منذ أيام قليلة، أقر مجلس النواب المصري المواد المتعلقة بالتقاضي عن بعد في المحاكمات الجنائية أو التحقيقات، أو ما يتعلق بتجديدات الحبس، أو الحبس الاحتياطي، وذلك في المواد أرقام 529 حتى 532، والتي أقرت أمور المحاكمات عن بعد أو سماع الشهود أو استكمال التحقيقات، وما إلى ذلك من إجراءات لازمة في مراحل الدعوى الجنائية منذ بدايتها، حتى صدور حكم نهائي بات فيها، إذ لا بد أن تتسم كل هذه المراحل بالمشروعية والدستورية، وبما يضمن حقوق المتهمين ويحافظ عليها، ولا يكون الهدف هو مجرد الوصول إلى لحظة معاقبة المتهم، دونما مراعاة لأية حقوق مشروعة لها في مواجهة السلطة.

وإذ يمثل القانون بشكل رئيسي أحد أبرز محاور الصراعات الاجتماعية والسياسية حول المصالح المتنازعة بين القوى الاجتماعية على اختلافها في المجتمعات المعاصرة‏,‏ ومن ثم يشكل أحد ميادين حسم الصراع وإقرار المصالح للقوي الغالبة بلا نزاع‏.‏ وأن الوصول إلى توازن ما في المصالح هو تعبير أكثر تعقيدا، عن أن الدولة وسلطاتها وأجهزتها تصل في بعض المراحل إلى مستوى يتجاوز حدود المصالح الضيقة للقوى الاجتماعية والسياسية المسيطرةـ وصفوتها الحاكمة وظهيرها الاجتماعي إلى مصالح أكثر اتساعا، تتصل بقوى اجتماعيا أوسع نطاقا‏،‏ أو مصالح أكبر تتجاوز الصراعات الاجتماعية والمصالح الضيقة للصفوة السياسية الحاكمة‏.‏ وهذا المعنى ما مؤداه، أنه يجب أن تتم الصناعات القانونية بطرق أكثر تقربا من المجتمعات المخاطبة بها، وحتى يستقيم الكلام، فلا بد وأن نؤكد على أن قانون الإجراءات الجنائية يمثل الظهير الحامي لحدود الشرعية، فيما تتخذه السلطات من إجراءات حال تنفيذها للقوانين العقابية، بداية من لحظة حدوث الجريمة، حيث لا يمكن في جميع الأحوال تصور الوصول إلى العدالة الناجزة في المواد الجنائية، والتي لا تقف إلا عند حد توقيع العقاب الملائم على المتهم جزاءً؛ بما اقترفت يداه، كذلك الأمر، أو ربما أشد فلا يمكن تصور تحقق تلك الغاية المتمثلة في معاقبة المجرمين، إلا من خلال إجراءات جنائية تصون حقوقهم، في كافة مراحل التقاضي، بداية من لحظة القبض عليهم، نهاية بتنفيذ العقوبة المقضي بها، أو القضاء بتبرئة من تم تقديمه للمحاكمة، وإذ أنه لما كان التشريع «القانون» هو السند الذى يتوقف عليه تنظيم ممارسة ورسم حدود الحقوق والحريات، فالتشريع على هذا النحو هو السند الذى يتوقف عليه تنظيم ممارسة ورسم حدود الحقوق والحريات، فإن ما تقره التشريعات من القواعد القانونية في شأن هذا الموضوع، لا يجوز أن ينال من الحقوق التي كفل الدستور أصلها، سواء بنقضها أو بانتقاصها من أطرافها، ويتعين أن يكون منصفا ومبررا، وبالتالي فإنه لا يجوز للسلطة التقديرية للمشرع، أن تتجاوز أو تنحرف عن الأهداف الدستورية في طريقة وكيفية مباشرته لاختصاصه الفريد، وقد اشترط الدستور لتحديد قواعد الإجراءات الجنائية مستندا إلى مبدأ عام، وهو الثقة في القانون لتنظيم الحريات.

ومن هذا المنطلق، فيجب قبل البحث عن إقرار أية قواعد تدعو إلى هيكلة نظام العدالة، بما يتناسب مع التحديثات التقنية أو الإلكترونية، ألا يكون ذلك على حساب أي حق من الحقوق المكفولة للمتهمين ضماناً للمحاكمات العادلة، وإذا كان لنظام التقاضي الإلكتروني العديد من المزايا، أهمها توفير الوقت والجهد والحفاظ على الأوراق، والسداد الإلكتروني، وسرعة الإجراءات بشكل عام، لكنه من حيث الأصل، يجب أن يختلف عن التقاضي التقليدي، فيما يتضمنه من ضمانات أو حقوق للمتقاضين بشكل عام، وإن كان أمر الحداثة، لا بد منه فعليًا مع التطورات العديدة التي تجتاح المجتمعات، إلا أن أمر التقاضي الإلكتروني يصطدم، فيما يخص التقاضي الجنائي بقواعد فقهية ومبادئ دستورية وقانونية أهمها العلانية والشفوية والمواجهة، والذي يصعب تحقيقه دون اتصال فعلي ما بين المحكمة والدفاع والمتهم، وبشكل خاص في حالة عدم وجود نصوص حديثة تتبنى تلك التحديثات الجديدة، كما أن الأمر لا يقف عند حد إقرار النصوص القانونية فقط، بل إنه يتعدى ذلك، لكون يتطلب العديد من الإصلاحات الهيكلية للبنية الأساسية للمحاكم والنيابات، بحيث لا يصبح اللجوء إلى ذلك النوع من التطور التقني يقف حجرة عثرة أمام حقوق المتهمين، وضمانات محاكماتهم العادلة.

وحسناً فعل المشرع في المشروع الجديد بإقراره نص المادة 531، والتي نصت على أنه في جميع الأحوال لا يجوز الفصل بين المتهم ومحاميه أثناء اتخاذ هذه الإجراءات. لكن الإشكالية هنا تقع في تفسير ذلك النص حول مفهوم الفصل بين المتهم ومحاميه، هل المقصود منه عدم الفصل المادي بينهما، بما يسمح بمزيد من التواصل بين المتهم ودفاعه، أم أنه يقتصر عند حد رؤية كلا منهما الآخر من خلال الشبكة العنكبوتية، على النحو السائد من خلال جلسات تجديد الحبس خلال الآونة الأخيرة، وهو الأمر الذي ترتب عليه العديد من المشاكل التي تضر بسريان ذلك المبدأ ذاته، إذ أنه في العديد من الحالات كانت هناك حالات من قطع الاتصال، وهو ما يفسد معنى عدم جواز الفصل بين المتهم ومحاميه، كما أن عدم قدرة المتهم على الانفراد بمحاميه تمثل عقبة أمام تحقيق مبدأ عدم الفصل بينهما، وهو ما يضر بمشروعية الإجراءات المتخذة تجاه المتهم.

وفي ذات السياق، وافق مجلس النواب على نص المادة 525، كما هي دون تعديل، وجاء نصها كالتالي: «مع عدم الإخلال بالقواعد والمواعيد والمدد وغيرها من إجراءات التقاضي المنصوص عليها في هذا القانون، تسري أحكام هذا الفصل على إجراءات التحقيق والمحاكمة عن بعد باستخدام وسائل وتقنيات الاتصال الحديثة المسموعة والمرئية، وذلك كله بما يضمن أحكام سرية التحقيقات والحضور والعلانية وشفوية المرافعة والمواجهة بين الخصوم الواردة في هذا القانون”. وهذا النص أيضا لا يحقق ضمانة المواجهة المتطلبة في المحاكمات الجنائية بين المتهم والشهود على الكيفية المتطلبة لتحقيق الدفاع الكامل للمتهمين، ومناقشتهم للشهود بشكل يحقق دفاعهم، ويضمن محاكمات عادلة لهم.

وعلى الرغم من كثرة الاعتراضات التي وجهت لمجموعة هذه النصوص من العديد من النواب، إلا أن الحكومة كانت لها الغلبة في التصويت، بما تملكه من أغلبية تصويتية، تضمن لها تمرير ما يعن لها من نصوص أو قوانين كاملة، بما يجعل لأي صوت معارض أو على أقل تقدير، يسعى إلى المحافظة على بعض الحقوق، ليس له أدنى تأثير.

وإذ أننا لا يمكن أن يكون سعينا بهذه الرؤية النقدية سوى استهداف الصالح العام، وتحقيق أكبر قدر من الضمانات الدستورية والحقوقية للمتهمين في أورق محاكماتهم الجنائية، وهو الأمر الذي يدعونا إلى المطالبة قبل تطبيق تلك النصوص المستحدثة على أقل تقدير بتهيئة بنايات المحاكم والنيابات، بما يسمح بتفعيل التقاضي عن بعد، بما لا يضر بمصالح المتهمين، أو أن يعصف بضمانات المحاكمات العادلة.