فيما تسارعت تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لتشمل شتى أرجاء العالم، ودالة على نهج ترامبي يميل إلى إرباك المشهد العالمي الراهن، وتحقيق مكاسب آنية أو الإسراع بمواجهات عنيفة، لا سيما مع الدول المتوسطة أو الصغيرة في هذا المشهد؛ تقاطع اهتمام القاهرة بتوجهات ترامب على الساحتين الإفريقية والشرق أوسطية بشكل متصاعد، منذ مطلع فبراير الجاري، وما طرحه ترامب من تسويات مفروضة على القضية الفلسطينية، ومن ضمنها إطلاق سياسات تطهير عرقي لقطاع غزة وتهجير أهله إلى عدة دول “محتملة”، ومن بينها مصر والسعودية، حسب ترامب وعدد من المسئولين الإسرائيليين، ثم ما تردد عن مساعي ترامب ربط وساطة بلاده في ملف سد النهضة الشائك بين إثيوبيا ومصر بقبول الأخيرة تصورات إدارته؛ لتفريغ قطاع غزة من سكانه وخطط أخرى بضم مناطق من الضفة الغربية لإسرائيل.
مبدأ ترامب الإفريقي: مزيد من الفوضى!
يبدو أن توقعات الخبراء إزاء سياسات ترامب في إفريقيا، وتحديدًا اعتمادها على منطق مواجهة النفوذ الصيني والروسي في المقام الأول، دون عناية تذكر بمصالح الدول الإفريقية، تكتسب مساحات جديدة كل يوم. فقد لمست قرارات ترامب بعد أيام من تقلده منصبه هذه المصالح على نحو سلبي للغاية؛ من قبيل تجميد عمل الوكالة الأمريكية للتنمية USAID، وهي الخطوة التي ستؤثر على الفور على ملايين الأفارقة الذين يتلقون رعاية صحية وخدمات أخرى من الوكالة، إضافة إلى فقدان مئات الآلاف من الأفارقة فرص عملهم في الوكالة ومشروعاتها في إفريقيا (منهم أكثر من 40 ألف شخص في كينيا وحدها على سبيل المثال). كما أن خطوة ترامب المباغتة تؤشر إلى خطوات مماثلة مرتقبة في ملفات أخرى في مسار العلاقات الأمريكية- الإفريقية بما في ذلك الملفات العسكرية والاقتصادية الملحة.
وفي الإطار السابق يلاحظ، أنه لم يكد الخلاف بين إيلون ماسك إمبراطور الاتصالات الأمريكي، الجنوب إفريقي الأصل ووثيق الصلة بترامب والممول الأول لحملته الانتخابية، وحكومة جنوب إفريقيا بقيادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، يتصدر مشهد العلاقات الأمريكية الجنوب إفريقية، إلا وبادر ترامب (8 فبراير) بتنفيذ تعهداته بمعاقبة جنوب إفريقيا اقتصاديًا؛ بسبب ما رأته واشنطن سياسات مصادرة أراض، تستهدف “فئات بعينها” في إشارة إلى أراضي البيض في جنوب إفريقيا والتي تم نزع مساحات منها لصالح مشروعات عامة؛ بينما كان تصعيد ماسك مستمرا منذ مطلع العام الماضي بسبب اشتراطات بريتوريا وجود مستثمر محلي في أية استثمارات خارجية في قطاع الاتصالات داخل البلاد بنسبة تصل إلى 25% ورفضها استثناء ذراعه ستارلينك StarLink من هذه الاشتراطات. دون أن يغيب ارتباط الموقف الأمريكي نحو جنوب إفريقيا بتدخل الأخيرة في الأزمة في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، (حيث تتوفر أغلب المعادن الهامة للصناعات التي تقوم بها شركة تسلا Tesla المملوكة لماسك) في صف قوات الجيش الكونغولي، بينما تدعم قوات حركة 25 مارس (المعارضة لكينشاسا) دولًا، مثل رواندا التي تحظى سياساتها بتأييد غربي- إسرائيلي ملموس. كما جاء في مسوغات قرار ترامب ضد بريتوريا رفع الأخيرة الدعوى المقامة ضد إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية، وهي الدعوة التي انضمت لها مصر (مايو 2024).
وبادرت إدارة ترامب في السابع من فبراير الجاري، بفرض إجراءات عقابية على جنوب إفريقيا، شملت الجانبين السياسي والاقتصادي معًا، إذ أعلن وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو (6 الجاري) مقاطعته قمة مجموعة العشرين G20 المقرر عقدها في جوهانسبرج في 21 فبراير الجاري؛ لأن البلد المضيف يعزز “التنوع والمساواة وأمورًا سيئة أخرى في أجندة G20″، في إشارة ضمنية لسياسات جنوب إفريقيا “الجنسية”. وتلا ذلك القرار بدء واشنطن خطوات عقابية غير مسبوقة ضد بريتوريا؛ واتضح من بيان السفارة الأمريكية في جنوب إفريقيا (7 الجاري) شمول هذه الخطوات، ما سمته “بإعادة توطين اللاجئين والاعتبارات الإنسانية الأخرى”، حيث تقرر أن تتخذ وزارتا الخارجية والأمن الوطني “خطوات مناسبة، وتتسق مع القانون” لوضع أولوية للإغاثة الإنسانية، بما في ذلك قبول وإعادة توطين الأفريكانريين “من ضحايا التمييز العرقي الجائر” في أرجاء الولايات المتحدة ووفق برامج اللجوء المستقرة بها، على أن تقدم الوزارتان خطة مفصلة بذلك للرئيس ترامب ومستشار الأمن القومي.
ترامب والإرهاب في إفريقيا: تهميش متزايد؟
لم تتضح في أجندة دونالد ترامب الانتخابية ملامح استراتيجية أمريكية محددة لمواجهة تنامي ظاهرة الإرهاب في إفريقيا، وما يتعلق بها من أسباب وتداعيات مؤثرة على المجتمعات التي تعاني من تلك الظاهرة. ويبدو من خطوات ترامب البطيئة في هذا الملف، باستثناء توجيه ضربات استباقية ضد عناصر “الدولة الإسلامية” في الصومال نهاية يناير 2025، والتي تمت بتنسيق بين واشنطن ومقديشو من أجل “تعزيز الشراكة الأمنية القوية بين الصومال والولايات المتحدة في مكافحة تهديدات المتطرفين” حسب تعليق لترامب على منصة إكس. كما أضاف وزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسيت، أن الضربات (التي تمت في مرتفعات جوليس Golis في إقليم بونتلاند شمال شرق الصومال) حجمت بالفعل من قدرة “الدولة الإسلامية” على شن هجمات إرهابية، وأنها “ترسل رسالة واضحة، أن الولايات المتحدة جاهزة للعثور على الإرهابيين والقضاء عليهم”.
وحسب تعليقات ترامب، فإن إدارته ستعمد إلى الإسراع من وتيرة تنفيذ الضربات ونجاعتها مقارنة، بما كان عليه الحال في ظل إدارة سلفه جو بايدن “التي لم تكن تتحرك بالسرعة الكافية لتنفيذ المهمة”. ويعيد هذا التطور احتمالات لجوء إدارة ترامب للاعتماد على توجيه ضربات نوعية لمعاقل الجماعات الإرهابية، دون تبني استراتيجية شاملة تجاه الظاهرة التي باتت مزمنة في القارة؛ وكذلك تظل تساؤلات قائمة عن مصير الوجود العسكري الأمريكي في بعض دول القارة لمواجهة التهديدات الإرهابية، واحتمالات تكرار سيناريو سحب القوات الأمريكية من الصومال الذي اتخذه ترامب بعد ساعات قليلة من تقلده منصبه في الرئاسة الأولى، وتراجع عنه جو بايدن في العام 2021. ويتوقع مراقبون أمريكيون عدم انتهاج ترامب استراتيجية مغايرة تجاه إفريقيا وقضاياها بشكل عام، ومن بينها مواجهة الإرهاب، في ضوء ما استقر في ذهنه من عدم أهمية القارة بشكل عام، إلا من زاوية موقعها في التنافس الدولي الراهن مع الصين وروسيا، ولأسباب متباينة في واقع الأمر.
ويعزز الانكماش الحالي في مساحات تمدد تنظيم “الدولة الإسلامية” في وسط آسيا والشرق الأوسط مسارين متناقضين في واقع الأمر؛ أولهما انتقال مركز الإرهاب وأنشطة مكافحته المفترضة إلى القارة الإفريقية، وثانيهما استمرار التجاهل الأمريكي والغربي في مكافحة الظاهرة بشكل شامل وبالتعاون الثنائي مع الدول المعنية على أسس التكافؤ والتنسيق المستدام والمتجاوز خدمة المصالح الغربية والأمريكية وحدها. ويقدم النموذج السوري الراهن، مصحوبًا بمثال سماح إدارة ترامب الأولى للقوات التركية بشن هجوم ضد القوات الديمقراطية السورية (الكردية التي طالما عولت عليها واشنطن في حربها ضد الدولة الإسلامية)، مؤشرًا إلى أفق تلاعب واشنطن بملف الإرهاب ودينامياته في إفريقيا مستقبلًا.
ترامب وملف سد النهضة: ابتزاز مزدوج؟
ظهرت تقارير مطلع فبراير الجاري بوضع ترامب ملف سد النهضة على طاولة ابتزاز مصر لتغيير موقفها المبدئي تجاه القضية الفلسطينية بشكل عام، وتجاه طرح ترامب بتهجير فلسطينيي غزة؛ تمهيدًا لفرض سيطرة أمريكية وإسرائيلية كاملة ومباشرة على القطاع. ورغم عدم تعليق القاهرة على مثل هذه التقارير، وما أشارت له من تداول المسألة خلال زيارة لمسئول بارز في إدارة ترامب للقاهرة وجهًا لوجه مع وزير خارجيتها ومدير المخابرات المصرية.
وجاءت تلك التقارير بعد ما تداول في ديسمبر 2024 بخصوص تحديث مصر بالتعاون مع السودان ملفًا حول أزمة سد النهضة (الحالية مع الحكومة الإثيوبية)؛ بغية رفعه للرئيس المنتخب حينذاك دونالد ترامب؛ تمهيدًا لبدئه رئاسته، وتضمن الملف، حسب مصادر في وزارة الري المصرية، طرح مقاربة جديدة قائمة على تفاصيل، قامت بها أجهزة مصرية عن الأضرار التي لحقت بمصر في السنوات الأربعة الماضية؛ بسبب سد النهضة.
وهكذا، فإن إدارة ترامب، التي كانت قد حققت في دورتها الأولى اختراقًا جزئيًا في الملف، واقتربت من إلزام إثيوبيا بالتوقيع على اتفاق ملزم بشأن إدارة السد وتشغيله، تطرح نفسها كفاعل دولي أول لتسوية ملف سد النهضة ومنحه أولوية لائقة بعد تجاهل إدارة جو بايدن، وعدد من الدول الفاعلة في القارة الإفريقية تقديم وساطات جادة. لكن مؤشرات وجود توتر في العلاقات بين واشنطن والقاهرة، وصفه مراقبون بالعنف منذ عقود، ترجح استخدام واشنطن ملف سد النهضة وعدد من الأزمات التي تؤرق القاهرة كأداة رئيسة في تعظيم الضغط على الأخيرة حال عدم قبولها بالتسويات الأمريكية (والإسرائيلية) المقترحة في الشرق الأوسط.
كما تكشف التطورات المرتقبة في العلاقات الأمريكية الإثيوبية وتشابك ملفاتها بين الوضع في البحر الأحمر، والصومال، وجيبوتي، والشأن الداخلي في إثيوبيا نفسها (لا سيما مسألتي إقليما التيجراي وأوروميا مع ارتفاع أصوات المعارضة فيهما، ومطالباتها القوية في الأيام الأخيرة بتدخل ترامب) عن مقاصة أمريكية تقليدية لربط أي تدخل حاسم في ملف سد النهضة– سلبًا أو إيجابًا- بتلبية المطالب الأمريكية في القرن الإفريقي؛ وما يعنيه ذلك من مجازفة أمريكية بمجمل أوضاع الملف في حوض النيل والقرن الإفريقي.
ماذا بعد؟
تشي مقاربة ترامب الراهنة والمتوقعة في إفريقيا بتحديات مباشرة تُفرض على سياسات مصر الخارجية في القارة، كما أن رفع الرئيس عبد الفتاح السيسي مستوى تحديه للمطالب الأمريكية غير المقبولة بتصفية القضية الفلسطينية بشكل تام، يؤشر إلى مدى خطورة هذه التحديات. لكن تظل لمصر أوراقًا هامة في مواجهة التصعيد الأمريكي في القارة وفي الشرق الوسط (مع ارتباط واضح في القضايا الأمريكية فيهما، مثل الضغط على جنوب إفريقيا بسبب موقفها من الحرب الإسرائيلية في غزة)، ربما يكون من أهمها الاضطلاع بدور مؤثر في ترتيبات الأمن في البحر الأحمر، ودعم جهود بناء الدولة ومكافحة الإرهاب في الصومال، ونجاح القاهرة في حشد موقف عربي موحد، في حدوده الدنيا، تجاه مجمل تصورات إدارة ترامب، وما يردده رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من إعادة تشكيل المنطقة بشكل غير متوقع.