ستكون خطيئة من هذا الجيل من السياسيين والمثقفين العرب، أن نتعامل مع مقترحات وتصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول المسألة الفلسطينية (أو الإسرائيلية) بالقطعة، أو بمنطق لكل حادث حديث، فالرجل- حسب تصريحاته، وحسب تشكيل فريقه للشرق الأوسط- قد قرر أن الوقت حان، وأن الفرصة مواتية لفرض حل ترامب النهائي للصراع الفلسطيني/ العربي- الصهيوني مرة واحدة وإلى الأبد، على أن يأتي هذا الحل وفقا لعقيدة اليمين الصهيوني بشقيه القومي والديني، وهي ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة، وترحيل سكانها (أي الترانسفير)، وخاصة الضفة الغربية، باعتبارها أساس الاستحقاق اليهودي التاريخي لتملك فلسطين، إذ هي تحديدا وتاريخيا مسرح التوراة، وأرض الممالك اليهودية القديمة.
لكن ذلك لا يعني- بالضرورة- التورع عن قضم أجزاء أخرى من أراضي بقية الدول المجاورة لاعتبارات أمنية، أو لحاجات استراتيجية أخرى، كالمياه مثلا، أو التحالف مع أقلية هنا أو هناك في المحيط الإقليمي.
لقد كانت مسألة الضفة بالذات هي السبب الدائم والرئيسي لفشل كل مبادرات السلام سواء المصرية، من خلال زيارة الرئيس أنور السادات للقدس عام ١٩٧٧، أو العربية مثل مبادرة فأس، ومبادرة الأمير فهد، وأخيراً مبادرة بيروت عام 2002، كما كانت مسألة الضفة هي سبب فشل المبادرات الأمريكية، من كامب ديفيد إلى مؤتمر مدريد إلى حل الدولتين، بل تسببت مسألة الضفة كذلك في تحطيم مبادرة أوسلو الإسرائيلية ذاتها، حينما اغتال متطرف يميني إسرائيلي رئيس الوزراء اسحق رابين، عقابا له على تفريطه في أرض التوراة بقبول قيام سلطة فلسطينية في جزء صغير من الضفة، طبقا لاتفاق أوسلو الذي عرف وقتها باسم غزة/ أريحا أولا، وذلك لكي لا تأتي مرحلة ثانيا وثالثا… وهكذا حتي تقوم دولة فلسطينية، بعد ان تثبت التجربة إمكان التعايش السلمي بين هذه الدولة وبين إسرائيل.
ورغم هذا التشبث الأيديولوجي غير القابل للمناقشة بتملك الضفة، ورغم التوسع الاستيطاني الصهيوني السرطاني فيها، فلم تستطع أية حكومة يمينية في إسرائيل (على كثرة تعاقب هذه الحكومات)، أن تعلن ضمها للسيادة الاسرائيلية كليا أو جزئيا، وذلك بسبب مشكلة السكان الفلسطينيين، إذ أن ضم الأرض بسكانها يحتم حصول هؤلاء السكان على حقوق المواطنة، بما فيها الترشح للانتخابات والتصويت فيها، فتتحول إسرائيل إلى دولة ثنائية القوميةً، فإذا حجبت هذه الحقوق عن السكان الفلسطينيين، مع استمرار وجودهم فذلك إعلان رسمي بعنصرية الدولة اليهودية، وعلى الرغم من الطابع العنصري الأصيل للفكرة الصهيونية ومشروعها، فإن مؤسسيه الفكريين وزعمائه الحركيين حرصوا بشدة على نفي ذلك الطابع عنه، وكم كانت نكسة إسرائيل وحلفائها الاستعماريين مريرة ومدوية، حينما نجحت الدبلوماسية العربية في سبعينيات القرن الماضي بمساعدة دول عدم الانحياز في استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، يساوي بين الصهيونية وبين العنصرية، وقد كان الغاء هذا القرار أحد شروط إسرائيل والولايات المتحدة لمواصلة عملية السلام، بما يؤدي إلى حق تقرير المصير الفلسطيني، وقد ألغي القرار فعلا ضمن قائمة التنازلات المتسرعة التي قدمها الجانب العربي، دون أن يحصل الفلسطينيون على حقهم في تقرير مصيرهم حتى اليوم.
أخذنا هذا الاستطراد بعيدا بعض الشيء عن موضوعنا الأصلي الذي هو خطة ترامب للحل النهائي، (ولكن بالمعنى السلبي) للقضية الفلسطينية، وهذا المعنى السلبي لتعبير الحل النهائي للقضية الفلسطينية، يردد صدى هذا التعبير سيئ السمعة الذي اخترعته ألمانيا الهتلرية؛ لتتعامل به مع المشكلة اليهودية في أوروبا، عن طريق الإبادة الجماعية، أو ما سمي فيما بعد باسم الهولوكست، وإن كان هذا الحل النهائي في حالتنا الفلسطينية، لا يعني الإبادة الجماعية فقط، كما فعلت إسرائيل مؤخرا في غزة، وفقا للدعاوى المرفوعة ضدها في محكمة العدل الدولية، بل يعني أيضا وأساسا الترانسفير أو التهجير، أي التطهير العرقي، إذا أردنا الدقة القانونية والسياسية، وذلك حتى يتسنى ضم الضفة كاملة، ومن ثم إقامة إسرائيل الكبرى، دون قنبلة الفلسطينيين السكانية، وهذا هو السياق الذي يجب أن يضع فيه كل فلسطيني، وكل عربي مشروع ترامب الذي بدأ مفاجئا بترحيل مليوني فلسطيني من غزة إلى كل من مصر والأردن، بذريعة توفير حياة لائقة لهم، وفي الوقت نفسه إعادة اعمار قطاع غزة.
وسواء كان المشروع المقترح لإعادة الإعمار يقضي بتملك الولايات المتحدة لغزة- كما أوضح ترامب في البداية- مع تهجير الفلسطينيين قسريا، أو بموجب صفقات مع الدول المجاورة وغير المجاورة، أم تطور الاقتراح إلى التواطؤ غير المعلن على ما يسمى بالهجرة الطوعية شكلا، والمخططة مضمونا، فإن مصطلح الترانسفير أو إخلاء الأرض الفلسطينية من سكانها، يكون قد أصبح متداولا ومعتمدا، بل ومطبقا في سابقة، سوف تطبق بكل تأكيد في الضفة الغربية بأسرع مما يفترض الكثيرون، بل يمكن القول إن العمليات المستمرة لجيش الاحتلال في معظم مدن ومخيمات الضفة، والتي اتسع نطاقها بعد وقف إطلاق النار في غزة، ليست إلا تمهيدا للمسرح في الضفة الغربية لخطط الضم والترانسفير.
قبل ترامب لم يتبن أي رئيس أمريكي علنا مبدأ ضم الأرض الفلسطينية المحتلة لإسرائيل رسميا، ولم تصف أية إدارة أمريكية من قبل الضفة الغربية وغزة، سوى أنها أرض محتلة، وكذلك كان الوصف الأمريكي الرسمي الدائم للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، هو أنها عقبة في طريق السلام، بل لم يذكر أي مسئول أمريكي- صغيرا أو كبيرا- في الإدارات السابقة الضفة الغربية بالاسم الذي يطلقه عليها اليمين الصهيوني، أي اليهودية والسامرة، أو جوديا وساماريا، وذلك كما يفعل حاليا الوزراء والدبلوماسيون المعنيون في إدارة ترامب.
أكثر من ذلك، فإن أكثر الرؤساء الأمريكيين تحالفا مع اليمين الصهيوني قبل الرئيس الحالي، وهو جورج بوش الابن حليف جماعة المحافظين الجدد الموالية لذلك اليمين الصهيوني… هذا الرئيس تحدث عن تبادل أراض بين إسرائيل وبين الدولة الفلسطينية المقترحة في إطار حل الدولتين، وذلك مقابل احتفاظ إسرائيل بالكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة، بما أنه لم يعد من الواقعي توقع انسحاب إسرائيل من هذه الكتل “حسب رسالته إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق آرييل شارون عام ٢٠٠٣.
من الاستعراض السابق، فنحن إذن أمام انقلاب شامل في السياسة الأمريكية يتطابق مائة في المائة مع مشروع إسرائيل الكبرى في أكثر نسخه عدوانية وعنصرية واستعمارية، كما وضعه آباؤه الأوائل تحت مسمى الصهيونية التصحيحية، بقيادة زئيف فلاديمير جابوتنسكي، ثم مناحيم بيجين وإسحق شامير وإبراهام شتيرن ومائير كاهانا، وهؤلاء هم الأسلاف أو الآباء الروحيين الذين ورثهم بنيامين نيتنياهو وفريقه الوزاري الحالي، في ظرف ملائم أكثر ما تكون الملاءمة، وهو كما سبق القول، وكما نكرر الآن مجيء رئيس أمريكي يتبنى هذا الرؤية ومقتضياتها العنصرية الاستعمارية بالكامل، فهل ستكون المنطقة وبقية دولها أمام قدر مقدور؟ أم بقيت أدوات للصمود والمواجهة؟ ذلك حديثنا التالي.