طبقا لخطة العمل المقترحة في المقال الافتتاحي لهذه السلسلة من المراجعات، ومن البدائل المقترحة لسياسات؛ أدت- كما نرى- إلى نكبات فلسطينية وعربية وراء أخرى، فإننا نبدأ بالقضية الفلسطينية، بوصفها جوهر الصراع في الشرق الأوسط، وجوهر الفشل العربي المستمر، وبالتالي جوهر الشعور بالظلم والعجز، بل والهوان فرديا وجماعيا أمام النجاح المطرد (والمبهر بكل أسف)، للمشروع الصهيوني الاستعماري العنصري.
ذكرنا في المقال السابق، أن البديل الذي نقترحه هو إعلان التخلي فلسطينيا وعربيا عن مبدأ حل الدولتين، والعودة إلى مبدأ حل الدولة الواحدة الديموقراطية العلمانية على أساس المواطنة المتساوية بين اليهود والعرب، على كامل التراب الفلسطيني التاريخي من النهر إلى البحر.
هذه هي حيثيات الاقتراح، وهذه هي وعوده:
فمن ناحية، أصبح حل الدولتين مستحيلا من الناحية العملية، حتى وإن افترضنا جدلا، تحول تركيبة الحكم الحالية في إسرائيل والراسخة منذ عقود من اليمين القومي والديني إلى الوسط ويساره أو يمينه.
الدولة الفلسطينية (كفكرة على الورق)، سلبت، وتسلب كل يوم ما تبقى من إمكاناتها في الحياة كدولة ذات سيادة على إقليم متصل، وعلى موارد طبيعية أساسية من الأرض والمياه، فضلا عن أن تكون قادرة على الاتصال الحر بالعالم الخارجي.
الحديث عن حل الدولتين بهذا المعني، لم يعد سوى ذريعة متفق عليها ضمنا بالصمت بين كل الأطراف، وذلك لتوفير الخداع الأخلاقي والدبلوماسي اللازم للذات وللغير، من أجل تجاوز الحقوق الفلسطينية، وقبول التعامل والتعاون مع سياسات الهيمنة الإقليمية الإسرائيلية، في داخل الإقليم ذاته، خصوصا بعد ما جرى طوال أكثر من عام من هزيمة، ما كان يسمى بجبهة الممانعة، أو من القوى العالمية السائدة حاليا والمتحالفة أصلا – باختلاف في الدرجة فقط- مع اليمين الصهيوني، فيما يستمر الاستيطان الإسرائيلي في قضم وهضم، ما تبقى من أراضي الضفة الغربية.
هذه الحال تلائم خطة إسرائيل لضم الضفة الغربية رسميا (وتدريجيا) للسيادة الإسرائيلية، دون تحمل مخاطر القنبلة الديموجرافية (السكانية) على الهوية اليهودية العنصرية للدولة، ذلك أن الضم سيكون للكتل الاستيطانية، ولشبكة الطرق بينها وبين إسرائيل في حدود ١٩٤٨، وكذلك لشبكة الطرق، فيما بين هذه المستوطنات وبعضها البعض، مع بقاء الكتل السكانية الفلسطينية خارج السيادة الإسرائيلية (مؤقتا) كأرض محتلة، في انتظار الترحيل الطوعي!!! أو القسري لسكانها، وضمها عندما تتهيأ الظروف الدولية والإقليمية.
وبالطبع لم يعد في أيدي تحالف الراغبين من الفلسطينيين والعرب (بل والمسلمين) رصيد يذكر من أدوات المقاومة المسلحة لهذه الخطة الإسرائيلية، وإحباطها، وذلك بفرض استمرار وجود هذا التحالف، الذي لا يشمل الحكومات أصلا، بما في ذلك السلطة الوطنية الفلسطينية.
لكل هذه الأسباب، وللأسباب التي سيأتي شرحها توا، تصبح الاستراتيجية البديلة هي العودة لطرح حل الدولة الواحدة، بالشروط التي أوضحناها سابقا.
وحين نقول العودة لطرح حل الدولة الواحدة، فإن ذلك يعني لمن لا يعرف أو لا يتذكر، أن هذا الحل كان مطروحا من قبل (ليس بالطريقة الكاريكاتورية التي اقترحها العقيد الليبي الراحل معمر القذافي، وكأنه أتى بما لم تأت به الأوائل)، ولكن مبدأ الدولة العلمانية الديموقراطية على أساس المواطنة المتساوية، كان يشكل صلب الميثاق الوطني الفلسطيني، الذي أقرته منظمة التحرير الفلسطينية، بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، المعترف به من جامعة الدول العربية، ومن منظمة الوحدة الإفريقية والمؤتمر الإسلامي وحركة عدم الانحياز والأمم المتحدة ذاتها.
ومن المفارقات المحزنة الكثيرة في تاريخ القضية الفلسطينية، أن العالم كله تقريبا تجمع للضغط على المنظمة، لإسقاط هذا النص من الميثاق الوطني الفلسطيني، باعتباره أكبر عقبة أمام التسوية السلمية؛ لأنه ينكر حق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية، ولأن مقتضاه قيام دولة ثنائية القومية، ولسوف تزداد دهشة القراء من الأجيال الشابة، عندما نقول لهم، إن إسقاط هذا النص، وما ترتب على ذلك من اعتراف متبادل بين إسرائيل وبين المنظمة، اعتبر وقتها ثورة إيجابية في دبلوماسية الشرق الأوسط، استغرقت وقتا طويلا، واستثمرت فيها جهود كبيرة واتصالات واسعة بمبادرة من إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، وبمساهمة كبيرة من الرئيس المصري الراحل حسني مبارك والعاهل السعودي الراحل أيضا فهد بن عبد العزيز، وكانت تلك الخطوة من المقدمات الضرورية لمؤتمر مدريد، وما تلاه، أو ترتب عليه من خطوات ووعود السلام الشامل والعادل، تلك الخطوات والوعود، التي ساهم اليمين الصهيوني مع حلفائه في الداخل الأمريكي بالدور الأكبر في تقويضها، لا سيما بعد اغتيال إسحق رابين رئيس وزراء إسرائيل (شريك الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في عملية أوسلو).
ليس ذلك فحسب، فقد كان مبدأ الدولة الديموقراطية الواحدة كحل للصراع في فلسطين هو البديل الذي تبنته القيادات الفلسطينية، ثم حكومة عموم فلسطين العربية (على عهد الانتداب البريطاني)، وأيدتها فيه جامعة الدول العربية، وتأسيسا عليه، رفض الفلسطينيون والعرب مشروع الجمعية العامة للأمم المتحدة لتقسيم فلسطين عام ١٩٤٧.
هذا الاستعراض لتاريخية مبدأ الدولة الواحدة كحل للمعضلة الفلسطينية الإسرائيلية، ليس من قبيل السفسطة الأكاديمية، ولكنه لا يزال إمكانية واقعية، تهدد مخططات التوسع الصهيوني والنقاء العرقي اليهودي، لسبب أساسي، هو استمرار الوجود السكاني الفلسطيني، داخل ما يسمى بإسرائيل الكبرى، والشاهد الأول على جدية هذا الخطر، هو قانون يهودية الدولة، الذي حرص معسكر اليمين القومي والديني في إسرائيل على استصداره منذ ست سنوات فقط، وذلك لقطع الطريق على أي احتمال لحل، يقيم دولة ثنائية القومية.
من هنا نعتقد أن اللحظة مناسبة لإحياء مشروع الدولة الواحدة، فهو يعني أولا فتح جبهة دبلوماسية جديدة، تضع إسرائيل وحلفاءها من الأمريكيين في موقف دفاعي، لا تخفى فيه روح الإمبريالية وتطبيقات العنصرية، ويعني هذا المشروع ثانيا، تحول القضية الفلسطينية من صراع بين هويتين قوميتين، تطغى فيها اعتبارات الأمن الإسرائيلي، على كل ما عداها من جوانب إلى قضية حقوق المواطنة السياسية الديموقراطية المتساوية للفلسطينيين، ومواجهة الاستيطان بوصفه اغتصابا توسعيا في أراضي الغير أفرادا وجماعات، وبذلك يتزايد تأييد الدوائر الحقوقية والقوى التقدمية للحق الفلسطيني في العالم، يوما وراء يوم، قياسا إلى سوابق النضال الديموقراطي في التاريخ العالمي، وأقربها حالة حقوق السود في جنوب إفريقيا، وزيمبابوي.
أشرنا قبل قليل، إلى أنه ليس من المنتظر، أن تفكر الحكومات العربية بما فيها السلطة الوطنية الفلسطينية في تبني هذا البديل الذي نقترحه، خاصة بالمستقبل الفلسطيني (ضمن بدائل تتعلق بسائر قضايا الإقليم)، كما أوضحنا في مقالنا الافتتاحي لهذه السلسلة، ولهذا فإننا ندعو المثقفين والكتاب والخبراء وسائر المهتمين في جميع الدول العربية إلى الانخراط في مناقشة هذه المراجعات والمقترحات، وخلق مخاض فكري على امتداد الإقليم، يضغط على الحكومات ومراكز التأثير وصنع السياسات والرأي العام للعودة إلى مبدأ الدولة الديموقراطية الواحدة في فلسطين، وتنشيط استراتيجيات جديدة للمقاومة السلمية في الأرض المحتلة وخارجها، للضغط في هذا الاتجاه، ولا جدال في أن الأولوية القصوى هنا، هي أن تحل السلطة الوطنية الفلسطينية نفسها، بعد أن زال المبرر السياسي لوجودها منذ فترة طويلة، وأصبحت عبئا على شعبها، أي منذ تحولت إلى ساتر يغطي حقيقة الاحتلال الاسرائيلي للأرض الفلسطينية، ويعفي هذا الاحتلال من المسئولية عن حقوق الشعب في تلك الأراضي، ويلي ذلك في الأهمية وقف أي تطبيع جديد للعلاقات بين الدول العربية والإسلامية وبين إسرائيل، خاصة المملكة العربية السعودية، وبعد ذلك يأتي الحديث عن إعادة صياغة الوجود السياسي الوطني أو القطري والنظام السياسي الإقليمي في الحلقات التالية من هذه السلسلة.