مفهوم المراجعة الدورية لملفات حقوق الإنسان، أو الاستعراض الدوري الشامل، هذه الآلية تقوم في أساسها على استعراض ملفات حقوق الإنسان الخاصة بجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193 دولة مرة كل أربع سنوات، وتهدف هذه الآلية إلى تحسين أحوال حقوق الإنسان وتعزيزها ودعمها وتوسيع نطاقها، من خلال تقييم شأن حقوق الإنسان في كل دولة ومعالجة انتهاكات حقوق الإنسان أينما تحدث، وكذلك تقييم مدى احترام الدول لالتزاماتها إزاء حقوق الإنسان المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق الدولية التي صدقت الدولة المعنية عليها، فضلاً عن توفير مساعدة للدول وتوطيد قدرتها على معالجة تحديات حقوق الإنسان بفعالية.
وإذ أن الدولة المصرية بشكل طبيعي قامت خلال الأيام الماضية بعرض ملفها الحقوقي، فإنه بمزيد من التبسيط يعني ذلك العرض أو ينقسم لشقين: الشق الرسمي الذي يعرضه ممثلو الدولة المصرية، والشق الأهلي، وهو ما تقوم به المؤسسات الأهلية العاملة في المجال الحقوقي، وهو ما يطلق عليه تقرير الظل.
وتقوم بعرض الملف المصري الرسمي اللجنة الوطنية الدائمة المعنية بآليات المراجعة الدورية الشاملة والمنشأة بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 37 لسنة 2015، وقد عُهد إلى هذه اللجنة إعداد تقرير مصر الذي يعرض في آلية المراجعة الدورية أمام مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، واقتراح السياسات والتدابير اللازمة لتنفيذ التوصيات التي قبلتها مصر في إطار آلية المراجعة الدورية ومتابعة تنفيذها، واقتراح الحلول العلمية لضمان تنفيذ فعال لهذه التوصيات، وكذا رصد ودراسة ومعالجة المشكلات المتعلقة بحقوق الإنسان في مصر، وما قد يثار في شأنها من متابعة دولية والإعداد للموقف الوطني الداخلي منها، وذلك كله بما يتسق مع دستور جمهورية مصر العربية لعام 2014 والتزامات مصر الدولية في مجال حقوق الإنسان.
ويقوم القائمون على عرض الملف المصري باستعراض أهم الانجازات التي تقوم بها الحكومة المصرية في مختلف المجالات الحقوقية، بداية من التشريعات، ونهاية بالأعمال التنفيذية التي ترى الحكومة من خلال عرضها، أنها تدعم الملف الحقوقي المصري، أو بمعنى دقيق أنها تتلافى الاعتراضات التي تم توجيهها إلى الملف المصري من قبل القائمين على المجلس الحقوقي وأعضائه من الدول المختلفة المشكلة لعضويته، على أساس تجنب المزيد من الاعتراضات وأوجه النقد التي تم توجيهها إلى الملف المصري في الدورات السابقة، وذلك سعياً نحو تحسين الصورة الحقوقية المصرية أمام العالم.
في حين أن ما يتم استعراضه من التقارير الحقوقية التي تتقدم بها المؤسسات العاملة في المجال الحقوقي، هو أوجه الخروقات التي تقوم بها الحكومة المصرية في ملفات حقوق الإنسان، شاملة ما ترصده هذه المؤسسات من أوجه ضعف ونقد، ومشكلات يمر بها الملف المصري، أو تمر بها الحالة الحقوقية.
وقد استعرض القائمون على الملف الرسمي المصري في هذه الدورة من خلال التقرير الحكومي جهود وتحديات الحكومة في ملف حقوق الإنسان بمفهومه الشامل على صعيد الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن التقرير عوَّل على وجود العديد من التحديات، بدءًا من التحديات الأمنية والسياسية وزيادة خطر الإرهاب والجريمة المنظمة العابرة للحدود في ظل واقع إقليمي مضطرب، وزيادة معدلات الهجرة واللجوء؛ نتيجة الأوضاع الصعبة في المنطقة، لا سيما بدول الجوار، وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة عالميًا، مرجعًا بعض المعوقات إليها، إلا أنه أكد في الوقت نفسه، على أن مصر كُلها إصرار على المُضي قدمًا بخطوات متسارعة وطموحة نحو تلبية طموحات شعبها، وملتزمة بتنفيذ التوصيات السابقة رغم تعدد تلك التحديات.
في حين رصدت تقارير الظل أوجه القصور في المجال الحقوقي، والتي كان أهم نقاطها مشكلات الحبس الاحتياطي الممتد، وما يصاحبه من تدوير للمتهمين، وكذلك أيضا مشكلات حرية الرأي والتعبير، بما يتضمنه من حبس للصحفيين، بما يكبل ممارسة تلك الحرية، وذلك إذ أن الدولة المصرية من أكبر عشر دول بها حبس للصحفيين على مستوى العالم، بخلاف العديد من المشكلات والقضايا المجتمعية الحقوقية الأخرى، كالتضييق على ممارسة حرية التظاهر والحريات السياسية والحق في التجمع السلمي، وكذلك ملف تعذيب الضحايا والاختفاء القسري والإعدام، مروراً بمشكلات ذات منحى اجتماعي واقتصادي، أبرزها مشكلات الحق في الصحة والعلاج، في ظل تشريعات تسعى إلى خصخصة تلك الحقوق الهامة بالمجتمع المصري.
ومن الجدير بالذكر، أن العديد من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة المشاركة في جلسة الاستعراض التي انتهت الثلاثاء الماضي بتاريخ 28 من يناير، قد تبنت بالفعل عددًا من هذه التوصيات، وقدمتها للحكومة المصرية. فثمة 20 دولة على الأقل، أوصت بتعليق عقوبة الإعدام؛ تمهيدًا لإلغائها، وآخرين طالبوا بانضمام مصر للبروتوكول الاختياري لمناهضة التعذيب (حوالي 10 دول)، والتحقيق في جرائم التعذيب المرتكبة في السجون وتقديم الجناة للمحاسبة، وتوقيع اتفاقية مناهضة الاختفاء القسري (أكثر من 15 دولة). كما أوصت دول منها بلجيكا والنمسا وأستراليا بضمان المحاكمة العادلة. فضلاً عن أكثر من 12 دولة، أوصت بإنهاء الحبس الاحتياطي المطول وممارسات التدوير والإفراج عن المعتقلين تعسفًا. كما تبنت العديد من الدول توصيات بإصلاحات قانونية، منها مراجعة قوانين الإرهاب، وقانون العقوبات، والقوانين المنظمة لحرية الصحافة والإعلام والجرائم الإلكترونية، وقوانين تنظيم العمل الأهلي، والقوانين المتعلقة بمكافحة التمييز ضد المرأة.
وإجمالاً، فإن غالبية التوصيات التي قدمتها الدول إلى الملف المصري لم تخرج، عما جاء في ملفات أو تقارير الظل التي تقدمت بها المنظمات الحقوقية، سواء على مستوى التشريعات، والتي كان أهمها ما تم توجيهه من أوجه نقد لمشروع قانون الإجراءات الجنائية المعروض حاليا أمام مجلس النواب، هذا بخلاف ما تم تقديمه من توصيات متعلقة بالمرأة أو بممارسة حرية الرأي والتعبير، وغيرها من الملفات.
ولكن ما نود أن نلفت الانتباه إليه، أن هذه المراجعة الأممية للملفات الحقوقية لم تخرج في مجمل توصياتها، عما تم توجيه للملف المصري في المراجعة السابقة، وبشكل خاص فيما هو متعلق بالحريات العامة أو ممارسة العمل العام، وما يستتبعه ذلك من قبض وحبس احتياطي، وممارسة حرية العمل الصحفي، وما هو مرتبط بها من حريات الرأي والتعبير، وغير ذلك من الحق في التجمع السلمي.
ولكن لم تزل السياسات الواقعية تسلك نفس النهج، ولا تأبه للحالة الحقوقية الداخلية، إلا وفق ما يتماشى مع رغبة السلطة في الملف الحقوقي، هذا بخلاف ما يتم توجيهه من اتهامات سخيفة للعاملين بالمجال الحقوقي، من أنهم أصحاب أطروحات فكرية غربية أو غريبة عن المجتمع المصري، وأنهم يعملون وفق رؤى، من يقدمون لهم الدعم المالي، مستغلة في ذلك تملكها الواسع للأدوات الإعلامية، بما يسعى لخلق حالة من الفصام ما بين عمل المؤسسات الحقوقية، وبين القاعدة العريضة للمجتمع المصري، مستهدفة بذلك تهميش ما تقوم به من أعمال، أو ما تقدمه من تقارير، ترصد خروقات أو سلبيات الحكومة في المجال الحقوقي، بما يؤرق بيئة العمل الحقوقية، ويجعلها بيئة غير آمنة.
ومن هنا، يبقى الصوت الأعلى هو صوت المؤسسات التابعة للدولة، مثل المجلس القومي لحقوق الإنسان، كل ذلك لا يجعل أمور الحركة الحقوقية المصرية مناسبة للعمل الحقوقي الجاد، وهو الأمر الذي دوما ينعكس على مراجعة الملف الحقوقي المصري بالسلب وبالمزيد من الملاحظات.