ها قد وصلنا إلى المقال الأخير في هذه السلسلة، ولعل القراء يذكرون، أننا وعدنا في المقال التمهيدي، بأن نخصص الحلقة الأخيرة للإجابة على السؤال التالي: لماذا ستقبل إسرائيل- وهي المنتصرة تكتيكيا واستراتيجيا في الجولة الأخيرة- البدائل التي نقترحها؟ وللتذكرة فهذه البدائل هي العودة إلى مشروع حل الدولة الواحدة، وإسقاط المشروع الوهمي لحل الدولتين للقضية الفلسطينية، وما يستتبعه ذلك من نبذ سياسات التوسع وضم الأراضي، وكذلك التخلي عن فكرة الترانسفير أي الترحيل الجماعي للفلسطينيين من الضفة الغربية وقطاع غزة، وأخيرا التعاون الإقليمي والأمن الجماعي، بدلا من الهيمنة الانفرادية، ومواصلة سياسات الابتزاز والإملاء.
للوهلة الأولى يبدو أنه لا شيء يضطر إسرائيل لقبول عشر معشار ما نقترحه، بعد أن نجحت في حربها على جبهات غزة ولبنان وسوريا في تصفية كل مصادر التهديد الأمني حولها، إلى أجل غير مسمى، ولكن يوجد دائما بعد الحروب ما يسمى بمشكلة اليوم التالي، سواء كانت نتيجة الحرب هي النصر أو الهزيمة.
وما نقصده هنا بمشكلة اليوم التالي، ليس فقط هو ما ظل يتردد في الإعلام والدبلوماسية طيلة الأشهر الخمسة عشر الماضية، أي اليوم التالي في غزة، ولكننا نقصد اليوم التالي في غزة وفي الضفة الغربية وفي سائر جوانب القضية الفلسطينية، وكذلك اليوم التالي في قضية السلام والأمن والتعاون في عموم منطقة الشرق الأوسط.
إن إسرائيل وباستثناء إزالة مصادر التهديد المسلح لأمنها لم تحل أية مشكلة جوهرية، فهي لم تفرض على الفلسطينيين في غزة والضفة القبول بالوضع الراهن، أي أن بالعيش تحت الاحتلال، دون أفق لحل سياسي، كما لم تفرض عليهم الرحيل الجماعي إلى الدول المجاورة، كما حدث بكثافة في حرب ١٩٤٨، أو كما حدث جزئيا في حرب ١٩٦٧، وبذلك بقيت القنبلة السكانية الفلسطينية التي تخشى منها إسرائيل على هويتها اليهودية، تئز في مكانها في الفناء الخلفي للدولة العبرية، وكما نعلم فإن هذه القنبلة كانت دائما هي الحائل دون تحقيق مشروع اليمين القومي الديني الحاكم لفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية بالذات، إذ أن فرض السيادة دون منح حقوق المواطنة للسكان الفلسطينيين يعني إعلان إسرائيل دولة فصل عنصري صريح، وهذا ما يرفضه الضمير العالمي، حتي داخل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وما يرفضه كذلك اليسار والوسط في إسرائيل، إلي جانب تيار قوي في اليهودية العالمية والصهيونية التقليدية، فضلا عن رفض بقية شعوب ودول العالم، والأهم ما سوف يتسبب فيه ذلك من حالة شديدة التعقيد وبالغة الحرج لدعاة السلام والتطبيع والتعاون مع إسرائيل في الدول والمجتمعات العربية، بما قد يوقف هذه الاتجاهات، أو حتى يعكس تيارها تحت الضغوط الشعبية.
وبالطبع فمن المستحيل توقع أن يقبل اليمين القومي الديني الحاكم، أن يمنح حقوق المواطنة للفلسطينيين في حالة ضم الأراضي المحتلة، وفرض السيادة الإسرائيلية عليها، إذ أن ذلك يعني تحول إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية، وهو جوهر مشروع حل الدولة الواحدة، الذي اقترحنا على الفلسطينيين والعرب العودة إلى المطالبة به، بهدف إبراز المشكلة، وتصديرها إلى إسرائيل.
ولكي نصل إلى هذه المرحلة، فإن على السلطة الوطنية الفلسطينية، أن تحل نفسها، أو على الأقل، أن تهدد بحل نفسها، مما يدفع بمشكلة الأرض والسكان والضم أو الانسحاب إلى صدارة اهتمام الساسة والناخبين الإسرائيليين، وفي الوقت نفسه فعلى الحكومات العربية وقف كل التسهيلات والاتصالات التطبيعية مع إسرائيل، ويجب أن تتجمد على الفور، وبصفة خاصة، وإلى أجل غير مسمى خطط تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية.
هنا يجب أن نتذكر، أن تجميد خطط التطبيع بين السعودية وإسرائيل، لا يحرم الأخيرة فقط من هذه “الجائزة الثمينة” في حد ذاتها، وإنما يحرمها أيضا من تطبيع العلاقات مع أكبر وأهم الدول الإسلامية خارج الشرق الأوسط، أقصد باكستان وبنجلاديش وماليزيا وإندونيسيا، التي لن تجد حكوماتها حرجا أمام شعوبها في الاعتراف بإسرائيل وتطبيع العلاقات معها، إذا ما فعلت السعودية ذلك.
بافتراض أن ما نطالب به السلطة الوطنية الفلسطينية، والحكومات العربية، خاصة السعودية لم يتحقق بالسرعة المنشودة، ولا بالحماس الكافي، فإن قبول إسرائيل، وتطبيع وضعها في الإقليم، وليس فقط تطبيع علاقاتها الرسمية مع الحكومات، يحتاج قبل وبعد كل شيء إلى رضاء الشعوب، وهذا الرضا هو أصعب عقبات اليوم التالي أمام خطط الإسرائيليين لدمج دولتهم في المنطقة، بصرف النظر عن الضغوط والإغراءات (بل والغوايات) الأمريكية.
إن مضي أكثر من أربعة عقود على اتفاقات السلام وتطبيع العلاقات الرسمية بين إسرائيل ومصر لم يحول هذا التطبيع إلى حالة شعبية، فما زال المجتمع (منظمات وأفراد) المصري مقاطعا كل ماله صلة بإسرائيل، ولا يزال التعاون الاقتصادي بين البلدين في أدنى مستوياته، باستثناء الاتفاقيات والعقود الحكومية، وهكذا الحال في بقية الدول العربية التي أقامت علاقات مع إسرائيل، لا فرق في ذلك بين الشعب في المغرب وبين الشعب في السودان، أو حتى في الإمارات.
يؤثَر عن جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل السابقة، وهي من جيل المؤسسين للدولة، أنها كانت تقول إن معنى السلام عندها، هو أن تتبضع بنفسها في سوق خان الخليلي بالقاهرة، وينقل عن بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل الحالي، أنه قال لدونالد ترامب خلال فترة رئاسته السابقة للولايات المتحدة، إن السلام بالنسبة له هو أن يتوقف الزعماء العرب عن الهمس في الظلام عن علاقاتهم مع إسرائيل.
بالطبع لن يحدث ما حلمت به مائير، ومايتمناه نتنياهو، إلا إذا رضيت الشعوب العربية، ولن ترضى الشعوب العربية، إلا إذا حصل الفلسطينيون على كامل حقوقهم سواء في دولة واحدة ثنائية القومية على أساس حقوق المواطنة المتساوية، وهو ما أفضله، أو في دولة مستقلة ذات سيادة على أساس حل الدولتين، وحق تقرير المصير، وهو ما أراه بعيد الاحتمال من الناحية العملية.