هذا الإقليم بكل من فيه أشقاء، منذ مطلع التاريخ، كلهم شعوب شقيقة، رغم ما بينهم من اختلاف الأعراق والأديان والمذاهب واللغات، كلهم شعوب شقيقة، رغم ما كان بينهم من صراعات في حضارات الشرق القديم، ثم ما كان بينهم من صراعات داخل إطار الحضارة الواحدة التي بسطت ظلالها على كل ما يعرف بالشرق المعاصر، من جزر إندونيسيا حتى سواحل الأطلسي، كلهم شعوب شقيقة، تبادلت مواقع الهيمنة وتداولت مراكز السيادة، ورسمت خرائط الجغرافيا المتغيرة، كما نسجت أوعية التاريخ المتدفق، يستطيع كل شعب من هذه الشعوب، أن يصف أي شعب آخر منها بوصف الشعب الشقيق، حتى لو كانت بينهما صراعات وحروب، أو حتى كانت بين مكونات الشعب الواحد حروب ونزاعات أهلية.
الاستثناء الوحيد هو الشعب الإسرائيلي، الدولة الإسرائيلية، المشروع الصهيوني، الدولة اليهودية، فهي تحت أي مسمى كانت، ليست إلا نوعاً متأخراً من الاستعمار الاستيطاني الذي يقوم على طرد وتهجير شعب قائم، ثم الإحلال مكانه بالقوة المسلحة. هذه حقيقة وافدة على الإقليم، حقيقة عمرها يزيد قليلاً عن قرن ونصف قرن، تاريخ مشهود مرئي ملموس عاشته وتعيشه، ورأته وتراه رأي الأعين الأجيال المعاصر من أجداد، ثم أبناء ثم أحفاد. تستطيع القوة، أن تفرض وجود شعب إسرائيلي، كما تستطيع القوة أن تهزم كل من يرفض المشروع، وتستطيع القوة، أن تعقد اتفاقات سلام مع بعض، ثم كل دول المنطقة، ولكن لن، ثم لن، ثم لن تستطيع القوة إدماج الشعب الإسرائيلي في بنية الإقليم، وما تنطوي عليه من وشائج وصلات أرحام بين العجم والعرب والكورد والترك والأمازيغ والروم والآسيويين والأفارقة، لم نسمع، ولن نسمع أي شعب من هذه الشعوب القديمة، يصف أو ينادي أو يخلع على الإسرائيليين وصف الشعب الشقيق، بل شعب عابر طارئ مستحدث منقول، ثم مشتول، ثم مكفول بقوة أوروبا، ثم أمريكا من بعدها، ولولا أوروبا، لكان وجود هذه الدولة وهذا الشعب مستحيلاً استحالةً مطلقة، ثم لولا أمريكا، ما كان للدولة والشعب ضمان استمرارهما.
إسرائيل- في التصور الأوروبي الأمريكي- ولدت لتعيش، وخلقت للبقاء وليس للزوال أو الفناء، وهذا منذ البداية، كان وما زال يعني أمرين: 1- أولهما: إخلاء المكان لأجلها، وذلك بتهجير شعبها منها ليحل مكانه شعب دولة إسرائيل، في ص 173 من ” النقراشي “، وهو من تأليف حفيدته الدكتورة هدى شامل أباظة، ومن إصدارات دار الشروق، نقرأ أن رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي، يتحدث عن لقائه مع شخصيات أمريكية رفيعة المستوى يعرضون مشروعاً أمريكياً لتهجير عرب فلسطين إلى العراق، بعد إقامة نظم ري حديثة على ضفاف نهري دجلة والفرات، بما يجعل من مساحات كبيرة من الأراضي صالحة للاستغلال، فرد عليهم النقراشي باشا: لا تستهينوا بمثل هذه المشروعات، فهي ستكون بمثابة حرب صليبية جديدة، وأثناء الحرب 1948م، كان الترويع المنهجي للمدنيين الفلسطينيين لطردهم ودفعهم للهجرة القسرية، كان هدفاً استراتيجياً من أهداف الحرب، هذا هدف سابق على تأسيس إسرائيل، كما هو هدف لاحق على تأسيسها، وهو كذلك هدف مستمر حتى يتم إخلاء أرض فلسطين التاريخية من آخر فلسطيني، إلا من انسلخ بالكلية من جلده ودمه وسحنته وجذوره وهذا محال.
2- أما الأمر الثاني بعد إخلاء فلسطين من شعبها، فهو الاندماج مع شعوب المنطقة، بدأت بالشعوب غير العربية، وبالتحديد تركيا 1949 ثم إيران 1950، بينما انتظر العرب حتى شق السادات لهم الطريق 1977، ورفع عنهم الحرج، ودفع الثمن سمعته ومكانته، ثم دفع حياته كاملةً، فقط انتظر العرب حتى غزو العراق للكويت، ثم تحرير الكويت، ثم انطلاق مسيرة سلام مدريد 1992، وقد حظيت إسرائيل مع الفلسطينيين 1993، ثم الأردن 1994م، حيث بدأت مرحلة جديدة من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، أصبح فيها العرب الساعد الأيمن للمشروع الصهيوني، حسبما قرر المفكر الفلسطيني العظيم إدوارد سعيد، وهذه مرحلة، تختلف عن سلام السادات من حيث الدرجة، وليس من حيث النوعية، فكلهم ساداتيون، مع فارق أن سلام السادات اكتفى بشق الصف العربي، وسلب مصر من مركز القيادة العربية، والاصطفاف في الحلف الصهيوني الأمريكي، لكن في مقابل تحرير الأرض، ثم السادات على سوئه، لم يكن الساعد الأيمن للمشروع الصهيوني، هذه المرحلة من سلام مدريد 1992، حتى السلام الإبراهيمي 2020م، كانت الانسحاق الكامل للإرادة العربية، مثلما كانت الصعود التام للمشروع الصهيوني، فقد دخلت دول الخليج بقدراتها المالية الأسطورية، لا لتكون الساعد الأيمن للصهيونية، بل لتكون الأجنحة الخفاقة العملاقة التي تحلق بها الفكرة الصهيونية في سماء الإقليم من أقصاه إلى أقصاه، ثم جاءت حرب طوفان الأقصى 2023 – 2025 لتنكسر أجنحة التشيع المناضل من إيران إلى شيعة اليمن إلى شيعة لبنان إلى المقاومة في غزة، ربما تكون آخر الحروب إلى أجل غير معلوم، فقد سحقت إسرائيل- بدعم أمريكي أوروبي وبصمت عربي وإسلامي- سحقت سحقاً كاملاً آخر قوى المقاومة الموجهة ضدها.
والآن، فإن المشرق العربي بلا جيوش نظامية محترفة بالمعنى الحقيقي، وذلك باستثناء مصر، لقد خسر العرب جيش العراق الذي استنزفته الديكتاتورية البعثية عدة مرات، في حرب طويلة، استمرت ثماني سنوات ضد إيران، أو ما عرف بحرب الخليج الأولى، ثم حرب الكويت، أو ما عرف بحرب الخليج الثانية، ثم الغزو الأمريكي 2003، وقد سقط صدام، وتفكك واحد من أعظم الجيوش العربية. وقد تكرر الأمر مع الجيش السوري الذي استنزفته ديكتاتورية الأسد في حرب أهلية، انتهت بزوال آل الأسد بعد أكثر من نصف قرن في الانفراد بحكم سوريا، كما انتهت بتفكك واحد من أكبر الجيوش العربية. بعد خسارة جيش العراق وجيش سوريا يبقى المشرق العربي خالياً من الجيوش النظامية المحترفة، إلا جيش إسرائيل، كما يبقى العالم العربي كله خاليا من جيش نظامي وطني محترف مقاتل باستثناء الجيش المصري، وما عدا ذلك فهي جيوش تكميلية، إذ الأصل هو ما تعقده تلك البلدان العربية من اتفاقات حماية مع القوى الكبرى سواء أوروبية أو أمريكا.
هذا هو الواقع الآن، المشرق العربي بلا جيوش إلا الجيش المصري، كما بلا مقاومة عربية، كما بلا تشيع مناضل، في هذا السياق سوف يستكمل العرب مشوارهم الساداتي، ساداتية جديدة، الخروج النهائي من الالتزام العربي، نهاية الالتزام العربي، نهاية الصراع نهاية أكيدة، ليس فقط في الواقع العملي، لكن كذلك في القواميس اللفظية، مسح كلمة صراع مسحاً تاماً، لا يبقى بعده أثر في قواميس الشرق الأوسط الكبير، لا مجال بعد اليوم لحديث عربي رسمي عن صراع مع إسرائيل، نجحت إسرائيل في دفع العرب نحو هذا الخيار البائس المنهزم التعيس عبر عدة محطات: المحطة الأولى، عندما هزمت العرب، وهم جيوش نظامية، وهي مجرد عصابات إرهابية 1948، والمحطة الثانية، عندما هزمت العرب مجتمعين 1967، وهم في ذروة المد القومي العربي، والمحطة الثالثة، عندما ذهب إليها رئيس الدولة العربية القائدة، يقدم لها السلام على طبق من ذهب 1977، والمحطة الرابعة، عندما قرروا الدخول في السلام كافة في مدريد 1992، والمحطة الخامسة، عندما اعترفوا بسيادة إسرائيل في الإقليم، عبر السلام الإبراهيمي 2020، ثم المحطة الأخيرة، تبدأ من نهاية الجيش السوري نهاية أكيدة 8 ديسمبر 2024م، حيث باتت سوريا بلا جيش وبلا سلاح، والأخطر من هذا وذاك، هو أن موافقة إسرائيل كانت شرطاً حاسماً في أمرين: 1- في الإزاحة النهائية لحكم الأسد، حيث أعطت موافقتها فتمت العملية بنجاح في أحد عشر يوما. 2- ثم كانت موافقة إسرائيل كذلك مطلوبة في تنصيب قيادات هيئة تحرير الشام حكاماً على سوريا، لم تمانع إسرائيل، فأصبحوا حكاماً على سوريا، إسرائيل في الحالتين، في إزاحة النظام القديم، ثم في تولية النظام الجديد، كانت لها الكلمة الفصل، وهذه أولى ملامح الشرق الأوسط الجديد: الكلمة الفصل لإسرائيل. هذه هي خلاصة مائة عام من النضال العربي ضد الصهيونية، من ثورة البراق عند الربع الأول من القرن العشرين إلى ثورة طوفان الأقصى عند الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، مائة عام من نضال حقيقي بإمكانات فقيرة، لا تتوازن ولا تتكافأ مع إمكانات الصهيونية التي تغذيها ترسانات السلاح الأوروبي- الأمريكي.
لكن نحن لم ننهزم فقط؛ لأن أوروبا وأمريكا تضمنان التفوق النوعي والكيفي والكمي للسلاح الإسرائيلي، في مواجهة السلاح العربي، هذا سبب مهم، وسوف يظل سبباً مهماً، لكنه ليس السبب الأهم، كما أنه ليس السبب الوحيد، فنحن العرب لم نفشل فقط في مواجهة الصهيونية، لكننا فشلنا قبل ذلك، وبعد ذلك فيما هو أهم، فشلنا في بناء دولة حديثة، دولة المواطنين، دولة المواطنة، الدولة الأمة التي يتساوى فيها كل مواطنيها في الحقوق والواجبات أمام القانون النظري، كما في الواقع العملي، نحن كنا، وما زلنا مجتمعات عصور وسيطة ودول عصور وسيطة وثقافة سياسية موصولة النسب بثقافة العصور الوسيطة، فما زالت القبيلة والطائفة والدين والعرق والمذهب هويات صلبة مكلكعة، تحول دون الاندماج الوطني، وتحول دون المواطنة المتساوية، كما تحول دون التمتع بالحريات والحقوق المدنية، وفي نهاية المطاف، تحول دون أن تضع شعوبنا أقدامها على أول طريق الديمقراطية، البنية التحتية للتخلف الاجتماعي والثقافي تخدم البنية التحتية للطغيان والاستبداد السياسي، ومن ثم تخدم البنية التحتية للديكتاتوريات الحاكمة التي قادت نضال الشعوب العربية، سواء في معارك التحديث والاستقلال والتحرر الوطني أو في مواجهة الصهيونية، وليس من المستغرب أن تعزو إسرائيل انتصاراتها في المائة عام، إلى كونها ديمقراطية في محيط من الطغيان، وليس من المستغرب أن كان في المجتمع السياسي الإسرائيلي قبل مسيرة مدريد 1992 جدل عام، فيما بينهم: هل نعقد اتفاقات سلام مع الديكتاتوريات القائمة، أم ننتظر قيام ديمقراطيات مستقبلاً ؟! واليقين أن هذا السؤال لم يعد مطروحاً داخل إسرائيل، بعدما جربت وحصدت الكثير من نقاط القوة؛ بسبب خضوع العرب لهكذا ديكتاتوريات، الآن تعلم إسرائيل كم كانت أفضال الديكتاتوريات العربية عليها عظيمة النفع والفائدة.
ثورة طوفان الأقصى هي خلاصة مائة عام من عدة حقائق:
1- الشعب الفلسطيني يجد نفسه حين يقاتل عدوه، خذله من خذله، ذلك لا ينال من عزيمته، أنا أقاتل، إذن أنا موجود.
2- الشعب الفلسطيني يجدد نفسه، وينتصر على نقاط ضعفه، ويصون استمرارية وجوده في التاريخ.
3 – الشعب الفلسطيني يصنع وعي شعوب الإقليم، ويشكل ذاكرتها الجماعية، ويضع يدها على نبض التاريخ.
4 – الشعب الفلسطيني نصفه تحت الاحتلال، ونصفه في الشتات، لكن كله- بمن في ذلك من جنحوا للسلم- لم يغادروا الدماغ الصهيوني، ولا الخيال الصهيوني، تم قهرهم بالاحتلال، ونفيهم بالشتات، لكن- في المقابل- هم يقهرون عدوهم بالثبات، كما ينفونه، بما يمثلونه من حضور في التاريخ، فهم أكثر شعوب الأرض شغلاً لذاكرة العالم الحية.
5 – الشعب الفلسطيني بما قدم في طوفان الأقصى من تضحيات، قطع على إسرائيل ليس فقط تصفية القضية، وقطع على العرب الرسميين، غسل أيديهم من الحق الفلسطيني، لكن وهذا هو الأهم حجز لنفسه المكان اللائق في ضمير الإقليم وتاريخه ومستقبله، فمهما طال الزمن، لن يكون شعب إسرائيل هو الشعب الشقيق لأي من شعوب المنطقة، حتى لو عقدت كل دولة اتفاقات سلام وصداقة ومحبة ووئام تام مع دولة إسرائيل.