في أول رد فعل إفريقي على قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من منظمة الصحة العالمية، أبدى الاتحاد الإفريقي انزعاجا شديدا، وتخوفا من تأثر برامج الصحة في القارة الإفريقية في وقت تشهد فيه معظم البلدان الإفريقية تحديات ومشاكل واسعة، تهدد الأمن الصحي لسكان القارة، ولا تستطيع الحكومات الوطنية تحمل تكلفة برامج الرعاية الصحية.

في بيان صحفي لرئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، موسى فكي، قال: “هذا قرار مزعج .. الولايات المتحدة كانت أولى الداعمين لإنشاء الوكالة الفنية لحالات الطوارئ الصحية التابعة للاتحاد الإفريقي، والتي تعمل مع منظمة الصحة العالمية للكشف عن الأوبئة والاستعداد لها والاستجابة لها والتعافي منها”.

موسي فكي رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي
موسي فكي رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي

وأضاف فكي: “أمريكا لعبت دورا حاسما في صياغة أدوات ومعايير منظمة الصحة العالمية لأكثر من سبع عقود.. والدول الإفريقية بالفعل تعتمد عليها لضمان أمن الصحة العامة”.

كان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب قد وقع أمرا تنفيذيا بعد ساعات من تنصيبه في 20 يناير، يقضي بانسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، بسبب ما اعتبره النفوذ السياسي غير المناسب للدول الأعضاء على الهيئة العالمية التي تمولها الولايات المتحدة، بما يقرب من 20% من ميزانيتها، وعدم الرضا عن طريقة تعاملها مع جائحة كوفيد-19.

ويأتي انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية كجرس إنذار، حيث بدأت منظمات محلية وإقليمية في إفريقيا تبحث عن حلول سريعة، تفكر في إمكانية الاعتماد على الذات على المستوى القاري؛ من أجل مستقبل أكثر مرونة واستدامة للرعاية الصحية في البلدان الإفريقية، بخاصة تلك التي تعاني من تفشي الأمراض والأوبئة المستوطنة.

تفشي الأوبئة:

في مناطق وسط وجنوب وغرب القارة الإفريقية يعاني السكان من تفشي وباء الكوليرا منذ عام 2023، حيث أصبحت أحياء بأكملها عُرضة بشدة لمرض مميت؛ بسبب تلوث المياه واعتماد الآلاف من السكان على الآبار الضحلة والمراحيض الحفرية التي تخلق ظروفا بيئية مؤهِلة لتفشي الأمراض.

وحذر الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، من خطورة الوضع الصحي في زامبيا مع ارتفاع حالات الإصابة بوباء الكوليرا، بخاصة في المناطق التي يسودها عدم المساواة، فضلاً عن زيادة المعاناة مع ظهور ظاهرة النينو “التغيرات الكبيرة في المناخ” وزيادة الجفاف الذي تسبب في تقليص إمدادات المياه النظيفة، مما جعل الوصول إلى المياه أكثر صعوبة، وجعل المياه الجوفية أكثر عرضة للتلوث.

وتزيد مخاطر انتشار الأوبئة في مناطق الصراعات والتوتر السياسي، ففي السودان تم الإعلان رسمياً عن تفشي وباء الكوليرا في 12 أغسطس 2024 من قبل وزارة الصحة الفيدرالية السودانية بعد الإبلاغ عن موجة جديدة من حالات الكوليرا، وتسجيل 8,457 حالة إصابة و299 حالة وفاة في ثماني ولايات في السودان.

تطهير مركز عزل لعلاج الكوليرا بولاية كسلا
تطهير مركز عزل لعلاج الكوليرا بولاية كسلا في السودان

ويواجه السودان حالات تفشي أمراض متعددة، بما في ذلك الكوليرا والملاريا وحمى الضنك والحصبة والحصبة الألمانية؛ بسبب الانخفاض الكبير في معدلات التطعيم وتدمير البنية التحتية للصحة والمياه والصرف الصحي والنظافة؛ نتيجة للصراع المستمر- حسب تقرير لمنظمة اليونيسف.

ويعلق الأفارقة آمالا واسعة على الدعم الدولي والإقليمي في مواجهة وباء الكوليرا، حيث تظل الاستجابة الدولية لمواجهة انتشار الوباء تمثل ما يمكن اعتباره الحلول الوحيدة في الوقت الحالي، فعلي مدار العام الماضي، كشفت برامج جمعيات الصليب الأحمر المحلية والاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر عن أهمية قوة العمل الجماعي، فضلاً عن الدعم الذي قدمته دول أوروبية عبر منظمة الصحة العالمية التي أبدت التضامن الكامل مع الدول الإفريقية لمكافحة الكوليرا.

وفقا لتقديرات منظمة الصحة العالمية، فإن مرض الملاريا هو أكثر الأوبئة الفتاكة المتوطنة في الإقليم الإفريقي، حيث سجلت إفريقيا وحدها 94% من حالات الإصابة بالملاريا على مستوى العالم، و95% من الوفيات الناجمة عنه، حيث مثّل الأطفال دون سن الخامسة نحو 76٪ من مجموع الوفيات الناجمة عن الملاريا في إفريقيا.

أزمة اللقاحات

تظل الدول الإفريقية هي الأقل تلقيحاً على صعيد العالمي، ومن بينها مصر على سبيل المثال التي بالكاد بلغت نسبة التلقيح فيها 5 % من السكان، حتى العام الماضي لم يتمكن سوى سبعة بلدان إفريقية فقط من تحقيق الهدف البالغ 40% من السكان، أما هدف تطعيم 70% من السكان فيبدو من قَبيل الطموح الجامح بالنسبة لبلدان عديدة- حسب تقديرات صندوق النقد الدولي.

أزمة اللقاحات في الدول الأفريقية
أزمة اللقاحات في الدول الإفريقية

وتقدر منظمة الصحة العالمية، بأنه رغم التحسن في إتاحة اللقاحات لا يزال طفل من كل خمسة في إفريقيا محروما من اللقاحات المنقذة للحياة.

وبسبب استمرار أزمة اللقاحات لا تزال الأمراض الثلاثة الحرجة، الحصبة والحصبة الألمانية والتيتانوس الوليدي، التي تم القضاء عليها أو على وشك القضاء عليها عالمياً، منتشرة على نطاق واسع في إفريقيا، حيث تشير الاحصائيات إلى حدوث 45% حالة وفاة ناجمة عن الحصبة في إفريقيا، وعلى الرغم من أن العالم قد أحرز تقدماً كبيراً في مكافحة التيتانوس الوليدي، فإن ربع البلدان الإفريقية لم تتمكن حتى الآن من القضاء على حالات التيتانوس، أي 13 دولة من مجمل 23 دولة، لم تحقق هذا الإنجاز على مستوى العالم- حسب تقرير لمنظمة الصحة العالمية عن إتاحة اللقاحات.

وتتسبب الأوضاع الأمنية المتدهورة في هشاشة الوضع الصحي في إفريقيا، بخاصة مع استمرار ظواهر الصراعات السياسية والنزاعات المسلحة وتفشي الأوبئة، مثل الإيبولا والكوليرا في ظل تردي للبني التحتية وانعدام خدمات الصرف الصحي في المناطق النائية والحدودية بشكل خاص، والتي تسببت في انتشار الأوبئة عبر الحدود، وهو ما يعقد قدرات المنظمات الدولية على التعاون مع الحكومة المحلية في تأمين التغطية باللقاحات، بخاصة في فترات النزاع أو تفشي الأوبئة.

ولا تزال عملية توفير اللقاحات في إفريقيا قائمة على التبرع من منظمات وهيئات دولية أو جُرع موجهة من دول أوروبية في إطار العلاقات الثنائية لدعم الأنظمة السياسية والحياة الاجتماعية في إفريقيا.

فرصة تلوح

يرى مراقبون لانعكاسات قرارات ترامب، أنه على الرغم من خطورة الانسحاب الأمريكي من منظمة الصحة العالمية والتهديد المباشر لبرامج الرعاية الصحية الموجهة إلى إفريقيا، فإن هذه القضية قد تكون فرصة تلوح للدول الإفريقية والاتحاد الإفريقي بالتفكير في تعزيز الأنظمة الصحية الإفريقية وإعطاء الأولوية للاعتماد على الذات في القارة.

وتبدو هذه الأفكار طموحة، في وقت لا تزال فيه إفريقيا تعتمد بشكل مفرط على المساعدات الخارجية والمؤسسات الدولية من أجل أمنها الصحي، وهو ما يتبقى للقارة من مخلفات الحقبة الاستعمارية، حيث لم تخرج معظم البلدان الإفريقية، بخاصة في الغرب والجنوب حتى الآن من الصدمات الصحية العالمية، أو حتى مجرد تطوير أنظمة رعاية صحية قوية ومستدامة

وتبقى متلازمة الاعتماد التي تعاني منها إفريقيا في تطوير أنظمة الرعاية الصحية الخطر الأكبر من قرارات ترامب وسياسة “أمريكا أولا”، التي قد تكون بداية لتحولات جوهرية في العلاقات الأمريكية الإفريقية، بما يفرض على القارة إعادة النظر في الاستمرار في الاعتماد على المساعدات والخبرات الخارجية، وتطوير حلول محلية.