كان ذلك هو السؤال الذي اختتمنا به المقال السابق، لنجيب عليه في هذا المقال، بحثا عن الوسائل الممكنة للحكومات العربية وللشعب الفلسطيني في مواجهة مشروع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ لتحقيق حلم الترانسفير، ذلك الحلم المطروح دائما وأبدا على أجندة كل حكومة إسرائيلية، وبصفة خاصة وملحة على حكومات أقصى اليمين الصهيوني، بشطريه القومي والديني.
رأينا في المقال السابق، أن الترانسفير أي تهجير الفلسطينيين جماعيا من أرضهم- أو التطهير العرقي، حسب تعريف القانون الدولي لمثل هذا المشروع- يعتبر الحل النهائي والمثالي لمعضلة إسرائيل الوجودية من وجهة نظر أصحابه، فهو يحقق لها التوسع، والسيادة على اليهودية، والسامرة أصل ما يسمى بالحق التاريخي لليهود في فلسطين، دون المخاطرة بتغيير هوية الدولة في حالة ضم تلك الأرض بسكانها كمواطنين كاملي الحقوق السياسية، أو بتحمل وصمة الدولة العنصرية في حالة حرمان هؤلاء السكان من حقوق المواطنة، وذلك في تناقض أخلاقي صارخ مع تراث الشعب اليهودي الذي كان طوال تاريخه عرضة للتمييز والاضطهاد، كما هو تعريف وتطبيق ما يسمى بالعداء للسامية.
ما دام الترانسفير بهذه الأهمية النظرية أو الأيديولوجية، وبذلك الإلحاح العملي على أجندات الحكومات الاسرائيلية، فلماذا لم تتمكن إسرائيل من تحقيقه حتى الآن؟
إجابة هذا السؤال، هي دليلنا إلى المواجهة الناجحة لهذه الاستراتيجية الترامبية الجامحة لإنجاز الترانسفير، ومن ثم إنجاز الحل النهائي للمسألة الإسرائيلية/ الفلسطينية، بالمعنى السابق شرحه للسؤال، ولكن قبل الإجابة يستحسن أن نستعرض الخطوط العريضة والقسمات المشتركة في أهم المشروعات السابقة لإخلاء فلسطين التاريخية من سكانها، لفهم أسباب فشلها، ولتعميق وتأصيل فهمنا للتطور بالغ السلبية الذي يُدخله ترامب على دبلوماسية واشنطن في الشرق الأوسط.
باختصار غير مخل، فإن النزوح الجماعي (المليوني) للفلسطينيين، لم يحدث إلا مرتين، الأولى في حرب ١٩٤٨، وكانت النزوح في هذه الحالة اضطراريا فمن ناحية ارتكبت العصابات الصهيونية سلسلة من المذابح الجماعية في كثير من القرى والأحياء الفلسطينية، وذلك بقصد بث الرعب الذي يدفع السكان الفلسطينيين في القرى والمدن المجاورة إلى الفرار، ومن ناحية أخرى اعتقدت الجيوش العربية المحاربة، وشاطرهم بعض الزعماء الفلسطينيين، وقادة المتطوعين العرب الاعتقاد، بأنه يستحسن إخلاء المناطق المأهولة بالسكان الفلسطينيين، والتي يحتمل أن تعرقل العمليات العسكرية من السكان مؤقتا، وذلك من باب اليقين بأن المعارك لن تستغرق وقتا طويلا حتى تنهزم العصابات الصهيونية، ومن ثم يعود النازحون إلى قراهم ومدنهم، ولكن التطورات سارت في الاتجاه العكسي، كما نعرف، ومما لا داعي لاستعادة تفاصيله المأساوية، فيما تبقى الدلالة المهمة لموضوعنا، وهي أن الترانسفير في تلك الحالة كان إكراهيا، أو بخطأ التقدير أو بالخديعة.
وكان الإكراه هو أيضا السبب في موجة النزوح المليوني الفلسطينية الثانية في غضون حرب ١٩٦٧، ولكن يلاحظ هنا أن أغلب النزوح كان من مناطق داخلية إلى مناطق داخلية أخرى في الضفة الغربية، وكان معنى ذلك أن المواطن الفلسطيني استوعب الدرس الحزين لمحنة ١٩٤٨، فما لم يُنزع بقوة قاهرة من أرضه، فهو لن يخرج منها طوعا بأي حال من الأحوال.
وقد تأكد ذلك نهائيا وإلى الأبد بفشل مشروع إخلاء الجليل من المواطنين الفلسطينيين الذي يحملون الجنسية الإسرائيلية، والذين يعرفون بمسمى (عرب ١٩٤٨)، إذ أن أحزاب اليمين (الصهيونية التصحيحية) ظلت طوال بقائها في المعارضة تنعى على حكومات حزب العمل تقاعسها عن تطهير الجليل من العرب، وما إن تولت الحكم في بدايات عام ١٩٧٧ حتى تبنت مشروعا كبيرا لخلخلة الوجود الفلسطيني في الجليل تدريجيا، بهدف إخلائه نهائيا منهم، أو تغليب الهوية اليهودية على سكان الإقليم، وكما نرى فإن شيئا من ذلك لم يحدث طوال ما يقرب من نصف قرن، كانت السلطة فيه أغلب الوقت في أيدي أحزاب اليمين المتطرفة في الإيمان والالتزام بالترانسفير والهوية اليهودية (النقية) أي العنصرية لإسرائيل.
وكذلك كان الفشل هو مصير عشرات المشروعات الإسرائيلية والأمريكية لتهجير الفلسطينيين تحت الاحتلال قبل ترامب، وكانت خطوطها العريضة هي الهجرة الجماعية الطوعية إلى أوطان جديدة (في المنطقة وفي كندا وأستراليا وأمريكا اللاتينية) وذلك بتمويل سخي، وتسهيلات عديدة في العمل والتعليم والإقامة، مما دفع الجانبين الإسرائيلي والأمريكي إلى التفكير في مشروع، أُطلق عليه مسمى الوطن البديل في سيناء المصرية، وهو المشروع الشهير باسم مشروع جيورالاند، والذي تجاوز كونه طرحا نظريا أو مشروعا ورقيا إلى تقديمه رسميا كاقتراح للرئيس المصري السابق حسني مبارك مرتين… الأولى من الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، والثانية كانت على لسان آرييل شارون، عندما كان رئيسا لوزراء إسرائيل، وبالطبع كان رفض مبارك جازما ونهائيا، وكان الرئيس المصري السابق هو بنفسه من صرح بذلك في سياق شرحه لأسباب الأزمة التي شابت العلاقات المصرية الأمريكية في السنوات الأخيرة من رئاسة بوش.
وكانت فكرة الوطن البديل قد أخفقت قبل طرحها في سيناء، وذلك عندما حاول اسحق شامير في أثناء رئاسته للحكومة الإسرائيلية تطبيقها على الأردن، بذريعة أن الأردن هو الوطن الفلسطيني المقصود في وعد بلفور، إذ رفضها الأردنيون فورا وبلا تردد، كما رفضها الفلسطينيون، والدول العربية والإسلامية، ولم يوافق عليها الحليف الأمريكي لإسرائيل.
مقتضى العرض السابق، هو أنه لكي ينجح الترانسفير دون مذابح وطرد بالسلاح، فلا بد أن يقبله الفلسطينيون طوعا، وأن تتعاون الدول العربية في تنفيذه، خاصة مصر والأردن المجاورتين، وبالطبع فهذان الشرطان غير متوافرين، ولم يكونا قط متوافرين، وإذن فحقيقة ما يريده ترامب هو توفير هذين الشرطين أو أولهما على الأقل، وهو الهجرة الطوعية للفلسطينيين بدءا بغزة، ولو إلى دول أخرى غير الأردن ومصر، لتكون هذه سابقة أو بروفة لما سيحدث في الضفة الغربية.
غير أنه ليس من المستبعد، أن يفاجئنا ترامب- في مرحلة لاحقة- بتبني أيا من مشروعي الوطن البديل، سواء في سيناء المصرية أو في الأردن، سيما وأن الحديث في الدوائر الأكاديمية والبحثية الاستراتيجية في إسرائيل والولايات المتحدة لم يتوقف عن سيناء بالذات، وكذلك لم يتوقف هذا الحديث في دوائر اللوبي الصهيوني الليكودي في واشنطن.
وإذا كان من تحصيل الحاصل القول، بأن إقرار القمة العربية الأخيرة في القاهرة للخطة المصرية لإعادة إعمار غزة دون تهجير لسكانها، وكذلك تفاهم مصر مع حركة حماس على مشروع لجنة الإسناد الوطنية لإدارة غزة، هما خطوة ضخمة لعرقلة مشروع الترانسفير، إن لم يكن إحباطه، فإن الحذر واجب من الخذلان خلف الأبواب المغلقة، أقصد خذلان أطراف عربية للصمود الفلسطيني وللرفض المصري والأردني، إذ أن العرب كثيرا ما يفضلون الهمس في الظلام، كما وصفهم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في لقائه الأول بترامب في فترة رئاسته السابقة. وقد يكون مفيدا أن نستعرض في المقال التالي بعض الفصول المأساوية من تاريخ الازدواجية العربية في القضية الفلسطينية، وما يمكن أن يظهر من تفاوت في الأولويات والمصالح بين مختلف الأطراف العربية، يؤدي إلى خلخلة المقاومة المؤثرة (لحل ترامب النهائي في الشرق الأوسط) بالمعنى السلبي الذي سبق شرحه.
اقرأ أيضا : الترانسفير.. أو هولوكوست الفلسطينيين ا- حل ترامب النهائي في الشرق الأوسط