منطقة الزرق، الواقعة شمال ولاية دارفور، واحدة من أبرز المناطق التي شهدت صراعات ممتدة بين مختلف الأطراف المسلحة في الإقليم. هذه البلدة، تتمتع بموقع استراتيجي ضمن وادي الزرق، كانت منذ عام 2017 مركزًا لقاعدة عسكرية، أنشأتها قوات الدعم السريع، إلى جانب منطقة سكنية تم تزويدها بخدمات متعددة مثل التعليم والصحة والمياه. إلا أن هذه المنطقة باتت بؤرة لتوترات متزايدة بين القوات المشتركة “وهي القوات المدعومة من الجيش والتي تمثل قبائل الزغاوة الإفريقية” وبين قوات الدعم السريع، حيث تصاعدت وتيرة العنف منذ منتصف عام 2024.

الصراعات حول منطقة الزرق لا تقتصر على الأبعاد العسكرية فقط، بل تمتد إلى قضايا تاريخية واجتماعية تتعلق بالنزاع على الأراضي والهوية بين القبائل المحلية، مثل الزغاوة والماهرية، مما زاد من تعقيد الأوضاع في هذه المنطقة ذات الأهمية الجغرافية. كما أن التقارير الميدانية تشير إلى انتهاكات متبادلة وعمليات قصف واستهداف للمدنيين في إطار المعارك المستمرة، مما فاقم من معاناة السكان، وأدى إلى نزوح كبير وتدمير للقرى والبنى التحتية.

تهدف هذه الملامح العامة إلى تسليط الضوء على الخلفية التاريخية والجغرافية والاجتماعية لمنطقة الزرق والصراعات المحيطة بها، في محاولة لفهم السياق الأوسع لهذا النزاع المعقد وأثره على سكان المنطقة.

الموقع الجغرافي

 تقع منطقة الزرق في شمال ولاية دارفور ضمن وادي الزرق الذي يمتد بطول 150 كيلومترًا من حدود تشاد غربًا إلى ولايات كردفان ونهر النيل شرقًا.وتعد المنطقة جزءًا من دار الزغاوة تاريخيًا، حيث يقطنها الزغاوة إلى جانب قبائل أخرى كالرزيقات الماهرية والكبابيش والقرعان. والمنطقة استراتيجية لتقاطعها مع طرق تربط بين السودان وليبيا وتشاد، وتمثل حيزًا اقتصاديًا وثقافيًا هامًا، حيث كانت مركزًا لحركات دارفور المسلحة منذ عام 2003.

 نقطة استراتيجية ومحور صراع مستمر

في يونيو 2024، تحولت منطقة الزرق في شمال دارفور إلى ساحة لصراع دموي بين القوات المشتركة المدعومة من الجيش، وبين قوات الدعم السريع. اندلعت المعارك في أرجاء المنطقة، وكانت النيران تأكل القرى واحدة تلو الأخرى. لم تكتف قوات الدعم السريع بحرق القرى ونهب ممتلكات السكان، بل استغلت موقعها لتنفيذ أنشطة غير قانونية، شملت الإتجار بالبشر وتهريب المخدرات والأسلحة، مما أضاف بعدًا مُظلمًا إلى هذا الصراع المحتدم.

وفي 18 ديسمبر الماضي، وقعت مذبحة مروعة في قرية أبو زريقة، وهي قرية صغيرة تسكنها قبيلة الزغاوة، خلت تمامًا من أي مظاهر عسكرية. إلا أن ذلك لم يمنع قوات الدعم السريع من مهاجمتها وحرقها بالكامل، متسببة في مقتل 21 شخصًا وإصابة 20 آخرين، ليصبح المشهد شديد المأساوية.

صورة لمقبرة جماعية لضحايا مجزرة أبو زريقة

بعد أيام قليلة، وتحديدًا في 22 ديسمبر، شنت القوات المشتركة هجومًا واسعًا على مواقع قوات الدعم السريع في الزرق. نجحت القوات في السيطرة على مواقع استراتيجية مثل بئر مرقي وبئر شلة، إلا أن هذا التقدم العسكري رافقته انتهاكات بحق المدنيين. إذ تعقب الجنود بعض السكان المحليين من القبائل العربية، وأطلقوا النار عليهم، مما أسفر عن مقتل 12 شخصًا، بينهم نساء وأطفال. لتوصم المنطقة باعتبارها مرتعًا للخوف والدماء، حيث لم يعد أحد في مأمن من القتل أو التهجير.

وفي 28 ديسمبر، حلت كارثة أخرى حين قصفت قوات الدعم السريع مدرسة “قوز بينة” التي كانت ملاذًا آمنًا للنازحين من مذبحة قرية أبو زريقة. وكانت النتيجة مروعة كالمعتاد؛ 21 قتيلًا و17 جريحًا، غالبيتهم من المدنيين العزل الذين ظنوا أنهم وجدوا مأمنًا بعيدًا عن نيران الحرب.

صورة لضحايا قرية أبو زريقة

مغالطات تاريخية

الزاوية التاريخية مغالطات تغذي الصراع

وقد لعبت المغالطات التاريخية دورًا كبيرًا في تغذية الصراع في منطقة الزرق، حيث استُخدمت روايات غير دقيقة حول الأحقية بالأرض والانتماءات القبلية لتبرير النزاع بين قوات الدعم السريع، التي تمثل القبائل العربية مثل الماهرية والمحاميد وأولاد راشد، والقوات المشتركة المدعومة من الجيش، والتي تمثل قبائل الزغاوة الإفريقي

أبرز هذه المغالطات كانت الادعاء بأن الماهرية والرزيقات يملكون حواكير (أراضٍ موروثة) في شمال دارفور، بما في ذلك منطقة الزرق. تاريخيًا، تعود هذه الأراضي إلى قبائل الزغاوة الذين يسكنون المنطقة منذ القدم، كما توثقها الخرائط والاتفاقيات القبلية المعترف بها خلال حقب الاستعمار وسلطنة الفور. ومع ذلك، سعى الوافدون الجدد من القبائل العربية لتغيير هذا الواقع، مستخدمين روايات تاريخية مفبركة، تدّعي أن الزغاوة لم يكن لهم وجود تاريخي في المنطقة، ما أثار موجات من التوتر بين الجانبين.

من جهة أخرى، استُخدمت مغالطة أخرى تتعلق بأصول وادي هور، الذي ينبع من مرتفعات إنيدي في تشاد ويمر عبر دار الزغاوة. في محاولة للتقليل من الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة للزغاوة، رُوجت ادعاءات، بأن هذا الوادي يشكل امتدادًا لأراضٍ عربية بحتة. كما أُعيد صياغة تاريخ الزغاوة، الذين كانوا يُعتبرون من أقدم سكان هذه المنطقة، لطمس هويتهم، واعتبار وجودهم في الزرق جديدًا وغير شرعي.

ساهمت هذه المغالطات في تحويل الصراع من نزاع على النفوذ إلى صراع إثني عميق. فجُرد الزغاوة من حقوقهم التاريخية، بينما استُخدمت المجموعات العربية، مثل الماهرية والمحاميد، كأداة لتبرير التوسع والسيطرة على المنطقة، مما أدى إلى تصاعد العنف.

على الجانب الآخر، استغل الخطاب المناصر للقوات المشتركة فكرة أن الدعم السريع يمثل قوة غازية ذات أجندات خارجية مرتبطة بقبائل عربية عبر الحدود مع تشاد وليبيا. هذه السردية ساعدت في تعزيز الاستقطاب، حيث جُعل الصراع يبدو وكأنه معركة بين سكان أصليين ودخلاء، ما أدى إلى تعبئة واسعة وتصاعد للعداء بين المجتمعات المحلية.

هذه المغالطات التي تم توظيفها بشكل متعمد من قبل الأطراف المتصارعة، لم تُسهم فقط في إشعال الحرب، بل أضافت أبعادًا إثنية وتاريخية، زادت من استدامة الصراع، وجعلت الوصول إلى حلول سلمية أكثر تعقيدًا.