ارتفعت أسهم تركيا كقوة إقليمية في الشرق الأوسط وإفريقيا، خصوصا في منطقة شرق إفريقيا خلال العقد الماضي، عطفا على قدرة أنقرة على بلورة المبادرات المناسبة في التوقيت المناسب، وذلك في التفاعل مع الديناميات الإقليمية والدولية، تحت مظلة نظام عالمي متضاغط، وقَيْد تبلور أطرافه الفاعلة .

المجهودات التركية يتم تتويجها حاليا بدور بارز في إسقاط نظام الأسد في لحظة تهاويه النهائي، وفرض معادلات سياسية جديدة على الأرض في سوريا، وكذلك باتفاق مبدئي بين الصومال وإثيوبيا، سيتم التفاوض بشأنه في مطلع فبراير من العام القادم برعاية تركية، وذلك بشأن خلافاتهما الممتدة، لما يقرب من عام حول الرغبة الإثيوبية في الولوج إلى مياه البحر الأحمر عبر إقليم أرض الصومال، بما يهدد وحدة التراب الوطني الصومالي.

وفي تطور لافت لهذه المجريات، حضر رجب طيب أردوغان إلى القاهرة في قمة لمنظمة التعاون الاقتصادي لدول الثمانية، التي أسستها تركيا في إسطنبول عام ١٩٩٧، وهي قمة حضرها الرئيس الإيراني أيضا، الأمر الذي يطرح أسئلة بشأن طبيعة التفاعلات الإقليمية في هذه المرحلة، وحدود الدور الإقليمي التركي في مناطق المصالح المصرية شمالا وجنوبا، خصوصا مع تسريب صورة لأحد المطلوبين للأمن المصري مجتمعا بأحمد الشرع، رئيس جبهة تحرير الشام التي قوضت نظام الأسد في سوريا في أقل من أسبوعين.

في السياق السوري، نشير إلى تصريحات الرئيس السيسي في مؤتمر دول الثمانية، والذي اعتبر أن ما جرى في سوريا هو اعتداء على سيادتها، بما يعني وجود رفض مصري لجبهة تحرير الشام كقائد للتفاعلات السياسية في هذه المرحلة والمدعوم من تركيا، وذلك عطفا على ماضي أحمد الشرع، قائد هذه الجبهة وتاريخه في تنظيم القاعدة وتنظيم جبهة النصرة المتطرف، وطبيعة تحالفاته الراهنة مع فصائل الإسلام السياسي السوري.

وعلى الرغم من التلويح التركي بتوظيف الإخوان المسلمين في مصر كورقة ضغط على القاهرة عبر الصورة المسربة المشار إليها سالفا فلم تكن هذه الآلية مؤثرة على الإطلاق لعدد من الاعتبارات  في تقديرنا منها :

اختلاف السياق المصري عن السياق السوري في عدد من المعطيات منها أن إخوان مصر لا يملكون أراض تحت سيطرتهم في مصر، كما كان الوضع في سوريا، كما أن بنيتهم التنظيمية تعاني من ضعف وانقسامات، فضلا أن منظورهم الفكري والحركي هو متخلف عن نظرائهم في الإقليم، سواء في السودان أو تونس وأخيرا سوريا، حيث لم يطوروا تراث حسن البنا، بل وتمسكوا به حرفيا، بينما فصائل الإسلام السياسي على المستوى الإقليمي، قد تحررت نسبيا من هذا التراث، وطورت بعض مفاصله، خصوصا في قراءات كل من حسن الترابي وراشد الغنوشي.

 وعلى الرغم من أن الأبواق الإعلامية المناصرة لإخوان مصر على الفضائيات، تملك القدرة على التحريض ضد النظام السياسي المصري، ولكنها لم تنجح أبدا في طرح بدائل واقعية للسياسيات الراهنة، وهي مسألة باتت مفصلية في الذهنية أو النقاش العام في مصر بعد ثورة يناير ٢٠١١، من هنا لا يبدو لي الإخوان بديلا مناسبا لجموع المصريين، خصوصا في ضوء طبيعة ومسارات ممارستهم للسلطة خلال عام حكمهم لمصر، وكذلك مستوى قوة كل من الجيش المصري والأجهزة الأمنية القادرة على الوصول إلى تلبية احتياجاتها الاقتصادية ضمن الأطر المحلية، وذلك على عكس حالة مؤسسات سوريا العسكرية والأمنية.

أن الدعم التركي لإخوان مصر يعني خسران أنقرة لقسم معتبر من الدول العربية، يجيء على رأسها مصر والمملكة العربية السعودية والإمارات، وهو أمر ينعكس سلبيا على الاقتصاد التركي الذي يبلغ حجم التبادل التجاري بينه وبين العرب ٢٣ مليار دولار حاليا.

أما في السياق الإفريقي، فإن اتفاقية إثيوبيا والصومال، فربما يكون التعرض بإيجاز لتفاصيل الاتفاق المبدئي بين البلدين والبيئة التي عقدت فيه مهمة في اكتشاف طبيعة وأهداف الدور التركي وطبيعة تموضعه بالنسبة للمصالح المصرية، حيث أكد الجانبان في أديس أبابا ومقديشيو التزامهما باحترام سيادة كل من بلديهما ووحدتهما وسلامة أراضيهما واستقلالهما، كما اتفقا على تنحية القضايا المتنازع عليها.

وقد أقر الطرفان بالفوائد المحتملة التي يمكن الحصول عليها من عقد اتفاقيات ثنائية، تشمل عقود إيجار لأراض صومالية، لم يتم تحديدها وإمكانية وصول إثيوبيا الآمن للبحر الأحمر ضمن إطار السيادة الصومالية واحترامها، فضلا عن الاتفاق على حل أي خلافات مستقبلية بالطرق السلمية، بدعم تركي إذا لزم الأمر.

في هذا الصدد، يمكن ملاحظة تراجع إثيوبي عن أمرين الأول، الاعتراف بأرض الصومال ككيان مستقل، وذلك في ضوء متغيرين الأول، صعوبة تنفيذ الاتفاق عملياً، حيث أن معظم القبائل القاطنة في مناطق محافظة أودال التي يوجد فيها الموقع المقترح للميناء والقاعدة العسكرية، عارضت الاتفاق، وهددت بمنع تنفيذه بالقوة. أما المتغير الثاني فهو فوز الرئيس الجديد عبد الرحمن عرو، في أرض الصومال والذي يبدو أنه غير متحمس لتنفيذ إاتفاقية سلفه موسى بيحيى الذي وقع المذكرة مع إثيوبيا.

  أما على المستوى الإقليمي فقد شكل التحالف المصري الإرتيري الصومالي تهديدا وضغطا على إثيوبيا على المستوى العسكري، على خلفية أزمة سد النهضة، حيث أبلغ المصريون واشنطن، أنهم منفتحون على كافة الخيارات في المرحلة المقبلة، إذا لم يتم تلبية الشواغل المصرية بشأن السد في فترات الجفاف والجفاف الممتد.

وفي ضوء اتجاه الصومال لرفض مشاركة إثيوبيا في قوات بعثة الاتحاد الإفريقي لحفظ السلام في الصومال؛ فإن تراجع الوزن الإقليمي الإثيوبي في شرق إفريقيا يعني الكثير لأديس أبابا.

كما يشكل فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الانتخابات الأمريكية ضغطا على إثيوبيا في ضوء موقفه السلبي في فترة حكمه السابقة من سياستها الإقليمية عموما، وخصوصا في ملف سد النهضة.

وبطبيعة الحال يشكل الصراع الداخلي المتصاعد في إثيوبيا، خصوصا في إقليم أمهرة أحد التحديات التي تضع قيودا على تحركات إثيوبيا الإقليمية، لا سيما في ضوء خلافاتها مع كل من إرتيريا والسودان، وكذلك الخذلان الذي تشعر به جيبوتي تجاه أديس أبابا التي تبحث عن منافذ بحرية بعيدة عنها.

في هذا السياق، لا يبدو الدور التركي في عقد الاتفاق المبدئي بين إثيوبيا والصومال أكثر من القدرة على التقاط الدبلوماسية التركية بذكاء اللحظة المناسبة لطرح نفسها كوسيط، بينما البيئة بين كل من مقديشيو وأديس أبابا، كانت ترجح التنازل الإثيوبي إلى حدود معينة سيتم بحث تفاصيلها في فبراير القادم بين البلدين.

في هذا السياق، يكون من المفهوم أن يحضر الرئيس أردوغان للقاهرة لترتيب الأوراق الإقليمية في نطاقي سوريا والصومال، بما يضمن استمرار القاهرة كشريك إقليمي لتركيا، وخصوصا وأن العاصمة المصرية قد استدعت على نحو لافت الورقة الإيرانية بوجود الرئيس الإيراني حاضرا لقمة الدول الثمانية، وهو الذي يبحث أيضا مع أردوغان شواغله في سوريا، ولم تهتم القاهرة كثيرا بتلويح أردوغان بورقة الإخوان التي يعلم أردوغان قبل غيره، أنها ضعيفة الفاعلية في ضوء المعطيات الداخلية للنظام السياسي المصري المشار إليها سالفا.

 يبقى في الأخير ضرورة حشد الدبلوماسية المصرية لكافة أدواتها، واستدعاء حالة فاعلية في الحركة، تضمن إطارا يكفل الاستمرارية والتوازي في كافة الملفات مع بعضها البعض، حيث أنه من المطلوب بذل المجهود والمبادرات في جميع نطاقات الأمن القومي المصري، وذلك في لحظة تاريخية صعبة، تواجه فيها مصر جملة من التحديات الخارجية المؤثرة على دورها الإقليمي ومتطلبات أمنها الداخلي.

.