمال إفريقيا إلى مصر إلى الحجاز إلى اليمن والبحر الأحمر إلى الشام، هذا على مستوى الدولة وحدودها السياسية، أما على مستوى الفكرة والدعوة الشيعية سواء للإمامية الاثنا عشرية أو الإمامية الإسماعيلية، فإن الفكرة انتشرت والدعوة اكتسحت، حتى صارت مذاهب أهل السنة- فيما عدا الأندلس- جزراً متناثرة في محيط شيعي كاسح، بل دخل التشيع عاصمة أهل السنة في بغداد، وأقيمت خطب الجمعة والدعوات باسم الأئمة من آل البيت، هذا الذي يبدو أسطورة هو محض الحقيقة التاريخية الثابتة، عندما تعطي القاهرة وزنها وموقعها وخصوبة ثقافتها لفكرة أو دعوة أو أيديولوجيا، فإنها تقلب الموازين، هذه النقطة كان نابليون أول من استوعبها من المعاصرين، لكن دون نجاح، ثم استوعبها محمد علي باشا مع حظ عظيم، ثم استوعبها عبد الناصر وقد حالفه انتشار عظيم في البداية،  لكن انتهت تجربته بانكسار أليم.

لو أردت أن تفهم الفروق الجيوسياسية كما الحضارية بين مصر وإيران، يكفيك الوقوف عند هذا الاستخلاص الموجز: في قرنين فقط من الزمان، مكنت مصر للتشيع من الوصول إلى كل قاصية ودانية في عالم الإسلام. وهذا ما لم تنجح فيه إيران على مدى خمسة قرون، من دولة الصفويين التي فرضت التشيع بقوة الحديد والنار، حتى النظام الثوري الإسلامي في الخمسين عاماً الأخيرة، فقد عاد التشيع كما كان- قبل العصر الفاطمي- مجرد أقلية وسط محيط سني كاسح. وعندما اختارت مصر الليبرالية، ثم اتبعتها مصر الناصرية، أن تعارض الاستعمارين القديم والجديد والانضواء تحت مظلات الأحلاف العسكرية، عندما اختارت مصر ذلك تبعها الشرق الأوسط كله، ثم لما قررت مصر السادات عكس ذلك تبعها أيضاً الشرق الأوسط كله الذي يرقد الآن بين أصابع أمريكا وإسرائيل باستثناء جيوب قليلة. 

مثلما كانت في مطلع التاريخ تظل المعادلة قائمة في حاضر التاريخ ومستقبله كذلك، الصين كانت وما زالت، ومصر تستطيع، والعراق تستطيع، فالثلاثة مهد الحضارات الأولى في التاريخ، وعودة الصين تؤكد ما لا يحتاج إلى تأكيد، المشكلة في العراق أنها أسبق وأخصب من حضارة فارس، إلا أنها  خضعت أكثر من ألف عام للحكم الفارسي المباشر وغير المباشر، وحين سقطت إمبراطورية الفرس تحت سيوف المسلمين، كانت عاصمتها المدائن في أرض العراق، وليست في فارس، ثم إن العراق بعد حربين عليه من أعتى عسكريات التاريخ في فترة قريبة مرة في 1991، ثم مرة في 2003 م، وبينهما حصار كامل، فخرج العراق من القرن العشرين خائر القوى، بدأه بالغزو البريطاني في الحرب العالمية الأولى وأنهاه بالغزو الأمريكي، مرتان كل منهما أشد وحشية من أختها. غلبة التشيع في العراق لا تعني فقدانه استقلاله الكامل عن إيران، فالتشيع العراقي عربي الطابع، وهو سابق على التشيع الفارسي.

أما مصر فعندها مشكلة مع تاريخها الطويل، تتعمد الجهل به وإغفاله والتفرج عليه من بعيد، مصر تخشى تاريخها، تخشاه لأنه الحقيقة التي تكشف هوان ما هي فيه، مصر تخشى المقارنة بين أمسها البعيد وحاضرها القريب ومستقبلها المجهول، مصر تخشى أن تهز الحقيقة ضميرها أو تزلزل ركودها أو تصيبها بالفزع. إيران تاريخها وحدة واحدة موصولة من قورش إلى الخوميني، ومن زرادشت إلى الله الواحد الأحد، ومن مذاهب أهل السنة، حتى مذاهب الأئمة من آل البيت، تاريخها وحدة واحدة ساعد على تماسكه اللغة الباقية، فهي الفارسية سواء قبل أو بعد الإسلام، فارس قبلت الإسلام ديناً، واحتفت بالعربية؛ لأنها لغة الإسلام، لكنها احتفظت بلغتها الفارسية من الزوال والاندثار، بعكس مصر التي أسلمت، ثم تعربت، ثم اندثرت اللغة القبطية إلا من الصلوات في الكنائس. ستة أو سبعة آلاف عام من التاريخ، تشغل كل العالم ولا تشغل بال المصريين، ربما يدرس المصري، ويتخرج من كل مراحل التعليم، ولا يدري من تاريخه غير تناتيش معلومات منكوشة مبعثرة لا رابط بينها ولا مغزى فعال لها، وتكون هذه النعكشة هي كل ما يعرفه عن تاريخه.

قرر الخديوي إسماعيل تدريس تاريخ مصر في المدارس العمومية، وذلك تحت تأثير التسابق الأوروبي في القرن التاسع عشر على دراسة تاريخ مصر القديمة، فكلف عالم الآثار والمستشرق الفرنسي أوجست مارييت، مؤسس المتحف المصري بتأليف كتاب موجز عن تاريخ مصر القديمة لتلاميذ المدارس الحكومية، ثم تولى ترجمته إلى العربية عبد الله أبو السعود أفندي بأمر من محمد شريف باشا ناظر ديوان المدارس، أي وزير التعليم في ذاك الوقت، المهم في هذه النقطة، أن تاريخ مصر القديمة مشهور، أنه ثلاث مراحل: دولة قديمة، دولة وسطى، دولة حديثة. المترجم جعلها: جاهلية قديمة، جاهلية وسطى، جاهلية حديثة. اعتبر المترجم، وهو في ذلك رئيس قلم الترجمة في ديوان المدارس أو وزارة التعليم، أن كل تاريخ مصر قبل الإسلام هو جاهلية، وهذه الفكرة هي الأم الشرعية لكل المنظومات الفكرية التي أعاقت، ولا تزال تلعب دوراً بالغ السلبية في مواجهة كل مبادرات التحرر العقلي والذهني الذي هو شرط أول للبدء في أي مشروع نهضة، فكرة أن مصر قبل الإسلام كانت جاهلية في العمق الروحي المستقر في تلافيف البنية العميقة لوزارة التعليم المصرية في كل العهود من محمد علي باشا حتى يومنا هذا، محنة التعليم في مصر، كانت وما زالت في ديوان عام الوزارة ذاته، فيمن يضعون المناهج، فيمن يكتبون المقررات، فيمن يصنعون العقول، فيمن يشكلون الأرواح، فيمن ينسجون الضمائر، ديوان عام الوزارة له عقلية ثابتة، لم تتغير في جوهرها، هي عقلية عبد الله أبو السعود أفندي الذي ترجم تاريخ مصر قبل الإسلام، على أنه ثلاث جاهليات قديمة، ثم وسيطة، ثم حديثة.

الإسلام العظيم جاء بحضارة عظيمة، تنضاف لرصيد مصر من الحضارات، مصر أصيلة في بناء الحضارات قبل الإسلام وبعد الإسلام، فليس كل مكان دخله الإسلام أخصب فيه حضارة، فقط البلاد التي كان لها رصيد حضاري قبل الإسلام هي التي لها رصيد حضاري بعد الإسلام، بما في ذلك مصر والشام وشمال إفريقيا، حيث جاء الإسلام، وهي جزء من الحضارة البيزنطية، وبما في ذلك العراق وفارس، حيث كانت مركز الحضارة الفارسية. الإسلام بدأ ديناً محضاً، ثم أبدع حضارة عظيمة، ثم سقطت حضارته، وعاد مجرد دين من جديد، الدين باق، لكن حضارته انطفأت شعلتها، المطلوب هو إحياء الحضارة، وليس الجدل حول الدين أو الاختلاف فيه أو التنازع حوله في حلقات من التكفير والتكفير المضاد، المطلوب هو التفكير في كيف يكون الدين جزءاً من الحضارة المعاصرة، وكيف يكون المسلمون شركاء أكفاء في بناء الحضارة الإنسانية، أما تقسيم تاريخ مصر- بالذات- إلى جاهلي، ثم إسلامي، فهو تقسيم يضعنا في خصومة مع حضارتنا، ثم في خصومة مع الحضارة الإنسانية التي تؤمن بحضارتنا، ثم في خصومة بين ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وهي خصومة تمزقنا شر ممزق، وتبعثر هويتنا أشلاء متنافرة، لا يستقيم لها قوام ولا ملامح ولا معنى.

أحمد شوقي- على عكس عبد الله أبو السعود أفندي- جمع بين التعليم المصري، ثم التعليم في فرنسا، كما عاش في القرن التاسع عشر، حيث تسابق أوروبا على دراسة تاريخ مصر، وحيث تأسيس علم جديد خاص بتاريخ مصر، هو علم المصريات، ثم عاش في القرن العشرين، حيث الثورة المصرية، وحيث ابتكار الهوية الوطنية المصرية، هنا تحرر عقل شوقي وضميره، مما لم يتحرر منه عبد الله أبو السعود أفندي. التعليم المصري- على مذهب عبد الله أبو السعود أفندي- كان كافياً؛ ليكون تلميذا موهوبا، مثل شوقي شاعر الحضرة الخديوية، وهو دون العشرين من العمر، لكن التعليم في فرنسا مضافاً إلى ما عند شوقي من مخزون عميق من الثقافة العربية، جعل من شوقي أول المجددين العظماء في ثقافتنا المعاصرة بعد محمود سامي البارودي، عظمة شوقي ليس فقط أنه من البناة الكبار للثقافة المصرية المعاصرة، بل من أكبر بناة الهوية الوطنية المصرية الحديثة.

في أول حياته، كتب قصيدة ملحمية عظيمة هي قصيدة كبار الحوادث في وادي النيل، لم يكن قد بلغ الخامسة والعشرين من العمر. ثم في خاتمة حياته، كتب عام 1931 واحدة من أكثر مسرحياته الشعرية إثارةً للجدل بين الأدباء ونقاد الأدب في ذلك الحين، وهي مسرحية قمبيز.

قصيدة كبار أو كبريات الحوادث في وادي النيل، هي ملحمة حقيقية من مائتي وتسعين بيتاً، تلضم تاريخ مصر من مطلع التاريخ، حتى وقت كتابتها 1894 في خيط واحد، سبيكة تاريخية تعيد رسم الهوية المصرية في التاريخ عبر آلاف السنوات، دون تشويش ولا ارتباك ولا انقطاع ولا خصام ولا انفصام بين الروح المصرية في أي حقبة من الأحقاب.

أما مسرحية قمبيز، فهي تصور اللقاء التاريخي الأول بين فارس ومصر في القرن السادس قبل الميلاد، اللقاء بين أمازيس أي أحمس الثاني، ومن بعده ولده وولي عهده أبسماتيك من جهة، والقائد الفارسي قمبيز الذي خلف والده العظيم قورش، هذا اللقاء بين البلدين والقيادتين والحضارتين، نقرأه مرتان عند شوقي، الأولى في القصيدة، ثم الثانية في المسرحية، وهذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.