هكذا “عادت ريما لعادتها القديمة”… وعد ونكث… وها هو يعد مرة ثانية، ولربما ثالثة. رئيس الوزراء المهندس مصطفى مدبولي، قامت حكومته منذ أيام قليلة بهدم ضريح العلامة والشاعر والسياسي رئيس الوزراء محمود سامي البارودي. ضريح البارودي الذي تولى رئاسة وزراء مصر، وكافح من أجل بلاده ودافع عن ثورتها ضد الاستعمار الإنجليزي، ونفي خارج البلاد، وقبل ذلك بأسابيع وضع أفضل دستور، عرفته مصر حتى اليوم، وهو الدستور الذي حكم البلاد 47 يوما، حيث سقط بمَجيء الاحتلال في مايو 1882، (هذا الشاعر الفذ)، هدمت الحكومة ضريحه يوم 6 فبراير الماضي.
هدم ضريح البارودي
من سخرية الأقدار، أن يُهدم ضريح البارودي في ذات اليوم الذي اجتمع فيه رئيس الوزراء مع مجلس أمناء الحوار الوطني، هذا الحوار نكث وعصف بمخرجاته المهندس مصطفى مدبولي منذ اجتماعه الأول بالعاصمة الإدارية مع وفد من مجلس الأمناء في 25 فبراير 2024، وبمقر المجلس بشارع قصر العيني في 28 مارس 2024، (وقد حضر الاجتماعين كاتب هذه السطور)، عندما ذكر أن مجلس الوزراء سيقوم بتنفيذ 10 توصيات كل شهر من التوصيات الـ135 التي أقرها الحوار الوطني قبل انتخابات الرئاسة السابقة، مع وعد آخر منه بتشكيل لجنة مشتركة من المجلسين (الأمناء والوزراء) لمتابعة التنفيذ. ومنذئذ لم ينفذ رئيس الوزراء سوى القدر اليسير من مخرجات الحوار الوطني، كما لم تجتمع اللجنة المذكورة ولو لمرة واحدة، ولا نبالغ القول، إنه أحيانا ما نفذت الحكومة عكس المخرجات التي جاء بها الحوار الوطني، وهو ما حدث على سبيل المثال لا الحصر بشأن تشكيل المجلس الوطني للتعليم والابتكار، أو ما يسمى بمفوضية التعليم!
النكوث الأخير من المهندس مدبولي بشأن ضريح البارودي، هو نكوث مؤكد من خلال ما ورد عنه بتاريخ 30 أكتوبر الماضي، عندما وعد وحنث، بأن أي خطأ ورد في هدم المقابر لن يتكرر. وإذ بالكارثة تقع ويتم هدم الضريح الأثري الكبير منذ أيام، ليلحق بما هدم قبله بعدة أسابيع من بعض أضرحة السيدة النفيسة والإمام الشافعي وقرافات الأباجية والسيوطي والسيدة عائشة والمماليك وباب النصر والطحاوية والمجاورين وباب الوزير، بما يشمل أضرحة مستولدة محمد علي ومحمود باشا الفلكي وعين الحياة ويحيى حقي وغيرهم وغيرهم.
هكذا رئيس الوزراء من نكوث إلى نكوث. لكن حتى لا نظلم الرجل ونحمله ما لا يطيق، يجب أن نقر أن خطة التخطيط العمراني تجعله مغلوبا على أمره، فواضعوها ينفذون تعليمات غير تعليماته، والمخططون له، هم من أغرقوا مصر بالكباري والأنفاق والمحاور والمونوريل تنفيذا لتعليمات رئاسية. بعبارة أخرى، الرجل يده مغلولة أمام بعض المؤسسات في الدولة، ومن ثم هو أضعف من أن يحمل مسئولية عمل لم يقم به. لكن تبقى الشكليات مهمة، بمعنى إنه إذا وعد وظهر في الصورة، إنه (بالتعبير القرآني) هو من نكص على عقبيه، فعليه أن يحتج بأي شكل من الأشكال ولو بالاستقالة من منصبه.
مقبرة الخالدين.. وعد ونكوث آخر
في يونيو 2023، وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي بإنشاء مقبرة الخالدين؛ كي تضم كبار عمالقة الفكر والسياسة والأدب والفقه في مصر، وذلك بعدما انتشرت مسألة هدم المقابر والأضرحة ومشتملاتها من زخارف ومعادن ومخطوطات نفيسة حوتها الجدران. وإلى اليوم لم تف الدولة بوعدها بتأسيس تلك المقبرة، رغم أن عملية النقل أصلا مشوهة للمظهر الحضاري وعبق التاريخ وانتهاك لحرمة الموتى، والتي انتقدها مفتي مصر الأسبق شوقي علام في أحد كتاباته؛ لكونها أمرا محرما شرعا لكونه في غير ضرورة.
مقابر الأجانب.. لا مساس
وعلى أية حال، فإنه ولكون الأحياء المعنيين بالأضرحة المهدمة أو العرضة للهدم مستقبلا، هم من المغلوب على أمرهم، وممن ليس لديهم شوكة؛ كي يدافعوا عن أنفسهم، فعلى الأرجح ستتم عملية الهدم في القاهرة القديمة، وهو ما حدث ولا زال يحدث.
جدير بالذكر، أن هناك مقابر وأضرحة عديدة يمتنع المساس بها؛ لكونها تضم رعايا أجانب. وهذه المقابر تخص اليهود في البساتين ومقابر العلمين بمطروح ومقابر الأتراك بمدينة نصر بالقاهرة وسيدي بشر بالإسكندرية ومقابر الكومنولث بضاحية مصر الجديدة، وكلها من المقابر التي لا يستطيع المطورون الحضاريون المساس بها.
التخطيط العمراني لوسط القاهرة.. وعد جديد
في اجتماع لرئيس الوزراء المهندس مصطفى مدبولي مع اللجنة الاستشارية للتنمية العمرانية منذ أيام قليلة، ذكر الرجل، أن مجلس الوزراء كلف استشاريا عاما بوضع المخطط العام لمنطقة وسط القاهرة بعد نقل المباني الحكومية منها للعاصمة الإدارية، وأن هذا التصور سيعرض للحوار المجتمعي للوصول إلى توافق، يلي ذلك عرض المتوافق عليه على المستثمرين، حيث تلقى الصندوق السيادي طلبات من مستثمرين، من أمثال محمد العبار رئيس مجموعة إعمار الذي يرغب- حسب تعبيره- في جعل المنطقة شبيهه بـ (دون تاون دبي)، التى تستقطب ملايين الزوار سنويا.
وهكذا يتبين، إننا مقبلون على وعد آخر، يتعامل مع منطقة وسط البلد التي تخلو منها الوزارات والمصالح الحكومية، وهي بالتأكيد غير قابلة للمساس بالهدم والحفر؛ لكون أعماقها عامرة بخطوط مترو الإنفاق المتشابكة، ما يستحيل معها مساس الحفارات والجرافات بها، ناهيك عن أن هناك آلاف من الناس بها يخشون على مصالحهم، إذا ما مُست بضرر، على العكس من القاهرة التاريخية التي لا يدافع عنها سوى المثقفين، كما لن يسمع أحد من المطورين في السلطة- أو إن شئنا القول فنقول المخربين- صراخ الموتى من عمالقة الفكر والعلوم والأدب والدين والسياسة.
ما سيحدث في الأيام القادمة، هو تطوير للمنطقة؛ كي تضم حسب اللجنة الاستشارية مشروعات وشققا فندقية ومطاعم عالمية ومتنزهات، ومشروعات ثقافية وفنية وترفيهية، ومكاتب إدارية وتجارية متميزة، ومراكز للعمل المشترك لرواد الأعمال، ليكون هناك مزيجا بين الثقافة والتجارة والفخامة والرقي، وهو ما كانت عليه المنطقة التي كانت تشبه باريس ولندن في وقت من الأوقات.
خشية وتوجس مما هو قادم
الخشية الحقيقية من التطوير في وسط القاهرة، هو أن تُشوه مبانيها ذات الطراز اليوناني والإيطالي والفرنسي، بأن تُدهن بألوان شاذة، أو أن تُتلف زخارفها وبلكوناتها والقباب التي تعلو بعضها، أو أن تُقطع الأشجار العتيقة، كما حدث منذ سنوات قليلة في المريلاند والزمالك والعجوزة، أو أن تُهدم بعض تلك المباني العتيقة لتوسعة الشوارع أو بناء جراجات متعددة الطوابق. الأيام القادمة ستبين وحدها، ما إذا كانت الدولة ستنجح أم لا في هذا التطوير.