مع استمرار العمليات العسكرية في السودان في عدة مناطق، أبرزها ولاية الجزيرة، ومدن بحري والخرطوم والفاشر، يعاني المدنيون من انتهاكات متعددة، يقع ضحيتها فئات واسعة من السكان. هذه الانتهاكات تُغذّيها دوافع وخطابات، تُستخدم كأدوات في الصراع المسلح، مما يُطيل تأثيرها على بلد يعاني من بيئة خصبة للعنف وهشاشة اجتماعية؛ ناتجة عن صراعات تاريخية وأزمات سياسية مستمرة منذ استقلاله عام 1956. هذه العوامل جعلت الصراع الحالي أكثر دموية، وتنذر بطول أمده بعد استمراره لنحو عامين.
يحمل الصراع السوداني في طياته خلفيات عرقية وقبلية وسياسية، كانت سببًا في اندلاع الحرب، كما أصبحت محفزًا لاستمرارها وعاملًا رئيسيًا في تهديد الوحدة الوطنية.
مع استعادة الجيش السوداني سيطرته على عاصمة ولاية الجزيرة، ود مدني، ومناطق واسعة من العاصمة الخرطوم، برزت قضية محورية، تؤثر بشكل كبير على مستقبل البلاد، وهي مسألة المدنيين الذين يُشتبه في ارتباطهم أو تأييدهم لأحد أطراف النزاع. يُطلق محليًا على هؤلاء المدنيين مصطلح ،المتعاونين”، وهو تعبير شائع، يُستخدم أحيانًا بناءً على الاشتباه.
ولا يوجد أي أساس قانوني يبرر وقوع هذه الانتهاكات ضد هؤلاء المدنيين الذين يُشتبه بتعاونهم مع أحد الأطراف العسكرية، هي فقط مجرد الانتماء لخلفيات قبلية معينة أو التواجد الجغرافي في مناطق النزاع.
في هذا التقرير، نستعرض حالات الانتهاكات التي طالت المدنيين تحت دعاوى التعاون مع الأطراف العسكرية، ونُحلل الدوافع والمسببات لهذه الانتهاكات وتأثيرها على إطالة أمد الصراع في السودان.
الاستهداف على أساس قبلي
في 12 يناير، قبيل دخول الجيش إلى مدينة ود مدني، شنت قوات الدعم السريع حملات اعتقال على أساس قبلي في مدن رفاعة والكاملين وودارة في شرق الجزيرة. حيث كانت القوات تستجوب المواطنين عن انتمائهم القبلي، مثل: “هل أنتم شكرية، أو كواهلة، أو رفاعيين؟”، وهي قبائل تشكل غالبية السكان في المنطقة. ظهرت حالة من الهستيريا في صفوف القوات بعد تقدم الجيش وفرحة الأهالي في الجزيرة إثر استعادة ود مدني، ما دفع قوات الدعم السريع للاعتقاد، بأن جميع سكان المنطقة يتعاونون مع الجيش، خاصة وأن هذه المنطقة تُعتبر المكون الرئيسي لقوات “درع السودان” وهي قوات تعمل تحت قيادة القوات المسلحة. وتقع هذه الانتهاكات على الرغم من أن سكان هذه المناطق لم يشاركوا بشكل فعال في النزاع الدائر، إلا أن قوات الدعم السريع قامت بتصفية عشرات المعتقلين، بناءً على مزاعم إرسال معلومات استخباراتية إلى الجيش أو تزويد الطيران الحربي بإحداثيات.
ترافقت هذه الجرائم مع إجراءات، تشمل وقف شبكة الإنترنت الوحيدة (ستارلينك)، ما أدى إلى انقطاع الاتصال بين الأهالي وأسرهم، وحرمانهم من تلقي التحويلات المالية التي تعتبر عصب الحياة لشراء الطعام، خاصة بعد استبدال العملة. كما فرضت قوات الدعم السريع حظرًا على التعامل بالعملة الجديدة، مما حول هذه المدن إلى سجن كبير، وحصار خانق، خصوصاً بعد منعهم خروج المواطنين وسط تهديدات بمعركة وشيكة.
استهداف المتطوعين في العمل الإنساني
في 10 يناير، تم اعتقال عدد من المتطوعين العاملين في تكية بري اللاماب من قبل قوات الدعم السريع، على الرغم من أن هؤلاء المتطوعين يعملون على تقديم المساعدات الإنسانية الضرورية للمحتاجين، دون أي انحياز سياسي أو عسكري. وهم ينفذون مهامهم بدافع إنساني بحت لدعم المتضررين من الظروف الحالية.
يتعرض المتطوعون في العمل الإنساني في مناطق سيطرة قوات الدعم السريع إلى اتهامات بالتعاون مع الجيش، استنادًا إلى تحليل حركتهم وسط الأحياء، على أنها تمثل جمعًا للمعلومات الاستخباراتية. وقد روج أفراد من قوات الدعم السريع لهذه الاتهامات بعد مقتل العديد من جنودهم والهزائم التي تعرضوا لها في أرض المعركة. ومنذ اندلاع الحرب، يواجه المتطوعون انتهاكات ممنهجة وظروفًا قاسية. ولضمان استمرارية عملهم وتقديم المساعدات، يضطر هؤلاء المتطوعون إلى التنسيق مع الجهات المسيطرة على المنطقة، مما يعرضهم للتحقيق والمخاطر المتزايدة. ولتبيان فداحة ما جرى ويجري مع هذه الفئة فيكفي أن نعلم أنه منذ بداية الحرب، قُتل أكثر من 21 متطوعًا، واعتُقل نحو 93 آخرين.
التداعيات:
تعتبر الانتهاكات المرتكبة ضد المدنيين في السودان تحت دعاوى وذرائع “التعاون” مع أطراف النزاع أحد أبرز العوامل التي تسهم في إطالة أمد الصراع وتعقيد عملية الحل السياسي. إذ يتم التعامل مع كل من يشتبه في تعاطفه أو تأييده لأي من الأطراف المتحاربة، على أنه “متعاون” مع العدو، مما يعرضه للملاحقة والاعتقال، بل والتصفية في بعض الأحيان. هذه الاتهامات التي يتم إطلاقها على المدنيين بناءً على خلفيات قبلية أو سياسية، تؤدي إلى تزايد الانقسامات المجتمعية وخلق بيئة من الشك والريبة بين مختلف الأطراف، مما يعطل التفاعل المدني والإنساني بين المجتمع المحلي والأطراف المتصارعة.
إحدى المسببات الرئيسية لهذه الانتهاكات، هي غياب التوصيف القانوني الواضح للمفهوم المحلي “للتعاون” في ظل النزاع المسلح، ما يسمح باستخدام واسع النطاق وفضفاض في استخدام هذه الاتهامات ضد أي شخص يتواجد في مناطق النزاع، أو يشتبه في أنه يُظهر أي نوع من الدعم لأحد الأطراف. ومع غياب الآليات القانونية لحماية المدنيين والمتطوعين من هذه الاتهامات، تصبح الحياة في مناطق الصراع أكثر خطورة.
تستمر هذه الديناميكيات في تغذية العنف، مما يجعل من الصعب العودة إلى حالة من الاستقرار. فالتضييق على المدنيين تحت ذريعة “التعاون” يعزز من ثقافة الانتقام والملاحقة، ويؤدي إلى إعاقة أي جهود لإيجاد حل سلمي. علاوة على ذلك، فإن هذه الممارسات تساهم في قطع روابط التواصل بين الأطراف المتنازعة، مما يطيل أمد القتال، ويجعل من الصعب تحقيق تسوية أو حتى اتفاق هدنة. في ظل هذا السياق، تصبح الانتهاكات بحق المدنيين و”المتعاونين المحتملين” أداة من أدوات إطالة الصراع، حيث تصبح التهم والاتهامات بالحصول على معلومات أو تقديم دعم للأعداء ذريعة لاستمرار الحرب.