مع تتويج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض 20 يناير 2025م، تكون قد اكتملت حقبة خمسة وعشرين عاماً من الكآبة في الشرق الأوسط، بدأت في 11 سبتمبر 2011 الذي كشف ضعف القلعة الأمريكية الحصينة، حين اشتعلت النار في قلب سمائها، ثم أعادت تأكيد ضعف الإمبراطورية، حين انهزم مشروعها في أفغانستان، ثم انهزم في العراق، ثم انهزم في مجمل الشرق الأوسط من إندونيسيا إلى المغرب، كان الهدف الأمريكي بعد 11 سبتمبر 2001، هو- كما يقول المستشرق الأمريكي زكاري لوكمان، في كتابه “تاريخ الاستشراق وسياساته: الصراع على تفسير الشرق الأوسط”، كان الهدف هو بصريح العبارة: “خلق مشرق عربي يديره عملاء للولايات المتحدة” ص 27 من ترجمة شريف يونس الصادرة عن دار الشروق 2006. كما نقرأ في ص 30، أن واحداً من الأسباب العديدة لغزو العراق في 2003، كان: “إزاحة العراق ثم سوريا ثم إيران كعقبات ممكنة أمام أمام الهيمنة الإقليمية الإسرائيلية وتمكين إسرائيل من الاحتفاظ بالسيطرة على كل الأراضي الفلسطينية المحتلة أو معظمها. بين غزو أفغانستان 2001م، ثم غزو العراق 2003م، ثم المشاركة الفعلية مع إسرائيل في تدمير غزة وإبادة أهلها 2023 – 2025م، تكون المهمة الأمريكية في تمزيق الشرق الأوسط وتدمير شعوبه قد بلغت قمة استعمارية، لم يبلغها استعمار من قبل، خمسة وعشرون عاماً بالتمام والكمال لم تتوقف آلة التخريب الأمريكية يوماً واحداً من الحرب المباشرة إلى اصطناع العملاء وتسليمهم مفاتيح القيادة.

سوف يتوقف التاريخ عند يناير 2025 أربع مرات: 

1- مرة من منظور الشرق الأوسط، حيث توقفت- ولا نقول انتهت- حرب طوفان الأقصى، حيث هيضت أجنحة المقاومة الفلسطينية في غزة وفي لبنان، ثم هيضت أجنحة إيران، بما انكسر من هيبتها إزاء الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على العاصمة طهران نفسها، وقد تجلت هشاشة دفاعاتها أمام الإغارات الإسرائيلية، ثم انحسرت الأضواء عن الحرب بمجملها مع زلزال سوريا، حيث سقط نصف تاريخها المعاصر بسقوط الديكتاتورية الأسدية البعثية في أيام معدودات من 28 نوفمبر حتى 8 ديسمبر 2024، انتهت حرب طوفان الأقصى، وقد تخلصت إسرائيل من جزء كبير من إمكانات المقاومة، كما قطعت الكثير من أذرع إيران، كما ارتاحت من ازدواجية الأسد الذي يضع قدماً معها في السر وقدماً مع المقاومة في العلن، ثم بقي شعب غزة وحيدأً، يسدد كل فواتير الحرب، ويتحمل منفرداً نتائج قرارات الجميع سواء الحلفاء قبل الأعداء، وقف أهل غزة في نهاية الطوفان على أكبر مجزرة بشرية في القرن الحادي والعشرين، دفعوا كل الأثمان وحدهم بين موت الأحباب وخراب الديار. 

2 – ثم المرة الثانية من المنظور الأوسع، منظور الشرق والغرب، منظور بلادنا من زاوية الاستعمار المعاصر، من وعد بلفور نوفمبر 1917م حتى ترامب 2025م، صحيح كلاهما استعمار، لكن بينهما فروقا مهمة، يلزم إدراكها حتى نتبين موضع خُطانا، فلا تزل أقدامنا في المهالك. هذه الفروق يمكن إجمالها في: كان الاستعمار البريطاني يفسر وعد بلفور، بأنه يتحدث عن وطن لليهود، وليس عن دولة، وأن الوعد كان يشترط عدم إلحاق الضرر بأهل البلاد الأصليين من عرب فلسطين، وأن الإنجليز في فلسطين من الانتداب 29 سبتمبر 1922 حتى الانسحاب 29 نوفمبر 1947 م، كانوا يجتهدون في التوازن بين مراعاة مصالح العرب ومصالح المهاجرين اليهود، دون أن يجازفوا بخسارة العرب ولا اليهود، وأن الانجليز كانوا كلما اضطربت عجلة القيادة في أيديهم، واندلعت الصراعات بين العرب واليهود، كانوا يرسلون لجان التحقيق والاستقصاء، ويعقدون المؤتمرات، ويسعون للتوفيق بين الخصمين، وأن الذي تبنى تقسيم فلسطين وإعلان دولة إسرائيل، كان الأمم المتحدة، وليست بريطانيا، كان هذا هو التراث البريطاني في إدارة المعضلة التي صنعوها، وابتلوا بها الشرق الأوسط، وقد ترك هذا التراث البريطاني أثره العميق على تقاليد السياسة الأوروبية والأمريكية تجاه الصراع، فقد استمر الغرب بكامله يحسب للعرب حساباً، فلا يميل لصالح إسرائيل كل الميل حتى حرب 1967 م، حيث اعتقد كثيرون في الغرب من منظور السياسة، أن العرب قد سقطوا، ولن يقوموا، ثم تأكد السقوط مرة ثانيةً، عندما بددنا نصر أكتوبر 1973 مع مبادرة السلام 1977م، منذ هذين التاريخين 1967 ثم 1977م، لم يعد الغرب يبالي كثيراً بإرضاء العرب أو الخشية من رد فعل العرب أو الحذر على مصالحهم من غضب العرب ، كل ذلك انتهى، وقد جربوا مرات ومرات، وعرفوا أن غضب العرب قصير الأنفاس محدود الأثر ضعيف الحمية خائر الهمة. لكن رغم كل ذلك الانحطاط في وزن العرب بقيت أوروبا مستمسكة بالحد المعقول من شرف الإنسانية النفعية المنافقة، إذ تعتبر الضفة وغزة والقدس الشرقية أراض عربية محتلة، وهذه الأخلاقية الأوروبية المتبقية، هي واحد من الموانع المهمة، دون التصفية النهائية سواء للقضية الفلسطينية أو الشعب الفلسطيني.

3- ثم المرة الثالثة من منظور الشرق الأوسط من الزاوية الأمريكية، أمريكا من عام 1915، كانت طرفاً أساسياً في الركائز التي نهض عليها المشروع الصهيوني عملياً: كانت شريكاً مع الإنجليز وقادة الحركة الصهيونية في استصدار وعد بلفور، كما كانت شريكاً في تأسيس وتمويل الوكالة اليهودية التي تولت تهجير اليهود إلى فلسطين، كما كانت شريكاً في تأسيس مدينة تل أبيب؛ لتكون مركز جاذبية المشروع الصهيوني. كانت أمريكا منذ اللحظة الأولى يدا بيد مع أوروبا، بفارق أن أمريكا كانت الأكثر سخاءً في التمويل والأكثر صلابةً في الدعم، لكن مثلها مثل أوروبا، كانت أمريكا تجتهد في عدم الذهاب بالاستهانة بالعرب إلى حد الازدراء، كانت في فترة بين الحربين تجتهد في تعميق المشروع الصهيوني، لكن دون الإضرار بمساعيها في وضع يدها على منابع النفط العربي، لكن مع انكسار هيبة العرب بهزيمة مصر الناصرية 1967، لم تعد أمريكا، تتحرج من التعبير العلني عن انسياق متزايد وراء الأهواء الإسرائيلية، كان المشروع الناصري بكل عيوبه يملأ الفراغ في الشرق الأوسط ساعده في ذلك عروبة مصر وانتمائها لمذاهب أهل السنة، ولهذين السببين عجزت إيران الثورية عن ملء الفراغ الذي تركته مصر الناصرية، فهي في النهاية أقلية فارسية مع أغلبية عربية، ثم هي أقلية شيعية مع أغلبية سنية، وقف حاجز اللغة وحاجز المذهب، دون شمول المشروع الإيراني عموم الإقليم. وتكرر الموقف مع تركيا أردوغان وطموحها في العودة للشرق الأوسط، فهي وإن كانت سُنة، لكن حاجز اللغة له دور كبير في الحد من شمولها عموم الإقليم، هذا لا ينفي حقيقة، أنه في غياب مشروع قيادي مصري، توزعت عواطف كثيرين في الإقليم بين إيران وتركيا. أمريكا لديها شراكة مع تركيا في حلف الأطلنطي، ولديها حرب باردة مع إيران، لكن لم تعد تجد مشقة في تدبير علاقاتها مع العرب، حسبما يخدم مصالحها، حدث تمييع لحقيقة العرب، مجرد حالة مائعة تغيب عنها الإرادة، كما تفتقد الصلابة.

4- أخيراً من منظور الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه، فهو- في حد ذاته- طوفان ضد الجميع، طوفان ضد العالم كله، هو حالة خاصة سواء في تاريخ أمريكا، أو في تاريخ الاستعمار الأوروبي، والخطير أنه جرت إعادة انتخابه مرة ثانية، بما يفيد أن طريقته في السياسة والحكم والتعامل مع العالم لها ظهير شعبي في صفوف المجتمع الأمريكي، هو لا يعبر عن نفسه، هو يعبر عن إمبراطورية مأزومة، تعيش ربع قرن من الهزيمة، تخرج من هزيمة لتدخل في هزيمة، هو الوجه المذعور لإمبراطورية واسعة الانتشار كثيفة السلاح، لكنها لم تكمل قرناً من عمرها كقوة أولى في العالم، لديها قواعد عسكرية تطوق الأرض والماء والفضاء بشكل غير مسبوق في التاريخ، لكنها رغم كل ذلك قصيرة العمر، إذا قورنت، بما سبقها من إمبراطوريات سواء شرقية قديمة أو غربية حديثة. إمبراطورية فيها أرقى جامعات العالم ورئيسها المنتخب، مثله مثل الأسبق جورج دبليو بوش الابن 2001 – 2008 في مرتبة العامي الأمي معدوم التثقيف والاستنارة والتحضر والتهذيب، كان الاستعماريون الإنجليز قبل مائة عام، يصطنعون الملوك والسلاطين من العدم، ثم- بالنفاق الاستعماري البريطاني- يخاطبونهم بأفخم الألقاب، ويستقبلونهم في أبهى المراسم، ويدخلون عليهم في إجلال وتوقير، حتى لو كان زائفاً ومصطنعاً، جاؤوا بالأمير فيصل بن الحسين من مكة، وقالوا له أنت جلالة ملك العراق، وجاؤوا بشقيقه الأمير عبد الله وقالوا له أنت سمو أمير الأردن، وجعلوا من الأمير حسين كامل سلطان على مصر، ثم الأمير فؤاد ونجله فاروق ملوكاً، كان الخطاب يراعي جلال الألقاب، بينما كانت الممارسة استعمارية بغيضة، تحتكر السلطة الفعلية، وتترك للملوك والسلاطين الزخرف الشكلي، كل هذا التراث انتقل إلى أمريكا بطبيعة الحال، فكم جاءت سواء عبر الانقلابات، أو غيرها بحكام موالين لها على وجه الحقيقة، لكنها تخاطبهم كأصحاب سلطان محترم وأصحاب سيادة مصونة، كل ذلك التراث جاء عند الرئيس دونالد ترامب وبطل مفعوله، فقد استغنى الرجل عن النفاق الأوروبي الأمريكي، وانتقل إلى الازدراء الصريح، فهو يخاطب المنطقة، كأن ليس فيها شعوب غير شعب إسرائيل، وفي هذه قد يكون عنده بعض الحق، فقد كبتت الديكتاتوريات صوت الشعوب، ثم هو يخاطب الحكام بغير احترام، حدث ذلك في ولايته الأولى 2016 – 2020، كما يتكرر بصورة أكثر فجاجة في مستهل فترته الثانية.

السؤال الآن: ماذا يفعل العرب مع هذا الطوفان؟ طوفان ترامب؟

كان الحكام العرب يظنون، أن مواقفهم المتخاذلة طوال خمسمائة يوم من الإبادة الصهيونية للشعب الفلسطيني، سوف تشفع لهم عند الأمريكان، لكن مع ترامب خابت ظنونهم، ولم تتحقق توقعاتهم، لسبب بسيط لم يحسبوا حسابه، وهو تفرد ترامب في تاريخ الصهيونية المسيحية البروتستانتية الأمريكية، فكثير ممن سبقوه من حكام أمريكان، كانوا صهاينة بدرجات متفاوتة، كانوا يقفون خلف اسرائيل بمقدار، ما تسمح به الظروف في إطار توازنات معينة، لكن حالة ترامب مختلفة فهو صهيوني مسيحي أشد صهيونية من أي صهيوني يهودي، ثم هو لا يقف في ظهر إسرائيل، بل هو يتصدر المواجهة للدفاع عن إسرائيل، ثم وهذا هو المستجد: يتصدر مواقع الهجوم لصالح إسرائيل. كل من سبقوه منذ بدأ الصراع العربي – الإسرائيلي، كانوا يسعون لتوازن ما، وكان يسعون للتوسط، وكانوا يرون من العظمة لهم، أن ينجحوا في تحقيق سلام في الشرق الأوسط، أما هو فلا، هو نموذج صهيوني بروتستانتي أشد تطرفاً من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. كانت المقاومة الفلسطينية قلعة حصينة، كما هي خط دفاع أمامي يحمي الأمن القومي العربي، لكن عرب الطوفان أغفلوا هذه الحقيقة، ولم يدركوا أن تصفية المقاومة سوف تفتح الأبواب للصهاينة، ورئيس مثل ترامب لابتزاز كل الحكام العرب، دون استثناء، وبالذات منهم من كان على مقربة جغرافية من مركز الصراع، كان القادة العرب مشغولين بالسؤال الخطأ: من يحكم غزة بعد أن تضع الحرب أوزارها؟ انشغلوا بهذا السؤال الصهيوني، وأغفلوا السؤال الصواب: من يحكم الشرق الأوسط، بعد أن تضع الحرب أوزارها؟ لمن تكون الكلمة العليا في المنطقة؟ لمن تكون السيادة العليا على كل الشعوب من فرس وعرب وكورد وترك إلخ؟ إنه الأقوى، إنه الذي غضب ولم يقف في وجه غضبه أحد، إنه الذي أباد غزة عن بكرة أبيها والعرب يتفرجون، هذه هي المعادلة الجديدة في الشرق الأوسط، معادلة تشكلت في خمسة وعشرين عاماً طويلة ثقيلة كئيبة، خسر فيها الجميع، وكسبت إسرائيل، خسر فيها العرب كل شيء حتى الحد المعقول من احترامهم لأنفسهم، خرج العرب من حقبة الخطابة والطموحات الزائدة، ليقعوا في بئر سحيق من الهوان واحتقار الذات، كذلك خسرت إيران، لكن خسارتها مخصومة من رصيد كبير من التوسع الإقليمي، كانت قد أنجزته في الربع قرن الأخير، كذلك خسرت تركيا، إذ دخلت في اختبار عنيف طوال حرب طوفان الأقصى، فلم تختلف استجابتها للتحدي كثيراً عن غيرها من دول عربية، ليس لها وزن تركيا ولا جدارتها، لكن تساوى الجميع في الفرجة على إسرائيل، حتى أكملت مهمتها في الإبادة بوحشية وإجرام، كذلك خسرت وسوف تظل تواصل الخسارة أمريكا، وسوف تكتشف في وقت قريب، أنها تمهد الظروف لما هو أسوأ من أحداث 11 سبتمبر 2001، فكل عدوان له ثمن، وكل انحياز له تبعات، وسوف تكون أحداث 11 سبتمبر 2001 ألعابا تافهة مقارنة مع المجهول القادم يقيناً، ولو بعد حين.

للأسف الشديد، أمريكا لم تتعلم شيئاً من أخطائها منذ 11 سبتمبر 2001، بل تعيد إنتاجها، وجوهر هذه الأخطاء هو العصف بالشرعية الدولية وازدراء القانون الدولي واحتقار المؤسسات الدولية وتحقير كافة الشعوب والاستعداد لتدمير مقدرات الشعوب، دون أن يرمش لها جفن.

السؤال الأخير: ماذا بعد ربع قرن من السياسات الأمريكية الكئيبة في الشرق الأوسط؟

الجواب: نبدأ الربع الثاني الأكثر كآبة، فمن يعيش حتى 2050، سوف يرى شرق أوسط، لا يكاد يشبه ما نره الآن في قليل أو كثير.

وهذا هو مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.