ظل رياض سلامة، محافظ البنك المركزي اللبناني، شديد التمسك باتجاهاته المصرفية الكلاسيكية بتثبيت سعر الليرة، طوال منصبه الذي احتفظ به لقرابة 27 عامًا، انعزل خلالها عن التجاذبات السياسية، قبل أن يتورط فيها خلال الأسابيع الأخيرة وتنفرط خيوط اللعبة من يديه على المستويين السياسي والنقدي.
حافظ “سلامة” على توصيفه كأيقونة اقتصادية مثيرة قادت بلده المضطرب للحفاظ على عملتها الرسمية عانت خلالها الحروب الأهلية والاستقطابات الحزبية، والفراغ السياسي في منصب الرئاسة، وحصل على العديد من الجوائز العالمية من بينها أفضل محافظ للبنوك المركزية على المستوى العربي عدة مرات، قبل أن تنقلب الآية وتشهد بلاده أسوأ انهيار اقتصادي منذ عقود، بشحّ الدولار وفقدان الليرة نصف قيمتها، وارتفاع قياسي بمعدل التضخم.
عيّن رياض سلامة حاكمًا لمصرف لبنان عام 1993 لمدة 6 سنوات فقط، لم يكن حينها يعرف بأنه سيعيد تعيينه لخمسة ولايات متتالية في 1999 و2005 و2011 و(2017ـــــ 2023)، وأصبح عضوًا بصندوق النقد العربي، ومجلس محافظي صندوق النقد الدولي، الذي لم يستطع أن يقنع “سلامة” بتحرير سعر الصرف طوال تلك المدة الطويلة.
ووفقًا لمجموعة الأزمات الدولية، فإن لبنان يحتاج إلى إصلاحات ضرورية ما زالت تتجاهلها بعدما طلبت بيروت مساعدة من صندوق النقد الدولي للحصول “على تمويل جديد” يقدّر بأكثر من 20 مليار دولار للخروج من أزمته، بينها 11 مليار أقرها مؤتمر سيدر بباريس عام 2018، لكنه لم يجري الإصلاحات المطلوبة من حينها.
بين عامي 1973 و1985، اكتسب رياض سلامة خبرة واسعة في شركة ميريل لينش، متنقلاً بين مكاتب بيروت وباريس، الأمر الذي أدى إلى تعيينه في 1985 نائبًا للرئيس ومستشارًا ماليًا، وشغل هذا المنصب حتى تعيينه حاكمًا لمصرف لبنان في عهد رفيق الحريري في التسعينيات.
تسلم “سلامة ” إدارة البنك المركزي اللبناني بعد 3 أعوام من انتهاء الحرب الأهلية التي استمرت 15 عامًا، وبلغت خسائرها البشرية نحو 150 ألف قتيل، بجانب خسائر الحرب المباشرة التي أصابت الإنشاءات والاقتصاد بالقطاعين العام والخاص، وبلغت بنحو 25 مليار دولا أمريكي، واستطاعت سياساته تجنيب البنك الأزمات السياسية التي عاشتها البلاد في رفع الاحتياطي النقدي من 1.2 مليار دولار في 1993، إلى 38.66 مليار دولار بنهاية أغسطس 2019 (دون حساب الزيادة بأسعار الذهب).
تثبيت سعر صرف الليرة
يدافع رئيس المركزي اللبناني عن سياسة تثبيت سعر صرف الليرة التي يرفضها صندوق النقد الدولي وله مقولة تاريخية مفاداها بأن “سياسة تعويم العملة ممكنة لدول كبرى لديها من الهوامش الاقتصادية ما يمكنها من إتباع هذه السياسة”، واصفًا تثبيت سعر صرف الليرة بلبنان بأنه “حجر الرحى في الاستقرار“.
عطلت تلك السياسة كثيرًا حصول لبنان على مساعدات خارجية لإنقاذ اقتصاده المتهاوي، لكنها في الوقت ذاته سيطرت كثيرًا على التضخم قبل أن تحدث سلسلة من الأزمات المتلاحقة ما بين كورونا ويقفز التضخم بصورة مفرطة مع توقف إيرادات السياحة ونزول المتظاهرين إلى الشوارع.
ديون لبنان
وقال مايك عازار، الخبير الاقتصادي المتخصص بملف الديون، في مقابلة نشرها معهد كارينجي للسلام على موقعه بالإنجليزية، إن مصرف لبنان مدين للبنوك الداخلية بمبلغ يفوق بـ45 مليار دولار، ويرى البنك أنه يمكن سدادها من خلال أرباح طباعة العملة، لكن الحكومة ترفض ذلك وتطالب بشطب جزء كبير من هذه الالتزامات غير المموَّلة، خوفًا من تضخم سعر صرف الدولار وزيادة التضخم وتتماشى رؤية الأخيرة مع موقف صندوق النقد الدولي مع هذه الرؤية.
لكن “سلامة “يرد في المقابل بأن بلاده شهدت سلسة من الأزمات التي لا يستطيع اقتصادي مهما كانت خبرته مواجهتها بداية من حرائق الغابات وثورة أكتوبر التي أدت لإغلاق البنوك لمدة 21 يومًا وتداعيات تفشي فيروس كورونا وتأثيرها على النشاط الاقتصادي والسياحة، وأخيرًا حادث انفجار بيروت.
تبدو تصريحات حاكم مصرف لبنان المركزي منطقية، فمسئوليته هي تمويل الحكومة التي صرفت الأموال، مضيفًا: “”أردنا دومًا التنسيق مع الحكومة، لكننا رفضنا أن توافق على قراراتنا لأنها انتهاك لاستقلالية المصرف المركزي”.
الأزمة اللبنانية
يؤكد اقتصاديون أن الأزمة التي يقع فيها الاقتصاد اللبناني حاليًا نتاج تراكمات منذ الحرب الأهلية تسببت في زيادة حجم الدين العام اللبناني إلى 90 مليار دولار، مع استمراره في الارتفاع بسبب استيراد للاحتياجات الأساسية من الوقود والدقيق والدواء الاستيراد في لبنان بقيمة تتجاوز 20 مليار دولار، بجانب عدم الاستقرار السياسي الذي دفع باللبنانيين إلى سحب 6 مليارات دولار من البنوك وتكدسيها بالمنازل.
لدي “سلامة ” تاريخ طويل في مواجهة الخصوم، فهو أفضل رئيس مصرف مركزي عربي عام 1996، وحاصل على سام جوقة الشرف من رتبة فارس قلّده إياه رئيس الجمهورية الفرنسي جاك شيراك في1997، وأفضل رئيس مصرف مركزي في العالم لعامي 2003 و2006 من مجلة “يورومني” العالمية، وأفضل رئيس مصرف مركزي بالشرق الأوسط لأعوام 2005 و2008 و2009 و2012 من مجلتي “زي بانكر” ويورمونني”.
مهاجمة السياسيين
يقول سلامة، الذي اضطر إلى مهاجمة السياسيين في بلاده والحكومة أخيرًا على خلفية استقالاتهم في أعقاب انفجار بيروت، فتلك اللحظة في وجهة نظره كانت تتكل حكومة متماسكة لمواجهة الكارثة، واعتبر في تصريحات لـ”قناة سي إن إن” الأمريكية الاتهامات التي طالته بالفساد على مدار شهور بأن أزمة البلاد الاقتصادية كانت تتطلب “كبش فداء”.
تعتبر تلك التصريحات هي الثانية من نوعها التي يتدخل فيها سلامة في السياسة، فطوال حياته لم يقترب من نيرانها حتى حين استقال رئيس الوزراء سعد الحريري عام 2017 لم يعلق إلا بعدما عدل الحريري عنها، وأكد أنها كادت أن تزعزع الاستقرار اللبناني، وينال من متانة الليرة اللبنانية والاقتصاد الوطني”، وفي استقالة الحريري الثانية لم يبدي أي تعليقا بشأنها.
الديون التي يعاني منها البنك المركزي حاليًا سببها استمرار تمويل القطاع المصرفي اللبناني الاقتصاد على مدار عقود من الأزمات بقيمة إجمالية تتجاوز 60 مليار دولار تتجاوز قيمة الناتج المحلي اللبناني بأكمله، واستطاعت سياسات البنك في القضاء على الركود الذي يصيب القطاع العقاري في لبنان، بعد دعم المصارف اللبنانية للشقق السكنية الصغيرة، مما شجع الطلب عليها، في ظل غياب هذا الطلب على الشقق الكبيرة غير المدعومة.