مع بداية كل موسم زراعي، تعيش مصر حالة من الضنك؛ بسبب توزيع الأسمدة الزراعية الاصطناعية على الفلاحين. مع مطلع كل دورة زراعية يبدأ مسلسل الهم والغم الذي يعيشه أكثر من 5 ملايين نسمة، هم عدد العاملين بالنشاط الزراعي وفق إحصاء الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

مع الدورة الزراعية الشتوية، حيث يبدأ موسم زراعة القمح والقصب، وبداية الدورة الصيفية، حيث يبدأ موسم زراعة الذرة والأرز، يحمل الملايين مشكلة شح الأسمدة. بين الموسمين تبدأ زراعة القطن في شهر مارس من كل عام، وفي جميع الأحوال تحتاج الخضروات وحدائق الفاكهة وغيرها من المحاصيل إلى آلاف الأطنان من الأسمدة. في تلك الأوقات تزدحم الجمعيات الزراعية، ويبلغ عددها على مستوى الجمهورية نحو 6050 جمعية زراعية، وتمتلئ عن بكرة أبيها بالمزارعين. وسط كل هذا الزخم تظهر النزاعات والمشاجرات والأعمال المثيرة للأحقاد؛ بسبب أصحاب الحظوة، وأعمال أخرى تتعلق بالدور وترتيب الأسماء ومشكلات كارت الفلاح التي لا تحصى، ناهيك عما تقوله الحكومة، من أن هناك محاصيل أولى من غيرها في الحصول على السماد المدعم، وهي تحديدا القمح والذرة والقطن والقصب، وأخرى على مزارعيها أن يتصرفوا بمعرفتهم واتصالاتهم للحصول على احتياجاتها. في كل هذه الظروف يستعين مدراء الجمعيات بالشرطة لتنظيم الناس، والفصل بين المتشاجرين، في مشهد مأساوي بامتياز.

تبيع الجمعيات الزراعية شكارة السماد وزنتها 50 كجم، أو ما يحلوا للعامة تسميته بـ “الكيماوي” بنحو 240 جنيها للشكارة الواحدة، وذلك بعد أن قفز ثمن الشكارة في نوفمبر 2021 مائة جنيه مرة واحدة. اليوم يبلغ سعر الشكارة 1000 جنيه على الأقل في السوق السوداء. هذا الفرق الكبير يفضي إلى إفقار الفلاح فوق فقره، ويزيد من ارتفاع أسعار الخضروات والفاكهة والحبوب إلى الدرجة التي تئن منها الطبقتان الفقيرة والمتوسطة، خاصة بعد أن تركت الدولة المستهلك نهبا لجشع نفر من التجار، الذين مردوا على عدم وضع أسعار للسلع المخصصة للبيع على أرفف المحلات، واعتادوا على إهمال أجهزة الرقابة والتحايل عليها ومعها.

واحد من أكثر الأمور المؤدية للأزمة، نقص واردات الغاز إلى مصانع الأسمدة، وهو أمر تتحمله الدولة بامتياز، لكونها فقدت فقه الأولويات، فراحت بعناد مبالغ فيه في استكمال المونوريل، وبناء عديد المحاور والطرق التي أصبح الكثير من الناس يمرون بسيارتهم فوقها ليلا بمفردهم. مقابل ذلك كله تهمل قطاعي الصحة والتعليم، فتؤجر المستشفيات العامة، وتقف مكتوفة الأيدي، ودولة الإمارات العربية المتحدة تشترى معامل التحاليل والأشعات وقبلها تشتري عديد المستشفيات الخاصة، وتترك قطاع التعليم كحقل تجارب لكل وزير، وتهمل بناء المدارس، وتترك أولياء الأمور نهبا للدروس الخصوصية والسناتر.. إلخ.

لقد كان من باب أولى، أن تقوم الدولة بدعم اكتشافات الغاز، وتطوير حقوله، بل وحتى استيراده مسالا (وقد استوردت بعضه صيف العام 2023 بعد فوات الأوان واستفحال الأزمة)، وكان ذلك سعيا لإمداد مصانع الأسمدة بما هو مقدر بـ 35% من المادة الخام اللازمة لإنتاج الكيماوي، خاصة وأن تلك المصانع لا تقوم فقط بإمداد الفلاح بالسماد المدعم عبر وزارة الزراعة، وهو ما يفضي لكثافة الإنتاج وجودة المحاصيل، ومن ثم فتح أبواب الرزق للفلاح المصري، بل (وفوق ذلك)، فإن مصر معروف عنها عالميا، أن سمادها من أجود الأسمدة، لذلك هي تشكل وباقي الصناعات الكيماوية واحدا من أهم مصادر العملة الأجنبية في التجارة الخارجية، إذ بلغت قيمة الصادرات وفقا لبيانات المجلس التصديري للصناعات الكيماوية والأسمدة 8 مليارات دولار في الـ11 شهر الأولى من العام 2024. جدير بالذكر أن إجمالي صادرات مصر للخارج بلغ خلال عام 2024 نحو 40,8 مليار دولار، وفقا لما ذكره وزير الاستثمار والتجارة الخارجية في 13 يناير الماضي، وهو رقم ضحل للغاية مقارنة بدول نامية كثيرة.

تبقى مشكلة مصانع الأسمدة مع البنوك العاملة في مصر، وعددها 38 بنكا منها 9 بنوك حكومية، إذ أن البنوك بدأت تمتنع عن إقراض المصانع، بسبب تعثر غالبيتها عن السداد، ما يجعل المصانع واقعة بين مطرقة غاز الحكومة الشحيح، والذي يصل أحيانا لحد المنع، كما حدث صيف العام 2023، وبين سندان البنوك التي تطالبها يوميا بسداد ما عليها من قروض، قبل ان تقرض تلك الشركات المزيد من المال، وهذه الأخيرة بالطبع غير قادرة على الوفاء بالدين لسببين أولهما: ضعف الإنتاج لشح وربما انقطاع إمدادات الغاز. وثانيا، تعثر المستوردين من الدول الأخرى عن الوفاء بالتزاماتهم المالية قبل الشركات التي صدرت لها بالأجل.

وسط كل تلك المشكلات، تقترح شركات الأسمدة رفع أسعار التوريد للحكومة، وهو ما قد يزيد بالتالي العبء على الفلاح، لأن الحكومة التي مردت على فرض الجبايات، تأبى أن تبقى على دعم رغيف الخبز والسلع التموينية، فكيف تبقيه للفلاح في موضوع الأسمدة!! إن المعاناة التي تقع على شركات الأسمدة مردها بالأساس إلى نقص الدولار اللازم لعملياتها الاستيرادية-وهو أمر مرتبط بضعف الإنتاج والاستيراد الترفي- وارتفاع تكلفة الإنتاج على شركات الأسمدة وعدم تمكنها من زيادة الأسعار، بما يوازي تلك التكلفة، وتراجع الإنتاج بسبب انقطاعات الغاز المتكرر.

جدير بالذكر، أن الحكومة تحصل من شركات الأسمدة على 55% من إنتاجها من الكيماوي بسعر مدعم مقابل حصول تلك الشركات على الغاز الطبيعي، وهو ما أصبحت تعتبره الشركات اليوم خسارة لها، لا سيما بعد عدم وفاء الحكومة بوعودها بعدم انقطاع الغاز عن الشركات.

واحد من الحلول الجذرية لحل أزمة الأسمدة، شح الأسمدة، هو أن تقوم الحكومة برفع الدعم عن الأسمدة كلية، مقابل زيادة أسعار توريد القمح والذرة والقطن والقصب، وهي السلع الأربع التي تبتلع السماد المدعم والموزع عبر الجمعيات الزراعية. هنا ستتغير معادلة الغاز المدعوم مقابل السماد المدعوم، وسيرتفع ثمن شكارة السماد، لربما تصل إلى 700 جنيه للشكارة الواحدة مقابل رفع غير عادل لأثمان المحاصيل الاستراتيجية الأربع آنفة الذكر. هنا يشار إلى أن هذا الأمر غير مضمون العواقب، لأن الحكومة كثيرا ما نكثت بوعودها، عندما يتعلق الأمر بالتزامات تقع على عاتقها قِبَل الغير.

في الحلول الوقتية، أن تقوم الحكومة بتشغيل خطوط إنتاج جديدة، وإعادة جدولة ديون الشركات للبنوك. وهنا ستقوم الحكومة بصفتها مالكا لسلعة استراتيجية بإنتاج جزء معتبر من السماد بنفسها.

على أي حال، أن الحكومة مطالبة بحل تلك الأزمة بشكل عاجل ورفع المعاناة عن كاهل الفلاح المصري، لا سيما وأنها تسعى لزيادة الرقعة الزراعية، وتحسين جودة الإنتاج الزراعي بطرق شتى. كما أنها مطالبة برفع أسعار الحاصلات، حتى لا تستورد السلع المنتجة في الداخل بأسعار أكبر من تكلفة الخارج، ما يثير مشكلة كبيرة وغير منطقية، وهي تدعم الفلاح الأجنبي لصالح الفلاح المصري.