أصبحت “دبلوماسية إعادة الإعمار” أحد العناصر الأساسية لتحرك القوى الإقليمية بالشرق الأوسط حاليًا وسط تنافس واضح بينها على استغلالها لتحقيق مكاسب اقتصادية، أو درء مخاطر مستقبلية قد تهدد اقتصادها.
تعتبر تركيا حاليًا، نموذجًا واضحًا على “دبلوماسية الإعمار”، فبمجرد سقوط نظام بشار الأسد، وضعت أنقرة خططًا سريعة للقيام بدور في إعادة بناء البنية التحتية من مدن ومستشفيات ومدارس ومطارات وشبكات للكهرباء والاتصالات.
السوق التركية الداخلية التقطت تلك السياسة سريعًا لترتفع أسهم شركات إنتاج الإسمنت والصلب التركية لأعلى مستوى، خاصة أن المعارضة السورية التي تولت الحكم لديها ولاء مباشر لأنقرة التي ساعدتها على مدار سنوات.
وقالت وزارة التجارة التركية، إن وزيرها عمر بولات اجتمع مع رجال الأعمال وغرف الصناعيين الأتراك والمنظمات غير الحكومية في الاقتصاد والتجارة؛ لمناقشة إعادة إعمار سوريا وتعزيز اقتصادها وجارتها، خاصة أن البنية التحتية السورية منهكة بعد سنوات من الحرب الأهلية.
دبلوماسية تتحرك شرقا وغربًا
وجهت أنقرة نفس السياسة أخيرًا إلى شرق ليبيا، واتجهت لمزيد من التوسّع في العلاقات، بزيارة أجراها، أخيرًا، بلقاسم نجل المشير خليفة حفتر، والتقى خلالها وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في أنقرة وتحمل الزيارة أهمية خاصة فنجل حفتر مسئول عن صندوق إعادة إعمار درنة والمدن والمناطق المتضررة.
في أكتوبر 2024، وقع بلقاسم خليفة حفتر، عقودًا جديدة مع شركة “Silahtaroğlu” التركية لتنفيذ عدداً من المشاريع في مدينتي بنغازي وسلوق، تتضمن مشروع تطوير بحيرة جليانة والطرق المحاذية لها، وإنشاء خمسة جسور جديدة حولها بمدينة بنغازي، ومشروع إنشاء وتطوير البنية التحتية المتكاملة لمدينة سلوق.
في إبريل 2024، وقّع بلقاسم أيضًا عقود عمل مع شركات تركية لتنفيذ مشاريع عدة في مدينة بنغازي، وقالت «لجنة الإعمار» المكلفة من مجلس النواب حينها، إن بلقاسم وقّع «مع كبرى الشركات التركية المتخصصة في مجال المقاولات العامة والتجهيزات والبنية التحتية، لمباشرة أعمالها لعدة مشاريع في بنغازي».
قطر.. سياسة مترسخة
تلعب قطر أيضًا دورا في “دبلوماسية الإعمار”، لكنها ترتكن للجانب المادي أكثر من العمل الميداني في ظل محدودية الشركات العقارية القطرية التي يمكنها القيام بتلك الجهود، خاصة الملف اللبناني، إذ أكد سفير دولة قطر لدى لبنان، الشيخ سعود بن عبد الرحمن آل ثاني نية بلاده بمؤازرة لبنان في عملية إعادة الإعمار التي تحتاج لنحو 5 مليارات، و500 مليون دولار بصورة مبدئية، بحسب تقديرات البنك الدولي.
في سوريا، تظهر تلك الدبلوماسية بشكل أوضح، إذ كان أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أول رئيس عربي يزور دمشق عقب سقوط نظام الأسد، ونصت المباحثات بين البلدين على وضع إطار شامل للتعاون الثنائي، فيما يتعلق بإعادة الإعمار بالبنية التحتية والاستثمار واستعادة الكهرباء والتعافي الاقتصادي.
في ملف غزة، دعت قطر إلى تنفيذ عملية شاملة لإعادة إعمار القطاع بأسرع وقت ممكن، خاصة ان الدوحة لديها لجنة لإعادة إعمار غزة منبثقة عن وزارة خارجيتها، تأسست في أكتوبر عام 2012، وتقوم بإدارة وتنفيذ منحة لإعادة إعمار غزة بلغت قيمتها 407 ملايين دولار أمريكي، بالإضافة إلى منح قطرية أخرى.
التمويل.. تحد مالي أمام مصر
تشارك مصر بـ”دبلوماسية الإعمار” عبر التواجد الفعلي على الأرض؛ لأن قدراتها المالية تحول دون ضخ تمويلات بالعملة الصعبة، وتشارك أربع من كبرى الشركات المصرية في مشروعات إعادة الإعمار في ليبيا بقيمة أعمال، تتجاوز 4 مليارات دولار.
كما أرسلت القاهرة قائمة، تضم نحو 50 شركة مصرية إلى صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا، بهدف المساهمة الفعالة في جهود إعادة إعمار الأخيرة، وتعزيز التعاون الاقتصادي المشترك بين البلدين.
أمام تعزيز تركيا علاقاتها اقتصادًيا بالشرق الذي يرتبط بعلاقة وثيقة بمصر، تعزز القاهرة هي الأخرى علاقتها بطرابلس الذي ترتبط برباط وثيق مع أنقرة.
وزار وفد من رجال الأعمال ليبيا في نوفمبر الماضي، وتم توقيع بروتوكول تعاون مع اتحاد الغرف في طرابلس، بالإضافة إلى الاتفاق على إقامة معرض مصري في العاصمة الليبية، وبحسب مسئول ليبي، فإن الشركات المصرية من المتوقع أن تستحوذ على نسبة تتراوح بين 60 و70% من مشروعات إعادة الإعمار في بلاده.
كما استعانت حكومة الوحدة الوطنيّة في ليبيا بالشركات المصرية لتنفيذ مشروع (استكمال الطريق الدائري الثالث) الذي يبلغ طوله الإجماليّ 23.8 كيلومتر، والذي كان متوقفا عن العمل منذ مطلع عام 2007، بتكلفة تصل إلى 930 مليون دولار، وتنشط حاليًا في ليبيا شركات مثل أوراسكوم كونستراكشون، وحسن علام للإنشاءات، وشركة رواد للهندسة التابعة للسويدي إلكتريك.
كما وقع صندوق التنمية وإعادة إعمار ليبيا عقود عدد من المشاريع المخطط تنفيذها في درنة ومدن الجبل الأخضر مع رئيس مجلس إدارة أبناء سيناء، وعضو مجلس إدارة شركة “نيوم” المصرية إبراهيم العرجاني لتنمية وتطوير وإعادة إعمار كافة المدن والمناطق الليبية، كم تم توقيع أيضًا عددا من الاتفاقيات مع شركة المقاولين العرب المصرية لتأهيل مدينة درنة شرق ليبيا التي تعرضت في العاشر من سبتمبر 2023، إلى فيضانات مدمرة؛ تسببت بمقتل وجرح وفقدان آلاف من سكان المدينة.
ملف غزة.. الخيار الأول للدبلوماسية المصرية
بالنسبة لملف قطاع غزة، وضعت القاهرة رؤية واضحة لإعادة إعمار غزة “دون خروج أي مواطن من أرضه”، وذلك لدرء مخاطر ملف التهجير، بجانب الاستعداد لإدخال معدات ثقيلة وحفارات إلى قطاع غزة خلال الأيام المقبلة، بعد الاتفاق مع وسطاء الهدنة بين إسرائيل وحماس (قطر والولايات المتحدة).
بحسب دراسة لمؤسسة راند البحثية الأمريكية، فإن إعادة إعمار قطاع غزة سيكلف أكثر من 80 مليار دولار، بينها تكاليف إزالة الأنقاض التي تبلغ وحدها 700 مليون دولار، فالحرب على غزة خلّفت من الأنقاض، ما يكفي لملء ما يزيد على 1.3 مليون شاحنة.
تشير تقديرات الأمم المتحدة، إلى أن الحرب خلفت في غزة أكثر من خمسين مليون طن من الأنقاض ــ أي ما يعادل نحو اثني عشر ضعف حجم الهرم الأكبر في الجيزة. ومع وجود أكثر من مائة شاحنة، تعمل ٢٤ ساعة يوميا، فإن الأمر سيستغرق أكثر من خمسة عشر عاما لإزالة الأنقاض، خاصة أن القطاع عبارة عن مساحة مفتوحة ضيقة يسكنها نحو 2.3 مليوني فلسطيني.
الشركات المصرية لديها الخبرة السابقة في هذا الملف، إذ سبق أن شاركت أطقم فنية مصرية مزودة بمعدات هندسية في رفع أنقاض الدمار الذي خلفه القصف الإسرائيلي على القطاع خلال الحرب التي اندلعت في مايو 2021، وساهمت في إزالة الأنقاض وركام المنازل والأبراج المهدمة في إطار سرعة إعادة الحياة الى طبيعتها، وحينها خصصت القاهرة 500 مليون دولار كمساعدة في إعادة الإعمار.
بحسب الخبير المصري عمرو سليمان، رئيس قسم الاقتصاد في جامعة حلوان، فإن “الحكومة المصرية لديها خبرة كبيرة جدا بمجال إعادة الإعمار، وشركاتها لديها الإمكانيات المادية والبشرية المناسبة، كما أن تكاليف قيام مصر بإعادة الإعمار في غزة، ستكون منخفضة للغاية مقارنة مع باقي الدول، مما يسمح بأن يتم بكثافة وفي أسرع وقت.
يضيف سليمان، أن إعادة إعمار غزة يمثل فرصة مالية هامة جدًا للشركات المصرية التي لديها معدات حفر متقدمة، يمكن استغلالها في إعادة إعمار غزة بشكل سريع جدًا فور صدور قرار سياسي.
بحسب سليمان، فإن الوضع الاقتصادي المصري يعاني بالتأكيد من تداعيات أزمات دولية، لكنه لا يجعل القاهرة، تقايض على ثوابتها الوطنية أو تقبل التهجير المؤقت للفلسطينيين، إذ أنها مسألة أمن قومي ليس فقط عسكري وسياسي، ولكنه أيضا أمن اقتصادي لمصر أن تظل فلسطين للفلسطينيين.
السودان.. ملف مصري خالص
بالنسبة لملف السودان، كانت مصر الدولة الوحيدة التي أعلنت أكثر من مرة قيامها بدور في إعادة الإعمار بعد التوصل لوقف إطلاق النار بالسودان، في مجال البناء والتشييد والطاقة والزراعة والصناعات الدوائية والغذائية، وفي أغسطس الماضي، تم افتتاح المعرض العقاري “المصري ـ السوداني” للاستفادة من شركات التطوير لإعادة الإعمار بالسودان.
لكن بمجرد انتهاء الحرب، من المتوقع أن تستقطب السودان الدول العالمية، في ظل أنها غنية بموارده الطبيعية سواء بالمعادن أو الثروات الحيوانية، ودعت الخرطوم بالفعل عبر سفرائها بالخارج دول كبرى، مثل روسيا والبرازيل للمشاركة في إعادة إعمار السودان، مع وعود بإتاحة الفرص لها كاملة.
بالنسبة للوضع على الأرض لدى الصين تواجد كبير في السودان فبين عامي 2000 و2011، دشنت بكين 65 مشروعًا للبنية التحتية الصينية بالسودان، بما في ذلك بناء القصر الرئاسي، وبناء خطوط السكك الحديدية بين الخرطوم وبورت سودان، وإنشاء محطات توليد الكهرباء، وتحديث شبكة الكهرباء المحلية. وتعد الصين المصدر الرئيسي للواردات للسودان، حيث تبلغ حصتها في السوق 24%.