منذ فترة ليست ببعيدة تم تدشين حزب سياسي مصري جديد، تحت مسمى حزب ” الجبهة الوطنية “، وقد صحب نشأته الكثير من الجدل، والذي ما زال مستمراً، وتثور معظم التساؤلات حول برنامج الحزب الجديد وأهدافه، وطبيعة الدور السياسي أو المجتمعي على أقل التقدير، وقد كان أهم أسباب ما يثار حول نشأة هذا الحزب، ما أدلى به الوزير السابق/ عاصم الجزار بوصفه أحد مؤسسي الحزب من خلال برنامج حكاية المذاع على قناة “إم بي سي” أن الحزب هو بيت خبرة؛ يهدف إلى إثراء الفكر وإعادة بناء الوعي المصري المعاصر، مؤكداً في حديثه أن الحزب لا يسعى إلى الأغلبية أو المغالبة، بل إنه يستهدف التأثير النوعي وليس الكمي. وذلك القول هو ما أكده الأستاذ/ ضياء رشوان، والذي أضاف “إننا سنشكر الحكومة عندما تصيب، ونعارضها عندما تخطئ” مؤكداً أن مصر ليس لها حزب حاكم، حتى يكون هناك حديث عن مولاة أو معارضة. وفي ذات السياق فقد أدلى الأستاذ/ السيد البدوي رئيس حزب الوفد السابق، عن سياق العمل الحزبي، بأنه لا يوجد حياة حزبية، وأن حزب الوفد لا يمثل أي نوع من الأغلبية أو المعارضة، كما أن الحياة الحزبية داخل حزب الوفد تديرها أموراً أخرى غير الحياة الحزبية الحقيقة.

ومن مجمل هذه الأحاديث، نجد أن الأحزاب السياسية، والتي تمثل في الأعراف السياسية أحد أهم أفرع التطور السياسي، يجب أن تتوجه إلى مخاطبة الجماهير، بصور تجذبها إليها عن طريق البرامج الإصلاحية، التي قد تختلف قليلاً أو كثيراً عن البرامج الحكومية، مستهدفة بذلك استحداث أنماط للعمل العام، والتدخل بإحداث الآثار الإيجابية في الحياة العامة، وهو ما يعود بالنفع على المجال العام، والحراك السياسي، وتطوير المجتمعات.

وقد مرت الحياة الحزبية المصرية بمراحل مختلفة ومتباينة، فيما يخص الحياة الحزبية، إذ من بعد التواجد وقت سريان دستور 1923، ثم بعد قيام ثورة 1952 بإلغاء الحياة الحزبية، وذلك بوجود التنظيم الواحد متمثل في التنظيم الطليعي، ثم الاتحاد الاشتراكي، ثم العودة بعد ذلك إلى نظام الأحزاب– وإن كان بشكل مقيد– في عصر الرئيس السادات، والذي أتاح الفرصة لوجود ثلاثة أحزاب، وتولى بنفسه رئاسة أحدهم، وهو الحزب الوطني الديمقراطي، مما كان له الأثر البالغ على  الحياة الحزبية، إلا أنه بعد إجراء أول انتخابات نيابية في ظل تواجد الأحزاب السياسية حينها، وحصول كل منهم على نسبة من التمثيل النيابي، إلا أن حزب الرئيس حصل على النسبة الغالبة، وإن شهدت الحياة السياسية والحزبية بعدها، ما يشبه الاحتكار للحياة الحزبية متمثلاً في استحواذ الحزب الوطني الديمقراطي على النسب الغالبة في كافة الانتخابات النيابية أو النقابية أو حتى على مستوى المحليات، وأعتقد أن ذلك الاحتكار السياسي كان من أهم أسباب قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير لسنة 2011، ذلك على الرغم من فتح نوافذ لدخول بعض الأحزاب في المعترك السياسي، فقد شاهدنا في حقبة الثمانينات من القرن الماضي تزايد شعبية حزب العمل المصري، والذي كان له دور بارز في مجلس الشعب حينها، حتى أننا لاحظنا في حقبة التسعينيات تواجد ملحوظ لفصيل الإخوان المسلمين داخل مجلس الشعب المصري.

إلا أنه خلال السنوات السابقة فقد تلاحظ وجود تيار غالب في الحياة السياسية المصري، وقد كان ممثلاً في الدورة البرلمانية الأخيرة في حزب مستقبل وطن، إذ على الرغم من حداثة نشأته، إلا أنه من خلال التحالفات السلطوية والمالية قد سيطر على الأغلبية البرلمانية، إلا أن الجهد الملحوظ له من خلال متابعة العمل النيابي، هو متابعته وحرصه الشديد على تأكيد دور السلطة الحاكمة في كافة تصرفاتها، وكافة ما تتقدم به من قوانين، وهو مما يؤكد دوره على أنه حزب مولاة للسلطة.

لكن المثير في أمر استحداث حزب الجبهة الوطنية هو محاولة تقديم أسهم النقد إلى تصرفات حزب مستقبل وطن، والذي يعد أحد مستخرجات أو مولودات ذات الرحم، والحديث لا يمل بين المصريين، على أن حزب الجبهة الوطنية ما هو إلا مجرد استحداث وجوه في الحياة السياسية، بعد أن تم استخدام حزب مستقبل وطن في مرحلة مضت، فإنه سيتم ذلك أيضا من خلال حزب الجبهة الوطنية.

وبما أن الحزب السياسي من الزاوية التنظيرية الفقهية في أغلب العلوم السياسية، أو الحزبية، يعمل في الأساس كوسيط بين أفراد الشعب ونظام الحكم في الأنظمة الديمقراطية بأنواعها، فإن الأحزاب المختلفة يكون لها أدوار رئيسية ومهمة في ذلك الشكل من أشكال الحكم، أهمها صياغة احتياجات ومشاكل المواطنين، وطرح مقترحات لحلها وتقديمها إلى الجهات الحكومية المختلفة بصورة قانونية، وتنظيم نشاطات توعية وتثقيف للناخبين حول النظام السياسي والانتخابات والدعاية لرؤية الحزب لتقدم الدولة، وذلك من خلال نقد ما يجب نقده من ممارسات الدولة، كذلك تعمل الأحزاب على نشر الدعاية بين المواطنين لأفكارها وترشيح ممثليها في الانتخابات. وحتى تتواجد الأحزاب السياسية بشكل حقيقي، لا يقف الأمر عند حد التواجد النصي سواء كان على مستوى النصوص الدستورية أو القانونية، ولا حتى المواثيق والاتفاقيات الحقوقية، إذ أنها جميعاً لا تمثل سوى ترسانات لفظية، لا بد من إتاحة الفرصة الحقيقية للتواجد في الحياة الواقعية، ولا يكون ذلك إلا من خلال توافر مناخ سياسي مفتوح يسمح بحرية الحركة ويعلي من قدر الأحزاب إلى جانب بيئة وطنية حاضنة للقوى السياسية الصاعدة، على اعتبار أن الأحزاب هي مدارس لتخريج الكوادر التي تملأ الفراغ السياسي وتقود الحركة في حيوية وبدماء متجددة.

لكن الوضع في مصر ما زال مختلفاً كلياً عن كل هذه التعريفات أو الأنماط الفكرية والنماذج التعريفية، إذ ما زالت الحركات الاجتماعية مؤطرة بنسب ليست بالقليلة بمدى تمازجها أو ارتباطها بالسلطة الحاكمة، بحيث لا تكون هناك مساحات مفتوحة للمعارضة السياسية بشكل تام أو كلي، وهو الأمر الذي يظهر الحركات السياسية، خصوصا من بعد ثورة يناير 2011، بالعجز وقلة الحيلة، وعدم القدرة على استكمال طريق حقيقي لتفعيل نموذج حزبي معارض فعلي على الشاكلة التي نراها في معظم دول العالم، وهو الأمر الذي يعود على الحياة السياسية والمجال العام في مصر بالإيجاب، إذ لا يمكن بحال من الأحوال أن تدار الدول بقالب فكري موحد، دوما هو صاحب الصواب، ولا يوجد وجهات أو نوافذ اجتماعية، تملك سبل لتوجيهه للصالح العام، فالأحزاب السياسية تمثل التيارات الفكرية والسياسية الموجودة في المجتمع ، والتي تتنافس على فرض برامجها، من خلال إقناع الناخبين الذين يمثلون فئات عريضة من الشعب، فهي تقوم بوظيفة “ترشيد الاختلاف بين التيارات الفكرية والسياسية داخل المجتمع” لأن التنافس الانتخابي هو المحدد الوحيد لفرض البرنامج الانتخابي وليس الصراع والتناحر، فلا يمكن تصور دولة ديمقراطية من غير أحزاب وتنافس انتخابي، وتداول سلمي للسلطة، وأضحت الأحزاب السياسية تقوم بدور أساسي في بلورة المفهوم الحديث للمشاركة السياسية الذي يربط ممارسة السلطة بالإرادة الشعبية.