هرب الأسد، لم يدافع عنه واحد من شعبه، ولا واحد من جيشه، فقد ولاء الشعب، ثم فقد ولاء الجيش، بعد أن وضع الشعب والجيش في حرب أهلية لأكثر من اثني عشر عاماً، انتهت الحرب الأهلية بوطن مفكك، وشعب ممزق، واقتصاد مدمر، خاتمة نموذجية لنظام حكم، يعتقد في قرارة نفسه، أن قهر الشعوب كفيل ببناء دولة قوية، فلم يتردد منذ ارتفع صوت الشعب في ربيع 2011 م، أن يقتل مواطنيه، حتى وصل عدد القتلى إلى ما يقرب من نصف مليون قتيل، ولم يتردد في دفع مواطنيه للهجرة القسرية، حتى هاجر نصف عدد الشعب، وخلق بهذه الهجرة محنة ثانية، تضاف إلى محنة الشعب الفلسطيني، فكما أن نصف الشعب الفلسطيني مشتتا في ديار الهجرة، فكذلك أصبح الحال مع الشعب السوري، وكما يرفض الاحتلال الصهيوني عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، فكذلك رفض الديكتاتور السوري عودة المهاجرين السوريين إلى ديارهم، فقد اعتبرهم أعداءً أبديين لا مجال للعفو عنهم أو التصالح معهم، في هذه النقطة بالذات كانت ديكتاتورية الأسد مثالاً للغباء السياسي في التاريخ قديمه وحديثه، فقد أثقل المهاجرون على الدول التي استضافتهم، ولم يتقبل المجتمع الدولي فكرة، أن حاكماً قرر- بضمير مستريح- الاستغناء عن نصف شعبه أو نفي نصف شعبه أو إلغاء حق نصف الشعب في وطنه، المجتمع الدولي منذ حرب فلسطين 1948 م، وهو عاجز عن حل معضلة اللجوء الفلسطيني، فكيف يتقبل معضلة ثانية السبب فيها ليس شعباً آخر، يزعم أن أرض سورية حق تاريخي مملوك له، لكن حاكما ديكتاتوريا يرفض الحوار مع شعبه، ويأبى التفاوض مع خصومه، ولا يتقبل فكرة تقديم تنازلات والتوافق على حلول وسط، تعيد السلام الأهلي وتسترد التماسك الوطني، وتحمي سورية من التدخل الأجنبي سواء لصالح الحكم أو المعارضة، وفي الوقت ذاته ركبت المعارضة رأسها، لم تصبر على معاناة السياسة، استسهلت حمل السلاح، وجدت كثيرين يقدمون لها التمويل والتسليح، ذهبت سورية في طريق اللاعودة، ثم توغلت فيه حتى نهايته: سقطت سورية وسقطت الديكتاتورية معاَ، وبات على الشعب السوري المثخن بالجراح، أن يقوم بمهمتين أصعب من بعضها: إعادة بناء نظام حكم ديمقراطي، لا يعيد إنتاج الديكتاتورية ولا التمييز الطائفي، وإعادة بناء سورية على أسس المواطنة التي يتساوى فيها كل السوريين أمام القانون، وتتوزع عليهم خيرات البلد بالعدل. 

السؤال المستفاد من خبرات عشرين عاماً من تساقط الديكتاتوريات العربية هو: لماذا في اللحظة الحاسمة، ينظر الديكتاتور حوله؛ فيرى شعبه، لا يأسف عليه، بل يفرح بسقوطه، كما يرى جيشه، لا يدافع عنه، بل يتخلى عنه؟.

نيقولا مكيافيللي 1469 – 1527 م، قدم ملاحظات عقلانية ممتازة، تساعدنا في فك شفرة هذا السؤال، ورغم مرور أكثر من خمسمائة عام على أفكار مكيافيللي، إلا أنها لم تفقد حيويتها الفكرية في الاشتباك مع اللحظة السورية. يقول في الفصل العشرين من كتاب الأمير: 1- لقد كان من عادة الأمراء- يقصد الحكام- أن يشيدوا القلاع الحصينة حتى يتمكنوا من السيطرة على شعوبهم في سلام وأمان، حيث القلاع الحصينة تساعدهم على ردع من يبيتون لهم شراً، كما تكون ملاذ أمان يلجأ الحكام للتحصن به، عندما تقوم عليهم رعاياهم أو يتعرضون لهجوم مباغت من الأعداء. 2- ينبغي للأمير- يقصد الحاكم- الذي يخاف من شعبه، أكثر مما يخاف من الأعداء، أن يشيد القلاع. 3- ولكن من الناحية العملية لا نرى أن القلاع أفادت في حماية أي حاكم من خطر الشعب باستثناء كونتيسة فورلي، التي استطاعت بفضل قلعتها، أن تهرب من قومة الشعب ضدها، تحصنت في القلعة، وانتظرت الدعم الأجنبي من ميلانو، وتمكنت من استرداد السلطة والعود للحكم، لكن لم تتنتفع الكونتيسة، ولم تحقق أي استفادة من هذا النصر، حيث هاجمها أعداؤها من الخارج بقيادة قيصر بورجا، فتخلى عنها الشعب، ولأن الشعب كان يكرهها فقد ذهب يتحالف مع الغزاة ضدها. 4- كان الأفضل والأسلم لمصلحة الكونتيسة، ليس أن تبني القلاع الحصينة، لكن أن تسعى لتنال حب الشعب ورضاه أو على الأقل، تتجنب كراهية الشعب وبغضائه لها.

وبناءً على ما سبق، يصل مكيافيللي إلى استنتاج عملي حكيم، يقول: ولذلك فإن خير الحصون جميعاً ما يؤسس على حب الشعب للأمير”. ثم يتوجه مكيافيللي بالخطاب للحاكم فيقول له: “على الرغم من أنك قد تنجح في امتلاك أعتى القلاع المحصنة، فإنها لن تنقذك، إذا كان الشعب يبغضك”، ثم يقول: ” أثني على الحاكم الذي يشيد القلاع، كما أثني على الحاكم الذي لا يشيدها، لكن ألوم الحاكم الذي يتحصن بالقلاع، ثم يظن أنها سوف تحميه، إذا كان الشعب يكرهه ويبغضه، فلا شيء يحمي الحاكم من خطر الشعب، إذا أصبح مكروهاً مبغوضاً” .

يخصص مكيافيللي الفصل التاسع عشر من كتاب الأمير للوصفة السحرية التي هي ” حب الشعب “، وكيف أن حب الشعب للحاكم هو الحماية من مؤامرات الداخل، كما هو المناعة من عداوات الخارج، يقول: “الأمير، يقصد الحاكم، ليس في حاجة إلى أن يعبأ كثيراً بالمؤامرات التي تحاك ضده سواء من الداخل أو الخارج في حالة واحدة، وهي أن يكون محبوباً من شعبه، فعندما تكون مشاعر الشعب تجاه الحاكم طيبة، فلا خوف عليه من أي مؤامرات، أيا يكون مصدرها”.

ولكن ماذا لو لم تكن مشاعر الشعب طيبة تجاه الحاكم؟ هنا يجيب مكيافيللي بالقول: “إذا كان الرعايا يكرهون الحاكم ويناوئونه، فالواجب عليه في مثل هذا الحال، أن يخشى كل فرد، ثم يخشى كل شيء”.

والشعوب إذا كرهت الحاكم، ثم أبغضته، يكون من السهل عليها، أن تفكر في التآمر عليه سواء بنصيحة من أعداء الخارج أو مساعدة منهم، والحل هو أن ينجح الحاكم في تجنب الكراهية والبغضاء، فهي العلاج الناجع، لسبب بسيط، وهو أن المتآمرين على الحاكم سواء كانوا من الشعب أو من الأجانب، لن ينجحوا في تنفيذ مؤامراتهم إلا في حالة انتشار السخط الشعبي ضد الحاكم، فمن بين هؤلاء الساخطين يعثر المتآمرون على أدوات فعالة لتنفيذ المؤامرات بنجاح.