ماذا يحدث إذا عاد “جمال عبد الناصر”؟!

التاريخ لا يعرف الأسئلة الافتراضية، والعودة نفسها تغري بالتفكير الأسطوري، غير أن عددا من الروائيين المصريين والعرب، حاولوا تجنب المحظور وربط فكرة العودة بالحاضر المأزوم، أبرزهم “نجيب محفوظ” في روايته “أمام العرش” (1984).

في “قاعة العدل بجدرانها العالية المنقوشة بالرموز الإلهية وسقفها المذهب، تسبح في سمائه أحلام البشر”، جرت محاكمة افتراضية لـ”عبد الناصر” ترأسها “أوزريس”.

المحاكمة شملت كل من أسبغت عليه الرواية صفة الخلود من حكام مصر منذ “مينا” موحد القطرين.

على طريقة “مارك أنطونيو” في رثاء “يوليوس قيصر” مازج النص بين المدح والقدح.

فهو “يشع عظمة، تملأ الوطن وتتجاوز حدوده”، وهو “نجح في أن يجعل هزيمته تفوق كل نصر”، و”الفقراء لم ينعموا بالأمان والأمل، كما حدث في عهده”، لكنه “شطب اسم مصر الخالد بجرة قلم”، و”فاق اهتمامه بالوحدة العربية على الوحدة المصرية”، و”اضطر العديد من أبناء مصر إلى الهجرة، التي لم يمارسوها إلا فترات قهر عابرة!”.

“على الرغم من نشأته العسكرية، فقد أثبت قدرة فائقة في كثير من المجالات إلا العسكرية، بل لم يكن قائدا ذا شأن بأي حال من الأحوال!”.

ثم إنه حاول محو اسم “سعد زغلول” من الوجود- كما جاء الكلام منسوبا إلى زعيم ثورة (١٩١٩) في المحاكمة التخيلية.

“جاءت ثورتك، فتخلصت من الأعداء، وأتمت رسالة ثورتي عرابي و١٩١٩، وبالرغم من أنها بدأت كانقلاب عسكري، إلا أن الشعب باركها ومنحها تأييده، وكان بوسعك أن تجعل من الشعب قاعدتها، وأن تقيم حكما ديمقراطيا رشيدا، لكنك انتهجت حكما استبداديا، هو المسئول عن جميع ما حل من سلبيات ونكبات”.

كأي عمل فانتازي، فإنه يحمل آراء وتصورات مؤلفه في النظر إلى التاريخ ووقائعه وأبطاله.

بالتكوين الفكري لـ”محفوظ”، فهو وفدي الميول.

لم يكن بالغ الإعجاب بـ”سعد”، الذي نسب إليه في محاكمة أخرى بذات الرواية، أنه قد تعامل مع الاحتلال بعد هزيمة الثورة العرابية، وأن ثورة (١٩١٩) قد باغتته، دون أن يكون له دور كبير في إطلاقها.

كان “مصطفى النحاس” خليفة “سعد” هو مثله الأعلى، وفي محاكماته الافتراضية، لم يوجه له أي نقد من أي نوع، ولا بأي درجة وأدخله سجل الخالدين بلا أي سؤال عن حادث (٤) فبراير (١٩٤٢)، الذي قبل به الحكم على أسنة الحراب البريطانية، أو حول ما هو منسوب إلى عائلته من تجاوزات، وردت في “الكتاب الأسود”، أو ما هو منسوب إليه من تقبيل يد الملك عند تكليفه بآخر حكومة تولاها بضغط من أصحاب المصالح، حتى يبقى في الحكم لأطول فترة ممكنة.

يتمتع “النحاس” بمحبة معاصريه، وهو “زعيم الأمة بلا منازع حتى اتفاقية ١٩٣٦”، ويستحق بحجم دوره، أن يدخل في الخالدين، غير أن المفارقة لافتة.

بدت أحكامه تعبيرا عن توجهاته وانحيازاته، والكلام يناقض بعضه، فما أضفى على “عبد الناصر” هيبته الاستثنائية، كما اعترف هو نفسه، سياساته التحررية وإيمانه الصارم بالقضايا العربية، التي عزا إليها إخفاقاته!

مضت أغلب محاكمات حكام العصور الحديثة بشيء من التوازن أحيانا، والتحامل أحيانا أخرى.

تقتضي الفانتازيات الالتزام بالوقائع التاريخية، دون تحريف وإطلاق الحوارات الافتراضية، بما يتسق مع الطبيعة المعروفة للشخصيات لبناء تصورات جديدة لها.

بدت شخصية “عبد الناصر” في “أمام العرش”، كما لو كانت مرآة للعمل كله، تفسره وتفك ألغازه، كما بدا العمل نفسه مرآة ثانية لأعمال “نجيب محفوظ”.

في توقيت لاحق، نُشرت فانتازيات روائية أخرى، بدت في جوهرها ردا غير مباشر على محاكمة “محفوظ” الافتراضية.

في رواية “بكر الشرقاوي”، “وقائع ما حدث في يوم القيامة بمصر” (1987)، استلهم هو الآخر بصورة مختلفة الإرث المصري القديم، فـ”عبد الناصر” هو “أوزوريس”، الذي مزقه “ست” في الأسطورة المصرية القديمة إلى أشلاء، وناضلت “إيزيس” من أجل تجميع جسده الممزق.

“ـ سيادة الرئيس.. لماذا اختفيت فجأة..؟

ـ ومن قال إني اختفيت.. إني لا زلت موجودا في مصر، في عمق مصر، في كل أعماقها”.

السؤال والجواب كانا موضوعا لأعمال روائية، تخيلت عودة “عبد الناصر”، وأسقطت على ما تخيلته رؤيتها وانحيازاتها ونظرتها إلى الواقع وتحدياته.

الفكرة في ذاتها تعبير عن قوة الحنين إليه، إلى شيء من عصره انقضى فعله.

من موقعه القديم في ميدان “باب الحديد”، تحرك تمثال “رمسيس الثاني”، كأنه اكتسب صفته الإنسانية، متجها وسط ذهول الناس إلى “كوبري القبة”، حيث دُفن “عبد الناصر”.

أمام الضريح، يقول في بطء مهيب: “السلام عليك يا عبد الناصر، يا عدو أعداء مصر ومحاربهم”.

“قم يا عدو بني إسرائيل، فأنت تعرفهم أنت آخرنا، أول القادمين.. قم إليهم.. قم إلى مصر والعالم كله”.

تبدأ بعودته قصة جديدة افتراضية في المواجهة.

ينتقل “عبد الناصر” إلى حلوان أهم مناطق مصر الصناعية، وإلى الريف والجامعات، يخطب ويحرض على “الثورة”، ويجدد في فكرها ويضيف الديمقراطية السياسية إلى مشروعه، ويبدأ في كتابة الجزء الثاني من “فلسفة الثورة”.

عندما نشرت هذه الرواية، وصفها الناقد الأدبي الدكتور “لويس عوض”، رغم انتقاداته لـ”يوليو”، في مقال نشرته “الأهرام”، بأنها أفضل رواية في العشر سنوات الأخيرة.

وفي “كتاب التجليات” لـ”جمال الغيطاني” (١٩٩٧)، استلهام من نوع آخر، حيث فاجأت “عبد الناصر” العائد “أعلام العدو فأمر بتنكيسها وإزالتها من فضاء القاهرة، وأمر بإلقاء القبض على جميع أفراده المتواجدين في الديار من سفير وأعضاء سفارة، و.. لم يجد قلما وشعارا يوقع به فطاف بالميادين يزعق ويصيح، فالوسائل معدومة والحيلة واهية، والقدرة قصية، والوجوه غريبة، والسحن غير معتادة، والأيام غير الأيام والزمن خلاف الزمن”.

“من الحواري خرجت النسوة حاسرات ومصفقات ضارعات شاكيات، ارتجفت صدور وأينعت قلوب واختفى آخرون، وفجأة خرج جند كثر، يقودهم ضابط صغير، يرتدي حلة سوداء غريبة مليئة بالجيوب والطلقات، أشهر خنجرا، دفع عبد الناصر في صدره، وأومأ فتدافع الجند اقتدوه فتفرق الخلق، ونزل صمت بغيض ثقيل؛ فأينعت الهموم وتدفقت مياه جديدة في أنهار البلوى”.

من فرعونية “بكر الشرقاوي” إلى صوفية “جمال الغيطاني” بدا حضور “عبد الناصر” قويا إلى درجة استدعائه لإبداء رأي، فيما هو جارٍ من أحداث وتحولات.

الأول- بدا كما لو كان يتنبأ بثورة.. والثاني- توقع إجهاضها.

اللافت أن “محفوظ” نفسه مال في روايته “يوم قتل الزعيم” إلى التعريض بـ”أنور السادات” وسياسة الانفتاح الاقتصادي: “ما هو إلا ممثل فاشل”.. “صديقي بيجين.. صديقي كيسنجر.. الزي هتلر والفعل شارلي شابلن”.

بأثر النكسة ووطأة الانفتاح عجز الحفيد الناصري عن إتمام زواجه من خطيبته، التي تشاركه الأفكار نفسها، “أعلنت الخطوبة في عهد الناصرية وواجهتنا الحقيقة في عصر الانفتاح”.

 كانت تلك الرواية شهادة على قوة المشروع الناصري ونفاذ تأثيره في الأجيال الجديدة.

في آخر أعماله “أحلام فترة النقاهة”، وهو لا يكاد يرى ما حوله، خاطب “عبد الناصر” بحوار تخيلي آخر: “أنت صديقي”!