انتهت فعاليات قمة الاتحاد الإفريقي 38 في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في 16 فبراير الجاري، دون حدوث اختراق إفريقي حقيقي في عدد من أخطر الملفات والأزمات المتصاعدة في القارة، مثل الأزمة في جمهورية الكونغو الديمقراطية (التي علق رئيسها فليكس تشيسيكيدي مشاركته فيها؛ احتجاجًا على موقف الاتحاد الإفريقي المتخاذل تجاه الأزمة في بلاده)، والهجمة الأمريكية الراهنة على عدد من دول القارة مثل جنوب إفريقيا، وتجدد دعم إقليمي لميليشيات الدعم السريع في السودان، وغيرها من الأزمات التي باتت مزمنة في القارة، دون أفق واضح لقدرة الاتحاد الإفريقي على التعامل الجاد معها. ورغم أن القمة الأخيرة جاءت تحت عنوان “بناء جبهة موحدة لتقدم قضية العدالة، ودفع التعويضات للأفارقة”، فإن سيناريو العمل الجماعي الإفريقي لتحقيق مطالبة إفريقية موحدة يبدو بعيد المنال.

أجندة القمة 38: ما الجديد؟

تشي مراجعة حساب العمل الجماعي الإفريقي عن العام السابق، والذي حمل تحت مظلة الاتحاد الإفريقي شعار مواجهة تحديات التعليم في إفريقيا، بمخرجات هزيلة للغاية في هذا المجال، وجاء ذلك مبدئيًا من طرح الاتحاد شعارًا نمطيًا مفرغًا من مضمونه- عوضًا عن عدم بنائه على معطيات عملية- من قبيل “تعليم الإفريقي ليلائم القرن 21: وبناء نظم تعليم مرنة لزيادة الوصول لتعلم شامل وجيد في إفريقيا”، إذ تبدو صيغة القرن 21، الذي مضى منه ربعه بالفعل، كأنه حقبة زمنية مقبلة أو فارقة في العمل الجماعي الإفريقي، خلافًا لما تؤشر إليه مراجعة القمم الإفريقية السابقة. كما استمر ربط الملف بشكل حصري تمامًا بأجندة الأمم المتحدة وأهداف التنمية المستدامة، لا سيما الهدف الرابع عن التعليم SDG4 (والمعاد صياغته في أجندة إفريقيا 2063 في التطلع الأول دون تفصيل لديناميات تحقيق هذا التطلع). كما شهد العام الماضي 2024 تراجعًا كبيرًا وملفتًا في قدرة الاتحاد الإفريقي على مواجهة أزمات القارة مواجهة في حدود دنيا. كما اختلطت الأولويات التي وضعها القادة في تلك القمة بين السلام والأمن والتغير المناخي والتنمية الاقتصادية ودور إفريقيا في السياق العالمي الأكبر، ولم يكشف العام 2024 وأداء الاتحاد الإفريقي خلاله عن مخرجات حقيقية تعزز هذه الأولويات، أو تؤشر إلى الالتزام بتحقيقها؛ كما اتضح في انفلات الأوضاع في شرقي الكونغو وعجز مجلس السلم والأمن بالاتحاد عن توجيه اتهامات صريحة للأطراف المتورطة في الأزمة (رغم إدانات أممية واضحة ومتكررة لهذه الأطراف، وفي مقدمتها رواندا وأوغندا)، كما فشل الاتحاد في وضع أطر واضحة للتعاون الإفريقي- الإفريقي في مجالات التعليم والتنمية وبناء القدرات ومواجهة تحديات حفظ السلم والأمن.

وفي الدورة الحالية، بدت أجندة القمة متشابهة إلى حد كبير مع سابقتها (2024)، فقد ركزت القمة على شعار العدالة للأفارقة وذوي الأصول الإفريقية عبر التعويضات”، وهي مسألة لم تحظ بعد بمقاربة إفريقية جماعية، ولا تزال رهن استجابات الدول الأوروبية وتفاهماتها مع الحكومات الإفريقية. كما شملت أجندة القمة الأخيرة العديد من قضايا القارة، مثل السلم والأمن الإقليميين، والتنمية الاقتصادية، والإصلاحات المؤسسية للاتحاد الإفريقي نفسه، ودور إفريقيا المتنامي في الساحة العالمية. لكن فعاليات القمة كشفت عن تركيز أكبر، وفي ظل غياب عدد من أبرز قادة القارة، على عملية انتخاب رئيس مفوضية الاتحاد، والتي انتهت بانتخاب الجيبوتي محمود علي يوسف (سفيره بلاده السابق في مصر) في هذا المنصب كأول عربي- إفريقي يتقلده.

ولم تسفر جلسات القمة (15-16 الجاري) عن وضع خطط محددة لتنفيذ رؤوس هذه الأجندة مستقبلًا، ما يعني ترك المجال مفتوحًا أمام تأجيل جديد لاستحقاقات الاتحاد الإفريقي ودوره في قيادة العمل الجماعي الإفريقي على الأرض. ولعل الشاهد الأكبر على ذلك، ما اعتبره محللون أفارقة أكثر دلالة القمة في حد ذاتها على فشل الاتحاد الإفريقي المزمن في مجابهة المشكلات الخطيرة الحقيقية التي تواجه دول القارة، كما في أزمات شرقي الكونغو الديمقراطية، والسودان، والنزاع الصومالي- الإثيوبي، وجنوح عدد من الدول الإفريقية (مثل رواندا وأوغندا وكينيا التي كانت قد طرحت مرشحًا لقيادة مفوضية الاتحاد الإفريقي، وحتى إثيوبيا دولة مقر الاتحاد الإفريقي وغيرها) للعب أدوار تدخلية في دول جوارها لصالح قوى دولية وإقليمية والتخادم معها على حساب سيادة واستقلال دول الجوار أو الأزمات تلك. وبدا مدهشًا عجز الاتحاد عن إدانة هذه الانتهاكات بلغة صريحة غير مواربة، وتحاشيه تسمية هذه الأطراف، رغم ثبوت لعبها تلك الأدوار علانية.

وهكذا، فإن جديد قمة الاتحاد الإفريقي يتمثل، وبموضوعية تامة، في تعمق فشل المنظمة القارية لمستويات دنيا غير مسبوقة في تعزيز السلم والأمن في القارة، وترك الباب مفتوحًا أمام تدخل مزيد من القوى الإقليمية والدولية في خطوط أزمات القارة، وغض النظر عن الدول الإفريقية المتورطة في دعم هذه التوجهات على حساب استقلال دول إفريقية أخرى وسيادتها.

الاتحاد الإفريقي وتراجع “السلم والأمن” في القارة

اشتعلت العديد من الأزمات الإفريقية لمستويات جديدة في طور انعقاد القمة الثامنة والثلاثين؛ وعلى سبيل المثال استولت قوات المتمردين في حركة 23 مارس M23 على مدينة بوكافو Bukavu، ثاني أكبر مدن شرق الكونغو وعاصمة إقليم كيفو الجنوبي، في 15 فبراير الجاري، ولم تجنح قمة الاتحاد لتوجيه إدانة مباشرة لدور رواندا وأوغندا في الأزمة، مع ملاحظة تولي الرئيس الرواندي بول كاجامي لسنوات عدة مهمة الإصلاح المؤسساتي في الاتحاد الإفريقي ومجابه الفساد بداخله. كما عجزت القمة عن وضع آلية واضحة؛ لمنع تحول الأزمة في شرقي الكونغو لصراع إقليمي أوسع.

وقبل انعقاد القمة بساعات قليلة، بادرت الرئاسة في جمهورية الكونغو الديمقراطية (14 فبراير) بإعلان إحجام الرئيس فليكس تشيسيكيدي عن المشاركة في القمة الإفريقية، فيما بدا احتجاجًا ضمنيًا على قصور عمل الاتحاد الإفريقي وتخاذله إزاء الأزمة المستعرة في بلاده. فيما لفت عدد من رؤساء القارة إلى خطورة تمدد الأزمات الخطيرة في السودان وموزمبيق وانتشار الإرهاب وتغيير نظام الحكم بشكل غير دستوري، وهي جميعها قضايا تقع تحت طائلة عمل الاتحاد الإفريقي افتراضًا. وتثير هذه التناقضات- بين حجم المشكلات المتنوعة والواضحة وملابسات تورط أطراف إفريقية في تأجيجها وصمت الاتحاد الإفريقي إزاء إدانة الأخيرة- مخاوف حقيقية حول مستقبل حالة السلم والأمن في القارة، وتعمق الشكوك في قدرة مؤسسات الاتحاد الإفريقي على التعبير عن أهدافه والعمل على حماية حياة الأفارقة، عوضًا عن إنجاز حملات تعويض لأفارقة الشتات على سبيل المثال، كما يتضح في تعرض أكثر من عشرة ملايين إفريقي لموجات إضافية من التشرد الداخلي في جمهورية الكونغو الديمقراطية والسودان وموزمبيق في العام 2024- 2025 دون تدخل ملموس من مفوضية الاتحاد.

كما تلا ختام القمة، التئام ما عرفت بحكومة سودانية جديدة بقيادة ميليشيات الدعم السريع في العاصمة الكينية نيروبي في 18 فبراير، كما لاحظ مراقبون في نيروبي دعم الحكومة الكينية الكامل لقيادات من الميليشيا رغم العقوبات الدولية المفروضة عليهم، ودعم تكوين “إدارة موازية” لمجلس السيادة الانتقالي بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان؛ وفيما يؤشر ذلك إلى تراجع واضح في قيم تقديم “حلول إفريقية للمشكلات الإفريقية”، فإنه يكشف عن حجم التدخلات الإقليمية (التي تقودها الإمارات في هذا الملف صراحة)، والدولية (المتمثلة ربما في جنوح واشنطن لخلط أوراق التوازنات الإقليمية بشكل أكثر حدة)، وعن مستقبل دور الاتحاد الإفريقي المتراجع في ملف حفظ السلم والأمن في القارة، والاكتفاء بدور المراقب، وربما التخادم في بعض الحالات (كما في ملف الأزمة السودانية ومراعاة مصالح وحسابات الدبلوماسية الإثيوبية في هذا الملف في المقام الأول).

وفي السياق السوداني، فإن الاتحاد الإفريقي يتجاهل التدخل الفعال، ويتغاضى عن خطورة استمرار، ما باتت توصف بالكارثة الإنسانية الأكبر في العالم التي تطال نحو 12 مليون سوداني، يعانون من التشرد الداخلي (حسب تقديرات الاتحاد الإفريقي نفسه)، وخطورة تداعيات هذه الأزمة على دول جنوب السودان وإثيوبيا ومصر وتشاد (التي تستضيف جميعها مئات الآلاف من السودانيين الفارين من الحرب).

مطالب التعويضات: التحدي والاستجابة!

لم تكن مطالبة الاتحاد الإفريقي في قمته الأخيرة بالتعويضات بمنأى عن حركة المطالبة بالتعويضات التي ازدهرت خارج الأراضي الإفريقية (في الشتات) منذ منتصف القرن الماضي، وارتبطت هذه المطالبة بالدفاع عن حقوق الأفارقة في القارة وذوي الأصول الإفريقية خارجها للتعويض عن مظالم مثل الاسترقاق والاستعمار والفصل العنصري، وجاء ذلك تحت لافتة “إفريقيا العالمية” Global Africa الذي ذاع استخدامه بين المطالبين بالتعويضات في العقدين الخيرين من القرن الماضي (قبل تأسيس الاتحاد الإفريقي تحديدًا).

ومن هنا، فإن حلول المطالبة بالتعويضات على قمة برنامج عمل الاتحاد في العام الجاري 2025 يعبر عن استجابة القارة المتأخرة نسبيًا لجهود سابقة قادها الأفارقة في الشتات. كما تثير هذه الاستجابة المتأخرة مخاوف كونها تكتيكية الطابع، ولا يعول عليها في تحقيق مسار جاد لتعويض الأفارقة عن هذه المظالم التاريخية التي طالتهم لأسباب متنوعة.

كما لا يفوت هنا الإشارة إلى عدم تحقيق إفريقيا خطوات جادة في مسار التعويضات منذ انعقاد المؤتمر الأفريقاني الأول حول تعويضات الرق والاستعمار والاستعمار الجديد First Pan-Africanism Conference on Reparations for Slavery, Colonialism and Neo-colonialism الذي عقد في مدينة أبوجا بنيجيريا في العام 1993 الذي عقد برعاية منظمة الوحدة الإفريقية ومفوضية التعويضات بالمنظمة وحكومة نيجيريا ومجموعة الوجهاء بمنظمة الوحدة الإفريقية Group of Eminent Persons (GEP)، والتي ترأسها رجل الأعمال النيجيري ك. و. أبيولا (وضمت كل من علي مزروعي وسمير أمين)، وعاب عليها متخصصون وقتها تأثرها التام بحركة التعويضات في الولايات المتحدة، وما غلب عليها من نزعة فردية واضحة تتعارض- في واقع الأمر- مع الحالة الراهنة في إفريقيا.

وتشي هذه القراءة باحتمال عدم نضج مطالب القمة الأخيرة بالتعويضات، وتبنيها مسارًا رمزيًا (إن لم يكن دعائيًا) لتحقيق هذه الغاية، حسبما يتبين من ربط شعوب القارة بالأفارقة في الشتات، وهي سياقات متعارضة للغاية، ولا يمكن التوفيق بينها عمليًا في ظل المتغيرات المتسارعة إقليميًا ودوليًا (من قبيل مطالبة إدارة ترامب بتعويضات لصالح الأمريكيين من أصول إفريقية مثالًا).

خلاصة

انتهت قمة الاتحاد الإفريقية الثامنة والثلاثون دون وضع برامج عمل محددة؛ لتحقيق العدالة ومطالب التعويضات والحفاظ على السلم والأمن في القارة، وبدت- أكثر من أي وقت مضى- فعالية للعلاقات العامة وتسجيل المواقف، دون أن تشهد إدانة واضحة -شكلية حتى- للأطراف الإفريقية التي تنتهك صميم قواعد العمل الجماعي الإفريقي؛ ما يعني إضافة الحدث نفسه لسلسلة من القمم غير الفاصلة في مسار هذا العمل في حقيقة الأمر.