مصر أمامها مهمة استراتيجية لا تقبل التأجيل، هذه المهمة باختصار شديد هي: الخروج من الحصار، قبل أن يصل إليها الانهيار عاجلاً أو آجلاً، فقد تمت الإحاطة بها من كل الجوانب، ويجري الحفر تحت جدرانها من كل الجهات، يجري تحزيمها بأحزمة من الزلازل سواء في عمقها الإفريقي من منابع النيل حتى السودان، وسواء من شمالها الشرقي حيث تُحاط بأحزمة النار من غزة حتى الأناضول، وسواء من غربها الشمالي حيث المجهول من أقدار ليبيا. حصار مُكتمل الأركان يحيط مصر بانهيارات من كل صوب، وإذا بقيت مصر على حالها دون خطط عملية للتحرر من هذا الوضع، فسوف يمتد الانهيار إليها في الداخل. مصر- واقعياً- في قلب بؤرة صراع وحشي بالمعنى الحرفي لكلمة وحشي، تمزقت غلالة أن مصر في حقبة سلام، مثلما تتمزق كل يوم غلالة التضامن العربي، مثلما تتبدد كل يوم مقولات النظام الدولي والشرعية الدولية والقانون الدولي والسلام الدولي، كل المساند التي يمكن الاستناد عليها تتساقط، كل العكاكيز التي يمكن التوكؤ عليها هشة، فلا شيء مضمون، لا السلام مع العدو الصهيوني مضمون، ولا تضامن الشقيق العربي مضمون، ولا إنصاف النظام الدولي مضمون، الكل يراك وهو ساكت صامت يرقب، ماذا تفعل، الكل لديه من البصر والبصيرة؛ ليعلم أن مصر تحت الحصار من كل جانب، لم يتحرك لك أحد، ولن يتحرك لك أحد، يستوي في ذلك أقرب الأقربين مع أبعد الأبعدين.
مصر في امتحان وجودي، يعنيها وحدها بالدرجة الأولى، يعني وجودها من جذوره، يعني بقاءها من عدمه، يعنيها قبل أن يعني أحداً سواها، ففي عالم مضطرب كل هذا الاضطراب، تنشغل كل دولة بأولوياتها، وليس من أولويات أي دولة التقدم لإنقاذ أخرى، إلا إذا كانت تفكر في بسط نفوذها عليها بشكل مباشر أو غير مباشر، لا توجد دولة في العالم ذات توجه خيري مثالي في سياستها الخارجية، كل سياسة خارجية هي واحد من اثنين: دفع مضار أو كسب مصالح.
هذا الحصار الذي يحيط بمصر هو واقع، لا يختلف عليه اثنان، ربما يكون الاختلاف فقط حول: هل جرى الحصار مصادفة وعبر التوالي الطبيعي للأحداث؟ هل جرى الحصار عبر خطة توافق عليها أصحابها عن تدبير؟ هل جرى الحصار عن غفلة مصر وكسلها وسوء سياستها؟ أرجح الجواب الثالث: بقاء الحاكم في موقعه ثلث قرن من الزمان 1981- 2011 م، دون تجديد ولا إبداع ولا ابتكار ولا قلق ولا تساؤل ولا محاسبة، كان هو الغطاء الذي أعمى بصيرة مصر عن رؤية حركة التاريخ في أخطر مراحله بين خواتيم القرن العشرين، ومطلع القرن الحادي والعشرين. ثلاثون عاماً من الاستقرار، وهذا في حد ذاته إيجابي، لكن تحته كمكمت مصر، حتى ترنحت ولزمها الكسل، حتى تبلدت وتبلدت حتى تعفنت روحها ووهت عزيمتها، وتخنثت إراداتها. وكانت خلاصة هذه الغفلة: 1- جرأة إثيوبيا على حقوق مصر في النيل الأزرق، وتعاطف أكثر دول حوض النيل معها. 2- التدمير البطيء للسودان تحت الحكم الديني 1989 – 2019، حيث التقسيم والحروب الأهلية وتمزيق الهوية الوطنية للسودان. 3 – تسليم الدولة الوطنية في مصر لخصومها الموضوعيين في أول انتخابات رئاسية 2012. 4- تسلل ثم تصاعد دور تركيا في المجال الحيوي لمصر من كل الجهات. 5- انسحاب مصري تدريجي من كل أدوارها الإقليمية، بما ترك فراغاً هائلاً تمدد فيه الطموح الإيراني، ينافسه الطموح الإسرائيلي، ينافسهما المال والإعلام الخليجي. 6- الإخلال بالتوازن الاجتماعي بين من يملكون كل شيء، ومن لا يملكون أي شيء. 7- الإخلال بالتوازن السياسي حيث تضخمت القوى الدينية تحت الأرض وفوق الأرض حيث باتت الدولة المصرية سفينة مضطربة في أمواج من بحر صاخب قوامه قوى دينية لا تخفي تناقضها الجذري مع مفهوم الدولة الوطنية من أساسه. 8- اتساع الفجوة بين الشعب والدولة، حيث فقدت الدولة جاذبيتها وفقدت الوطنية معناها. 9- في العقد الأخير من حكم مبارك وقعت الهوية الوطنية تحت ضغوط الأمركة وضغوط الخلجنة، وقد تلاقت هذه وتلك مع ضغوط القوى الدينية التي كانت على وفاق مزدوج سواء مع الأمريكان، أو مع تركيا أردوغان. 10- عندما غرقت حقبة مبارك في طوفان الجماهير التي فاضت في الميادين، كانت مصر قد فقدت البوصلة تماماً، وجاءت الثورة أو الشق الشعبي المدني الجماهيري من الثورة؛ بحثاً عن دولة جديدة لها بوصلة جديدة، حتى تخرج من حصارها الذي كان قد بدأت تتضح معالمه، وقد اكتملت ملامحه مع خاتمة الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.
مصر- رغم كل شيء- استثناء فريد من ثلاثة أشياء: 1- ليس فيها مشكلة تمزق الهوية الوطنية الواحدة التي تعاني منها كل دول الإقليم، وعلى رأسها إيران وتركيا وإسرائيل، مصر هوية وطنية واحدة من رفح، حتى السلوم ومن الإسكندرية حتى أسوان، لا تتنازع فيها الهويات ولا تتصارع العرقيات ولا تتنافر المكونات. 2- ليس فيها انقسام الوحدة الترابية، مصر دولة موحدة، لا يخضع شبر منها لاحتلال أجنبي، وليس على ترابها قاعدة عسكرية لأي أجنبي، مصر ترابها موحد، وسلاحها واحد، في يد جيش وطني هو بوتقة، ينصهر فيها كل المصريين على قدم المساواة. ليس فيها كيانات اجتماعية أو سياسية ذات توجهات انفصالية، مصر تمتاز بمستوى مثالي من الاندماج الوطني، بما يعفي السلطة المركزية من أعباء كثيرة، تشقى بها أجهزة الحكم في كثير من بلدان المنطقة.
إذا قررت مصر البقاء كما هي في مكانها، فلن تبقى كما هي، ولن يبقى مكانها، الانهيار من حولها لن يتوقف، والحصار المضروب حولها لن يقف عند الحدود إلى أجل غير مسمى. مصر عليها أن تقرر- بعد أن تخرج من إرث مبارك وحذره ثم جموده وكسله- أن تقرر إعادة اكتشاف نفسها، ثم إعادة خلق نفسها، ثم إعادة فرض نفسها. أمور ثلاثة لا تحتاج إلى نظريات، فقط تحتاج غريزة البقاء، كما تحتاج سلامة عقلها السياسي المحض. مصر كيان ذو طبيعة خاصة، فهي حضارة وثقافة وانسان وحضور، حتى وهي في لحظات ضعفها، مصر ليست مجرد أرض بين حدود أربعة، هي فاعلية في التاريخ تضئ وتنطفئ حسب تفكير القيادة وهمتها ورؤيتها وعزيمتها. نصف قرن من السلام من 1973 – 2023، أدى دوره في التاريخ، وتوشك جولة جديدة من التاريخ أن تبدأ، أو هي بدأت مع اتفاقات السلام الإبراهيمي 2020، في هذا التاريخ الجديد: إسرائيل تعلن صراحة إرادتها لإعادة تغيير وجه الشرق الأوسط، وليس مجرد أن تعيش في سلام مع باقي شعوب الشرق الأوسط، تغيير وجه الشرق الأوسط معناه شرق أوسط تحت قيادة إسرائيل، بعض الأطراف في الإقليم ليس عندهم مانع في التعاون معها نكايةً في إيران، والبعض يرحب بالتعاون معها نكايةً في تركيا، والبعض مثل إثيوبيا يرحب بالتعاون معها نكايةً في مصر، قلصت الكثير من نفوذ إيران بترحيب من بعض العرب، توشك أن تنتهي من التصفية النهائية للحق الفلسطيني بعدم ممانعة من كثير من العرب ، تكرر الإعلان عن قلقها من استحواذ تركيا على القرار السوري بعدما كانت في أول الأمر لا تمانع من ذلك ولولا أنها وافقت على إنهاء حكم الأسد وبداية حكم هيئة تحرير الشام لما كانت جرت عملية انتقال السلطة بهذه السهولة والسلاسة، ثم هي لا تتوقف عن تكرار إبداء القلق من مصر. جيش مصر- بطبعه- جيش محارب، ليس قوة رمزية، وليس شرطة عسكرية، وليس سيف الملك، كما كان يحب الملك فاروق أن يسمع، الجيش المصري هو الجيش المعاصر الوحيد الذي لديه تاريخ قتالي من منابع النيل في الجنوب حتى الأناضول في الشمال، يوم كان الطريق أمام المصريين مفوتحاً إلى القسطنطينية، القرن التاسع عشر هو قرن الجيش المصري، حيث كانت الحرب هي جوهر السياسة، وحيث الجيش والسياسة هما الأداة لإعادة اكتشاف قدرات مصر ثم لإعادة خلق هوية مصر، ثم لإعادة فرض مكانة مصر، وفقاً لما تقتضيه مصالح وأمن واستقلال مصر، محمد علي باشا لم يكن متعلماً، لكنه بالغريزة كان واحداً من أعظم رجالات التاريخ الإنساني في النصف الاول من القرن التاسع عشر، الدرس العظيم الذي علمه لنا هذا القائد، هو أن وجود مصر غير حدود مصر؛ ولكي تحمي حدود مصر فعليك أن تعلم أن وجودها يقع بين منابع النيل والأناضول، في مطلع القرن التاسع عشر حيث الباشا، مثلما اليوم كانت موارد مصر أقل من الوفاء بطموحات مصر، لكن قيادة محمد علي باشا الحكيمة الحازمة الرشيدة، سدت الفجوة بين الإمكانات والطموحات وخلق من الولاية العثمانية الممزقة إمبراطورية حقيقية من الناحية الفعلية، لا ينقصها إلا الاسم والاعتراف فقط، حدث هذا عندما التقت قيادة حكيمة طموحة مع موقع مصر وعبقرية شعبها وصبره وجلده وفدرته الفائقة على التحمل. قلة الموارد لم تقف عقبة في سبيل الباشا الذي أحسن إدارة البوصلة، كذلك الحال مع جمال عبد الناصر فيما قبل 1967م فقد نجح- بلا موارد- في إفشال حلف بغداد من باكستان إلى العراق إلى تركيا إلى بريطانيا إلى أمريكا، أدرك أن هذا الحلف هو- كما ترغب إسرائيل- تغيير لملامح الشرق الأوسط، منفرداً، لكن مصحوباً بعطف الشعوب ومتجاوباً من أشواقها للتحرر من الهيمنة، نجح عبدالناصر في إعادة اكتشاف إمكانات مصر ، ثم في إعادة خلق مكانة مصر ، ثم في فرض كلمة مصر ، وغير صحيح ما يزعمه خصومه من تقليل شأن ما قد صنع ، ففي زمانه كان يعبر بصدق عن ليس مصر فقط، بل عن شعوب كثيرة أضناها الاستعمار. الباشا ثم عبد الناصر كلاهما كان- بغريزة القائد- يعلم أن التاريخ مبادرة ثم مغامرة، وليس طرقاً سابقة التجهيز وليس مسالك سابقة التمهيد. خدم الباشا ثم عبد الناصر اتساق زمانهما مع مشروعيهما، بعكس الخديوي إسماعيل والسادات، جاء الأول في ذروة التمدد الاستعماري الأوروبي، وقد اعتبروه عقبة، وهو يُنشئ إمبراطورية مصرية في قلب إفريقيا، ثم جاء الثاني في مرحلة رمادية، خفت فيها المد الثوري والتحرري، وكان من بُناة الواقعية الجديدة فكان نصيبه الاتهام بالخيانة ظلماً ومازال حتى يومنا هذا يتم تحميله أوزار كل العرب يحمله وحده منفرداً، في حين أنه القائد العربي الذي قاتل وانتصر، كما هو القائد الوحيد الذي استرد من العدو أرضاً. كنتُ منذ احترفت مهنة الصحافة أحمل عليه، مثل كل من يحملون عليه، حتى كشفت إسرائيل عن وجهها الأخير في حرب الإبادة على غزة 2023 – 2025، فلكي تتحرر سيناء كاملة بالسلاح، كان يلزمنا توازن قوى عسكري بيننا وبين العدو والمحال، طالما بقيت ترسانة السلاح الأمريكي مفتوحة أمام إسرائيل في كل حرب. أحياناً يلزمنا مرور وقت وتجريب أحداث وأفكار، حتى نتبين حكمة ما لم نكن نتبين. مراجعات مواقفنا من التاريخ مهمة، وقد قرأت للأستاذ العلامة السوري محمد كرد علي 1876 – 1953 في تقييمه لسياسات محمد علي باشا في الشام، وما ارتكبه فيها من مظالم قال: هي مظالم، لم يكن يستطيع غيرها. أي لم يكن في الإمكان غيرها، وظني أن هذا القول ينطبق على السادات وسلامه مع العدو، فلم يكن خائناً، بل كان وطنياً عظيماً، استرد أرضه، بما استطاع في حدود الإمكان، وبوفاته يكون من البداهة، أن القرار متاح في يد غيره من القادة العرب؛ ليقاتلوا العدو ثم يستردوا كل أرض عربية، فهو لم قرر لمصر فقط، ولم يصادر، ولا كان يملك أن يصادر أي قرار عربي، وقد مرت فترة نصف قرن ولم يبادر العرب إلى تحرير ولو مقدار شبر واحد، مما وضعت عليه الصهيونية يدها سواء من فلسطين أو من غير فلسطين. ثم كان من المستحيل، أن يجمع السادات بين استعادة الأرض بالسلام مع العدو والاحتفاظ بقيادة العرب في الوقت ذاته. الفرق الذي أثبته مرور الزمن بين السادات وغيره من القادة العرب، هو أن السادات أخذ في مقابل السلام أرضاَ وغيره يأخذون في مقابل السلام هيمنة إسرائيلية لا أكثر، يرضون بها كحائط صد ضد الخطر الإيراني.
………………………………………….
مصر الحديثة تشكلت في طرقات الخطر، وليس في طرقات السلام: أول طريق للخطر، أن مصر كانت في الطريق إلى الهند حيث التنافس الاستعماري الأوروبي على شبه القارة الهندية ثم تضاعفت أهمية مصر بعد تشغيل قناة السويس؛ ولأنها في الطريق إلى الهند فقد وقعت تحت الغزو الفرنسي ثم البريطاني وفي مواجهتهما، تشكلت الهوية الوطنية لمصر الحديثة. ثاني طريق للخطر، أن مصر يلزم السيطرة عليها لضمان بقاء وأمن ومستقبل إسرائيل. ثم ثالث طريق للخطر، أن مصر يلزم السيطرة عليها ثم تطويعها لضمان بقاء وأمن ومستقبل السلالات الخمس الحاكمة في الخليج كسبيل، لضمان تدفق النفط بكميات وفيرة وأسعار رخيصة من من الخليج إلى أوروبا وأمريكا. ثم خطر رابع: رغبة إسرائيل في تغيير وجه الشرق الأوسط.
وهذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.