لم يكن الدكتور “جمال حمدان” ناصريا بأي معنى معتاد، أو دارج.

في عزلته الطويلة، يقرأ ويكتب ويتابع ما يجري في بلده من تحولات وانقلابات سياسية، استقر فكره على تعريف لـ”الناصرية” ينتمي بأكمله إلى عالم الجغرافيا السياسية، كما ينبغي أن تكون- بنص تعبيره.

“الناصرية، هي الانتماء العلمي لمصر”، بغض النظر عما إذا كنت تؤيد مجمل سياسات “جمال عبد الناصر“، أو ضدها تماما.

باجتهاد آخر، فإنها جوهر نظرية الأمن القومي.

الفكرة قبل الرجل.

في اعتقاده، أن “عبد الناصر” هو أول زعيم مصري يكتشف جوهر شخصية مصر السياسية، ويضع يده على صيغة السياسية الخارجية لمصر، كما ينبغي في التخطيط السياسي الأمثل.

هكذا بالحرف.

“لم يخترعها، ولا كان أول من تعرف عليها نظريا، ولكنه كان أول من بلورها فكريا إلى حد ما، ثم طبقها عمليا إلى أقصى حد”.

من هنا فهو- كما يقول “حمدان”: “أول- وللأسف آخر- حاكم أو زعيم مصري، عرف وطبق جغرافية مصر السياسية، كما ينبغي أن تكون”.

وفي اعتقاده أيضا، أن مصر محكومة بجغرافيتها، إذا انفتحت على محيطها العربي، اكتسبت أدوارها كقوة قائدة، وإذا انكفأت على نفسها، انكسرت وهمشت ودخلت في اضمحلال تاريخي.

القضية الفلسطينية وحدها من سوف تقرر مصير مصر في النهاية، ما عدا ذلك فهو دجل مقصود”.

هكذا بدا حازما في صياغته من منطلق دراسته المتعمقة للجغرافيا السياسية المصرية قبل أي اعتبار آخر.

“الجغرافيا مجرد وعاء يصب فيه التاريخ”.

“كل خطوات التاريخ تقودك إلى الجغرافيا”.

كانت تلك نظرة متعمقة أخرى للأستاذ “محمد حسنين هيكل”، أعرب عنها ذات حوار بيننا حول راهب الجغرافيا.

“استمعت إلى قصص تروى عن عزلته في محراب فكر، لا يتصل بالعالم حوله، يخرج من منزله قليلا، ولا يفتح بابه لأحد إلا بإجراءات واتفاقات مسبقة، وتقصر الزيارات على من يطمئن إليه، وعددهم يحصى على أصابع يد”.

في لقاء بمكتب “هيكل” ضمه إلى الكاتب الصحفي “مصطفى نبيل”، وهو من أبرز المثقفين المصريين والعرب في ربع القرن الأخير، تولى لسنوات طويلة رئاسة تحرير مجلة “الهلال”.

أسهب “مصطفى” في الحديث عن “راهب الجغرافيا”، وكل حرف يقوله مصدق، فلا أحد غيره تفتح له الصومعة المغلقة على صاحبها باستثناء أسرته، تأتى إليه لتوفر احتياجاته.

“قال مصطفى: جمال يريد أن يراك.. ولم أكن في حاجة إلى تفكير، فأنا كنت أتطلع بدوري إلى رؤيته”.

في الموعد المحدد وصلا معا إلى شقة “حمدان” بحي الدقي.

مرة بعد أخرى، طرق “مصطفى” باب الشقة على الطريقة المتفق عليها، حتى يعرف من بالخارج، لكن لا أحد يستجيب.

بدأ بدوره يطرق الباب على نفس الطريقة، ولا أحد يفتح بابا، أو يصدر صوتا أن خلفه حياة.

اقترح “مصطفى”، أن يعودا إليه في يوم آخر بعد التأكيد على صاحب البيت حتى يفتح بابه، لكن “هيكل” أبَى، فقد كان مهيئا تماما للقاء، تطلع إليه مع رجل بدا أمامه عبقريا وغامضا.

“عبقريته في كتاباته وغموضه في حياته”.

الصحفي فيه تحرك على نحو لم يكن ممكنا معه أي انتظار لموعد جديد.

خرج إلى الشارع وبصحبته “مصطفى”.

التقط حجرا صغيرا، وقذفه على شرفة الشقة، التي تقع بالطابق الأرضي، لعل ضجيجا يوقظه من نوم، أو يذكره بأن هناك موعدا ـ على ما روي لي بعد سنوات طويلة رفيقه في تلك الزيارة المثيرة لراهب الجغرافيا.

سألت الأستاذ: “هل قذفت حجرا على شرفة شقة جمال حمدان؟!”.

ضحك قائلا: “دع القصة يرويها لك صديقك مصطفى نبيل”.

كيف كان اللقاء الأول؟

“سألته: لماذا هذه العزلة وإسهاماتك مراجع كبرى للباحثين والمثقفين والمعنيين بالشأن العام؟.. لماذا تفعل ذلك بنفسك، وأنت الآن مؤثر لحدود لا تتصورها في التفكير العام؟”.

“أنت تعيد فكرة الرهبنة المصرية بالعزلة في الخلاء، لكنك منعزل في فوضى”.

“طالبته، بأن ننتقل إلى مكان آخر، يصلح للحوار فيه، أن يرى الحياة الطبيعية، فربما تغريه بالعودة إليها”.

بعد قليل ذهب الرجال الثلاثة إلى فندق شهير بحي الدقي يطل على النيل.

في الحوار لطف إنساني، بدأه “حمدان”: “إنك تتصرف كلورد إنجليزي رغم صداقتك لعبد الناصر؟”.. مشيرا إلى سيجار في يده يشعله بثقاب.

ابتسم لملاحظته سائلا، عما إذا كان يريد أن يدخن سيجارا آخر يحتفظ به.

أخذ “جمال حمدان” ينفث دخانه في الهواء ناظرا إلى جريان نهر النيل والحوار يتدفق بعمق.

نفس الملاحظة سجلها أمامه عميد الصحافة اللبنانية “غسان تويني”، وكانت إجابته لماحة: “لا تنس أن السيجار كوبي، وكوبا دولة اشتراكية”.

كانت للرجلين- “هيكل” و”حمدان”- شواغل مشتركة حول علاقة الجغرافيا والتاريخ ومصر في موازين الاثنين معا، وكلاهما يتبنى أفكارا متقاربة في النظر إلى ثورة يوليو وزعيمها “عبد الناصر”.

تدفقت تساؤلات “هيكل” على صاحب “عبقرية المكان”: “ما الذي جرى للمكان وعبقريته، وكيف وصلنا إلى هنا؟”.

“إلى أين حركة التاريخ ذاهبة في هذا الموقع من العالم؟”.

أجاب “حمدان” بكبرياء حزنه: “حركة التاريخ الدائمة قد تكون أحيانا إلى أسفل.. شهدنا انقلابا، لأنه كان بين السكان من لم يقدِّر، ولم يرع حرمة وحق المكان”.

شيء مما دار بينهما سجله في مقدمة كتابه “أكتوبر ٧٣ـ السلاح والسياسة”، الذي أهداه إلى “ذلك العالم المصري الفذ”، غير أنه لم يدخل في جو الحوار، ولا تطرق إلى بعض الأسئلة التي طرحها عليه الدكتور “جمال حمدان” في حضور “مصطفى نبيل”، التي سجلها كتابة كما طلبت وألححت.

[كيف تسكت يا أستاذ هيكل على ما يجري في مصر؟

أجاب الأستاذ: وماذا تريد أن أفعل؟

قال حمدان: لا تقل لي ما تردده أنك مجرد كاتب صحفي، فهذا غير صحيح، أنت زعيم سياسي يسلم بزعامته الكثيرون، فكيف لا تقود الشعب في ثورة لإسقاط المعاهدة المصرية الإسرائيلية، خاصة أنك تتمتع بالثقة وبميزات لا يتمتع بها سواك، ولديك تجارب ومعرفة عميقة بالمسرح الدولي والأوضاع المحلية، عادة لا يتقن الحديث من يحترف الكتابة، ولكنك تتقن بالوقت نفسه الكتابة الراقية والحديث المقنع، وعادة لا يعرف التفاصيل من هو غارق في الكليات، لكنك تجمع بين المعرفة الدقيقة بالتفاصيل والكليات معا، وعادة لا يعرف الفيلسوف المسائل العملية ولا يتقنها، وأنت تعرف الفلسفة ولديك قدرة عملية كبيرة، وعادة ما يكون المفكر السياسي غير محترف السياسة وممارساتها، لكنك مفكر سياسي في ذات الوقت.

فلماذا لا تقود أهل مصر في طريق الخلاص؟

سأله هيكل فيما يشغله: لقد جئت إليك حتى أسمع منك، ما تفسيرك لتدهور موقف مصر السياسي؟ ولماذا رحب البعض باتفاقية “كامب ديفيد”؟

قال حمدان في كلمة كالرصاص: إنه الطغيان].

تلك العبارة الأخيرة، تبدو الآن كوصية من راهب الجغرافيا للأجيال الجديدة التي لم تعاصره.

إذا أرادت مصر أن تنهض من جديد لاستعادة أدوارها القيادية في المنطقة، فلا بد أن تؤكد التزامها الصارم بالقضية الفلسطينية كقضية وجودية، وتلتزم الخيار الديمقراطي في بنية حكمها، حتى تكتسب مناعة أمنها القومي.