التعامل مع أطروحات ترامب، باعتبارها حتميه غير دقيق، والرد عليها برفع نفس الشعارات القديمة غير مفيد، والمطلوب النظر إليها، أنها أشبه بامتحان لقدرات مصر والدول العربية، وضعه رجل يزن الدول “بجيوبها”، وما تمتلكه من قوة مالية واقتصادية ومن تأثير دولي.

والحقيقة، أنه لم يكن يتخيل أكثر العرب تشاؤما، أن يأتي اليوم لنرى فيه زعيم أكبر دولة في العالم، يطالب بتهجير شعب من أرضه، فقد اعتدنا، أن نرى زعماء أمريكا ينحازون لإسرائيل، ويعطوها الحصانة؛ لترتكب ما تشاء من جرائم دون حساب، أو يكررون على سبيل إبراء الذمة جملة: “من حق الشعب الفلسطيني بناء دولته المستقلة”، دون أن يضغطوا على إسرائيل للقبول بها، لكن أن يكون الحل في تهجير ما تبقى من شعب سبق وهُجر جانب منه، فتلك جريمة كبرى.

ومع ذلك، فإن أهمية ما قاله ترامب، إنه جاء في ظل مواقف أوروبية “مائعة”، ومواقف عربية “غائبة”، أي أنه قدم حلا غير متوقع وغير مسبوق، استمد جانبا من قوته من ضعف الآخرين وميوعة مواقفهم، فحل الدولتين الذي طرحه الجميع غربا وشرقا، وظل هو أساس التسوية السلمية وقرارات الشرعية الدولية، انتهكته إسرائيل منذ اتفاق أوسلو في ١٩٩٣ بالاستيطان وبحصار الضفة وغزة وإضعاف السلطة الفلسطينية، ودعم الانقسام بين فتح وحماس، أما الموقف العربي فقد ظل ضعيفا ومفككا وعاجزا عن فرض تسوية سلمية قائمة على قرارات الشرعية الدولية.

ومن هنا، وبعد ٣٠ عاما على مسار أوسلو، وبعد عجز الأمم المتحدة والقوى الكبرى على فرض أي تسوية سلمية على إسرائيل، فكان الحل لدى حماس في ٧ أكتوبر وعملية طوفان الأقصى التي كانت نتاج الفشل والتعثر والإحباط، وأخرجت في مواجهتها مشروع اليمين الإسرائيلي المتطرف؛ ليرتكب كل أنواع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، دون حساب ومعه مشروع ترامب.

والحقيقة، أن اقتراح ترامب هو أشبه بامتحان نهاية العام الذي بني على “أعمال السنة” التي شملت ضعف البدائل الأوروبية، ووهن الأداء العربي وعجز مؤسسات الشرعية الدولية عن فرض احترام قواعد القانون الدولي، وعدم قدرة تحركات الملايين في مختلف دول العالم ومعها دول مثل جنوب إفريقيا على وقف جرائم الإبادة الجماعية الإسرائيلية، وفي النهاية انكسار قدرات فصائل المقاومة المسلحة في غزة ولبنان، كل ذلك هو حصيلة “أعمال السنة”؛ فجاء امتحان ترامب لنهاية العام ليكون كاشفا لهذا الضعف.

والحقيقة، أن “امتحان ترامب” لم يتضمن في الأسئلة كلاما أيديولوجيا كبيرا، كما كان يردد كثير من مناصري إسرائيل حول حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ووصف المقاومين بالإرهابيين، إنما تضمن بالأساس كلام “البيزنس” والترويج لمشروع التهجير، باعتباره مشروعا استثماريا، وأعلن إنه يرغب في تحويل غزة إلى ريفيرا الشرق، وأن تشتريها الولايات المتحدة وتحول الموضوع إلى صفقة تجارية لرجل غير دارٍ بالتاريخ وبمعاني الاستقلال وقيم التحرر الوطني المغروسة في نفوس الفلسطينيين.

امتحان ترامب لمصر لم يتضمن مبارزة فكرية حول من أحق بفلسطين العرب أم اليهود، كما لم يتضمن أسئلة حول القدرات العسكرية لمصر والدول العربية، فليس مطروحا القيام بعدوان ثلاثي جديد، مثلما جرى عام ١٩٥٦، يتطلب تعبئة شعبية وعسكرية، لأن هذه التعبئة كانت هي الرد الصحيح على غزو مسلح، صحيح أنه نجح في هزيمة الجيش واحتلال سيناء، إنما فشلت مخططاته في تغيير النظام وإسقاطه؛ نتيجة المقاومة الشعبية في مدن القناة، وكانت الشعارات الخالدة “الله أكبر فوق كيد المعتدي” وغيرها لها تأثير هائل في نفوس الناس وتعبئتهم؛ لأنهم كانوا يواجهون مستعمرا ومحتلا مباشرا وعسكريا.

إن الانتصار في ٥٦ كان في جوهره يرجع لاستخدام أدوات صحيحة في مواجهه عدوان خارجي بجانب ثقة الناس في النظام القائم، مما جعل انتصار الشعب حتميا، أما مع “امتحان ترامب”، فإن الرجل لوح بسلاح المساعدات، ويعرف أوضاع مصر الاقتصادية، وليس مطروحا أي غزو مسلح أو احتلال أجنبي، يحتاج لخروج الشعب بالملايين لمقاومته أو حتى إلى مظاهرات باردة موجهة وسابقة التجهيز، إنما هي معركة تقوم على الضغط والابتزاز الاقتصادي واستغلال الضعف الداخلي لتقديم إجابات نموذجية على امتحان ترامب بالرضوخ والقبول.

امتحان الرئيس الأمريكي، هو للوضع الاقتصادي والسياسي وليس لقوة الجيوش ولا لمقاومة الشعب، وأن المطلوب النظر بشفافية لوضع مصر الاقتصادي وحجم الديون الكبير والقدرة على سداد أقساطها بدون الحاجة لضخ ٣٥ مليار دولا جديدة في شرايين الاقتصاد المصري، مثلما جري العام الماضي في مشروع رأس حكمة.

امتحان ترامب جاء في “المقرر” أي في الوضع الاقتصادي والمالي والبيزنس، ولم يذهب إلى التاريخ والعسكرية أو السياسة والفكر، وإن الرجل يعرف جيدا، أن مصر تعاني من أزمة اقتصادية كبيرة، وأن ما ضُخ في اقتصادها العام الماضي من خلال مشروع رأس الحكمة، أعطاها “قبلة الحياة”، ولا يوجد ما يدل على أن هذه الأموال أنفقت في الاتجاه الصحيح ولصالح مشاريع منتجة. 

اللافت أن مصر في كل معاركها الخارجية كان أساس أي انتصار هو صلابة الشعب ومقاومته وشعوره، بأن البلد بلده، حتى لو خسر الجيش المعركة، فالشعب هو الذي حمى البلاد في ٥٦ و٦٧ وحتى عقب الثغرة في ٧٣، وقفت المقاومة الشعبية في السويس في وجه تسلل القوات الإسرائيلية.

امتحان ترامب وأسئلته كلها في “المنهج” حول وضعنا الاقتصادي، وكفاءة نظامنا السياسي، وهي تحتاج إلى شعب حر، يعيش بكرامة في ظل نظام عادل، حتى يستطيع أن يقدم إجابات نموذجية متسقة مع تاريخ الشعب وطموحاته، وليس نزوات ترامب.