مقترح تشكيل حكومة موازية للميليشيات السودانية في 10 فبراير 2025، فجر الخلافات داخل تنسيقية القوى المدنية الديمقراطية «تقدم»، الموالية لميليشيات الدعم السريع، وأدى الى تقسيمها لجناحين؛ الأول: داعم للمقترح بقوة، ويضم الجبهة الثورية بقيادة عضو مجلس السيادة السابق الهادي إدريس، وحركة العدل والمساواة فصيل سليمان صندل، وحزب الأسود الحرة، ومؤتمر البجا المعارض.. والثاني: رفض المقترح وحذر من تبعاته على مسار الحرب والسلام في البلاد، خاصة فيما يتعلق بتهيئة البيئة المواتية للانزلاق نحو هاوية التقسيم، ويضم قوى رئيسة داخل التنسيقية، على رأسها عبد الله حمدوك، الذي انشق وأسس التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة «صمود» مع حزب الأمة القومي، والتجمع الاتحادي، والمؤتمر السوداني، والحركة الشعبية التيار الثوري.

انقسام تنسيقية «تقدم» -في تقديرنا- مناورة تكتيكية، استهدفت توزيع الأدوار بين القوى المدنية، ففي حالة انتصار الدعم السريع يشكل القسم المؤيد لحكومته الجناح السياسي للسلطة، أما في حالة تمكن الجيش من حسم الحرب لصالحه، فإن القسم الآخر الذي رفض الانحياز للميليشيات يصبح مؤهلا لدخول الساحة السياسية والمشاركة في السلطة، وبذلك تضمن القوى المدنية المحافظة على دورها السياسي أيا كانت نتيجة الحرب. 

مؤتمر نيروبي

كينيا استضافت في العاصمة «نيروبي» يوم 18 فبراير 2025، مؤتمرا لتشكيل تحالف «تأسيس»، يضم الجماعات المسلحة والقوى السياسية المؤيدة لميليشيات الدعم السريع، بهدف التوصل الى «وثيقة إعلان سياسي، ودستور مؤقت للحكومة الموازية المزمع إعلانها في الأراضي الخاضعة لسيطرة الميليشيات».. المؤتمر ضم قادة وشخصيات منشقة مثلوا 20 حركة مسلحة وحزب وجماعة مدنية أبرزهم «عبد الرحيم دقلو قائد ثاني الدّعم السريع، وعبد العزيز الحلو قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال، وفضل الله برمة ناصر رئيس حزب الأمة القومي، وإبراهيم الميرغني عن الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل، وحركة العدل والمساواة جناحَ سليمان صندل، وتجمع قوى تحرير السودان بقيادة الطاهر حجر، والهادي إدريس زعيم حركة تحرير السودان المجلس الانتقالي، والهادي إدريس والطاهر حجر عضوا مجلس السيادة السابقين، وقيادات الجبهة الثورية السودانية، وبعض القوى السياسية والمدنية وزعماء الإدارات المدنية».

بعد عدة تأجيلات للموعد المحدد، تم في 22 فبراير التوقيع على ميثاق تحالف السودان التأسيسي» لتكوين حكومة موازية أطلق عليها اسم «حكومة السلام والوحدة» في المناطق التي يسيطر عليها «الدعم السريع»، وذلك في موعد أقصاه شهر من تاريخ التوقيع.. الميثاق دعا الى «تأسيس دولة علمانية ديمقراطية لا مركزية، قائمة على الحرية والمساواة والعدالة، وغير منحازة لأي هوية ثقافية أو عرقية أو دينية أو جهوية، وبناء جيش وطني جديد وموحد ومهني وقومي بعقيدة عسكرية جديدة، على أن يعكس التعدد والتنوع اللذين تتسم بهما الدولة السودانية»، وأكد الميثاق «التمسك بوحدة السودان “الطوعية” أرضاً وشعوباً، مع التأكيد على ضرورة تأسيس دولة تقوم على أسس عادلة ومستدامة بمعالجة الجذور التاريخية لأسباب الحروب».

الميثاق صدر مختلفاً عن كافة المواثيق السودانية السابقة، فقد أنهى الجدل التقليدي بين دعاة الدولة الإسلامية والمدنية والعلمانية، واستخدم لأول مرة مصطلح «الشعوب السودانية»، كبديل لمصطلح «الشعب السوداني» الذي استخدم منذ الاستقلال، وأعطى للشعوب حق تقرير المصير حال رفض العلمانية، وهو ما يتناقض مع ما أعلن من أن الحكومة الموازية تهدف لإنهاء الحرب وضمان تدفق المساعدات الإنسانية دون عوائق، والحفاظ على وحدة السودان، والأخطر أنه تضمن توصيفات إنشائية وشعارات لا تستند الى أي مرتكزات على أرض الواقع، أخفت وراءها حقيقة سعي الجماعات المسلحة لفصل الولايات التي تسيطر علي أجزاء منها، توطئة لتفتيت السودان الى مجموعة كيانات مستقلة.

أسباب تأخر إعلان الميثاق

الموعد المحدد لإعلان الميثاق تم تأخيره ثلاث مرات لأسباب مختلفة أهمها؛ أولا: طول المناقشات الخاصة بالترتيبات الفنية المتعلقة بتكوين هياكل السلطة من ثلاثة مستويات هي «مجلس السيادة، ومجلس الوزراء، والجمعية الوطنية التأسيسية الانتقالية».. ثانيا: الخلاف حول رئاسة مجلس السيادة بين الدعم السريع والحركة الشعبية بقيادة الحلو الذي طمع في المنصب بعد غياب حميدتي المريب عن المؤتمر.. ثالثا: تمسك الحلو بعلمانية الدولة، في وجود قوى محسوبة على التيار الإسلامي تعارضه.. رابعا: صعوبة الاتفاق على بعض المسائل الإجرائية المتعلقة بدمج الميليشيات ودور الحكومة الموازية وكيفية تشكيلها.. ورغم إعلان الميثاق الا أن عدم حسم العديد من نقاط الخلاف أدى الى الغاء المؤتمر الصحفي المحدد له 24 فبراير بمركز «جومو كنياتا» للمؤتمرات، ما تسبب في غضب بعض الشخصيات وانسحابها.

مؤتمر أديس أبابا

المُريب، أنه في نفس الوقت استضافت إثيوبيا -من خلال الاتحاد الأفريقي بأديس أبابا- في 21 فبراير 2025 لقرابة 18 حزبا وحركة مسلحة ومنظمة مجتمع مدني كلهم موالين للدولة السودانية «رئيس الكتلة الديمقراطية، ونائب رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل جعفر المرغني، ورئيس حركة تحرير السودان مني أركو مناوي، بجانب رئيس تنسيقية شرق السودان محمد الأمين ترك، فضلًا عن رئيس تجمع قوى تحرير السودان عبد الله يحيى»، وذلك بهدف استقطابهم لزعزعة الظهير الشعبي للنظام، لكن المجموعة فاجأتهم بالاتفاق على التنديد بالجهود المساندة للميليشيات، وانتقاد محاولات الاتحاد الأفريقي فرض رؤية لا تعبر عن القوى الوطنية المجتمعة، ولكن للأسف، فقد عجزت هذه القوى عن التوافق فيما بينها حول مخرج بديل للأزمة.

***

الأمر المؤكد هو أن الهزائم المتلاحقة التي الحقها الجيش السوداني بالدعم السريع منذ سبتمبر 2024، دفع الجهات الداعمة للميليشيات الى محاولة التوصل لوقف إطلاق النار، وتثبيت خطوط المواجهة تجنبا للمزيد من الهزائم؛ خاصة أن مشروع القرار البريطاني في مجلس الأمن منتصف نوفمبر 2024 الذي يدعو إلى وقف فوري للأعمال القتالية بالسودان وحماية المدنيين قد أجهضه الفيتو الروسي، ما دفعهم الى اللجوء لسيناريو التقسيم الليبي.

***

الملفت، أن ممثل الدعم السريع في التوقيع على الميثاق هو عبد الرحيم دقلو، شقيق «حميدتي» ونائبه، الذي تم تعديل صفته القيادية ليكون «قائد الدعم السريع بالنيابة»، مما يعني أن غياب حميدتي سيطول، وربما كان بلا عودة.. كما يلاحظ أن التحالف الجديد تغلب عليه الصفة العسكرية وليس السياسية، بضم عدة ميليشيات هي: قوات الدعم السريع، وجيش الحركة الشعبية شمال، وجيش حركة تحرير السودان المجلس الانتقالي، وجيش تجمع قوى تحرير السودان، ومحاولة اجتذاب جيش تحرير السودان جناح عبد الواحد محمد النور، ولم يتضمن الميثاق أية ترتيبات عملية لدمجهم في جيش واحد، مما يؤكد أن هدف الدعم السريع كان البحث عن المساندة العسكرية لمنع مزيد من التدهور في أوضاعه العسكرية، حتى لو تحولت السودان الى شظايا دويلات.

الدعم السريع قلق من التطور السريع في قوة وتسليح وتدريب الجيش السوداني، بفعل تحالفاته الخارجية مع مصر، وروسيا، وإيران، وتركيا، ومن فقدان الظهير الشعبي نتيجة ممارسات الميليشيات الاجرامية، وأصبح في عزلة كاملة، فرضت الاستعانة بميليشيات الحلو الذي ينتهج أسلوبا أكثر اجتذابا للتعاطف الجماهيري، لأنه فور دخوله أي مدينة يعمل على تشكيل سلطة إدارية وتوفير خدمات تجتذب المواطنين بدلا من نهبهم وتخويفهم.

خطة الجيش الخاصة بضرب نقاط التحكم اللوجستية حرمت الدعم السريع من التدفق المنتظم للأسلحة والامدادات، مما زاد من ضعفه وأصبح في حاجة الى مساندة الجماعات المسلحة، لفتح جبهات جديدة من قِبَل ميليشيات عبد العزيز الحلو القوية، التي تسيطر على جبال النوبة بولاية جنوب كردفان، وتعتبرها منطقة محررة منذ عام 2011، وتحتل مواقع تسمح لها بالحصول على الامدادات اللازمة عبر إثيوبيا وجنوب السودان، ويمكن حثها على التحرك من جنوب كردفان لاستكمال السيطرة على شماله، بما يسمح للدعم السريع بالتفرغ لحسم معركة الفاشر.

استجابة الحلو لفكرة الحكومة الموازية ترجع الى قبولها الالتزام بالعلمانية، وقد تمنحه حق السيادة على كردفان، رغم أن تدهور وضع الدعم السريع لا يسمح بمنحه ضمانات لذلك، وعلى كل الأحوال فقد استهدف الحلو أن يمثل تحالفه مع الدعم ضغطا سياسيا على الجيش لدفعه نحو الرضوخ لجهود السلام ووقف الحرب، وبالتالي يمكن تثبيت أوضاع القوات وحيازة كل قوة لمكاسبها من الأرض، وبالتالي يضمن الاعتراف الواقعي باستقلال كردفان.

الإشكاليات التي واجهت تحالف «تأسيس»

سلطات الأمن الكينية اعتقلت ياسر سعيد عرمان القيادي بتحالف «صمود» ورئيس الحركة الشعبية شمال – التيار الثوري – لدى وصوله مطار نيروبي، وذلك بمقتضى مذكرة اعتقال صادرة من السلطات السودانية 2024.. وإعلان نيروبي أثار ردود فعل متعددة داخل المكونات السياسية للتحالف الجديد؛ حزب الأمة القومي هدد باتخاذ إجراءات ضد رئيسه المكلف «فضل الله برمة ناصر» لانضمامه للتحالف دون تفويض، القيادية في الحزب «رباح الصادق المهدي» وصفت مشاركته في المؤتمر بالـ «الانتحار السياسي لشخصه، ومحاولة نحر الحزب»، أما «عبد الرحمن الصادق المهدي» نائب رئيس هيئة الحل والعقد بطائفة الأنصار التي تمثل القاعدة الشعبية للحزب، والمرشح لزعامته في مؤتمره العام المقبل، فقد أكد أنهم يساندون الجيش ويرفضون محاولة اختطاف الحزب.

السخط انتشر في أوساط الحركات المسلحة بالتحالف؛ فقد عزلت مجموعة القيادات العليا في «حركة العدل والمساواة» سليمان صندل من رئاستها، مبررة بأنه خالف النظام الأساسي للحركة عندما تحالف مع الدعم السريع الذي ارتكب الجرائم بحق الشعب السوداني، كما أن مشاركته في الحكومة الموازية تتعارض ومبادئ الحركة وخطها السياسي.. الحركة الشعبية شمال برئاسة الحلو شهدت استقالات كوادر عليا داخلها، من بينهم عضو مكتب الحركة في واشنطن، احتجاجا على التحالف مع الدعم السريع رغم رصيد العداء معه، واتهم الحلو ببيع قضية جبال النوبة والمجازفة بتدمير الحركة.

الحزب الاتحادي الديمقراطي «الأصل» تبرأ من مشاركة قياديه السابق «إبراهيم الميرغني» في المؤتمر، وأكد المتحدث باسم الحزب أن «الميرغني تم عزله عن منصب الأمين السياسي منذ نوفمبر 2022 وأحيل للتحقيق، وبسبب عدم مثوله أمام اللجنة تم فصله، لذلك لا يمثل الحزب».. الاحتجاجات امتدت الى قوى خارج التحالف؛ حزب «المؤتمر الشعبي» أكد أنه ليس جزءا من تلك الفعالية، معتبرا إياها توافقا على الاستمرار في الحرب.. مجلس الصحوة الثوري السوداني بقيادة موسى هلال أكد موقفه الداعم لوحدة البلاد، ومساندته للجيش السوداني ومؤسسات الدولة الشرعية.

ولكن ما رد فعل السودان تجاه هذه التطورات، وما انعكاساتها على مستقبل الحرب، وعلى وحدتها، ذلك موضوع المقال التالي.

8 مارس 2025