كان الروس منذ مطلع القرن السابع عشر لديهم طموح التوسع في أملاك الدولة العثمانية، كانوا يريدون البحر الأسود والبوسفور والدردنيل، بل والعاصمة إسطنبول نفسها، وكان مبرر هذا التوسع هو حماية الأقليات الأرثوذكس. ومن زمن الحروب الصليبية حتى الآن، كان للفرنسيين طموح أن يمتد نفوذهم إلى شرق المتوسط، وكان مبررهم حماية الأقليات الكاثوليكية. وعندما رفضت بريطانيا منح مصر الاستقلال الكامل 1922، كان من مبرراتها حماية الأقليات.

ثم وصل الأمر حد أن إسرائيل نفسها تمد نفوذها تحت مبرر حماية الدروز والأكراد. وأمريكا تقيم القواعد العسكرية كذلك بدعوى حماية الأقليات. وتركيا وإيران تتنافسان في المنطقة بدعوى حماية أهل السنة والشيعة. بهذا أصبح الشام فاقداً للمناعة الذاتية والحصانة الداخلية أمام أشكال شتى من مصادر النفوذ والهيمنة بمبررات حماية الطوائف من بعضها. هذه الطائفية ميراث قديم تجذر خلال ثلاثة قرون من الحكم العثماني، حيث كان التلاعب بالطائفية وسيلة لحكم الشام بتحريض الطوائف بعضها على بعض. هذه الطائفية تكشف عن الضعف، بل النقص الفادح في تكوين الدولة الوطنية الحديثة من عدة جوانب: 1- قامت هذه الدولة على قدر زائد من الديكتاتورية، بحيث فشلت أن تكون الحاضنة لمكوناتها، حيث لم ترسخ المساواة والعدالة والحرية لجميع مواطنيها على قدم التكافؤ بكل أديانهم وأعراقهم ومذاهبهم وطوائفهم، فألجأت المقهورين للاحتماء تحت جدار الطائفة أو طلب الحماية الأجنبية، إذا أمكن ذلك. 2- ارتبطت مسيرة الدولة برحلة اختطاف لم تتوقف، فقد خرجت من الاحتلال العثماني إلى الاحتلال الأوروبي إلى ديمقراطيات هشة مؤقتة سريعة الزوال أعقبها مسلسلات متلاحقة من الانقلابات، ثم أعقبتها ديكتاتوريات عاتية مستقرة تحت مسميات شتى ومبررات شتى. 3- هذه الديكتاتوريات أخذت تتساقط الواحدة تلو الأخرى في عقدين من الزمن من سقوط ديكتاتورية صدام 2003، حتى سقوط ديكتاتورية الأسد 2024، وكلتاهما كانتا الأشد عنفاً، وبينهما تساقطت الديكتاتوريات في تونس ومصر وليبيا واليمن، وباستثناء مصر، ترتب على سقوط الديكتاتوريات انفجار المكنون الطائفي، بما جعل من الدولة مجرد اسم هش وغلاف رقيق، ترقد تحته هويات طائفية متصارعة في السر والعلن. 4- باستثناء مصر، عجزت هذه الدول بسبب الاختطاف من الاحتلال، حتى تساقط الديكتاتوريات عن بناء هويات وطنية جامعة، يتوافق عليها كل مواطنيها، ويجدون فيها أنفسهم دون استعلاء فريق على آخر، ودون إحساس فريق بالتهميش أو الدونية أو الإقصاء. 5- امتازت مصر بأربعة أشياء: شعب بالطبع والخبرة وديع مسالم، بيروقراطية قوية رغم ما فيها من فساد، جيش وطني ينصهر فيه كل المصريين، هوية وطنية مستقرة ذات بعد مصري ضارب في عمق التاريخ آلاف الأعوام، ثم أضيفت إليه أبعاد عربية وإسلامية وإفريقية، زادت من رسوخه وقوته. 6- هذه الخصائص الأربع وفرت لمصر الحماية من مخاطر التفكك أو الترهل، لكن ساعدت في إعادة انتاج الديكتاتورية المستقرة على أساس، أنها حصن الحماية مما ينتاب الشرق الأوسط من أعاصير تفكك صواميل الدول وتضرب تماسك شعوبه. 7- تساقط الديكتاتوريات كان من المفترض أن يقود إلى تأسيس ديمقراطيات، تحل مكانها على اعتبار أن الديمقراطية هي الروشتة التي تحمي من الآثار السلبية للديكتاتورية، لكن الذي يحدث على الأرض غير ذلك، إذ تساقط الديكتاتوريات أعقبه تفكك المكونات، والتفكك لا يوجد تقاليد حوار، ولا توافق ولا تفاهم ولا حلول وسط تتعامل معه، الديكتاتوريات تركت الشعوب دون أدنى خبرة في التفكير العقلاني في تنظيم المصالح العامة، والتلاقي حول الهموم المشتركة، بالعكس الديكتاتوريات تركت الشعوب مليئة بالشكوك بعضها في بعض، ومن ثم تعجز عن بناء الدولة الوطنية التي يتساوى فيها كل مواطنيها. 8- شعوب الشرق الأوسط في محنة حقيقية: إما الوحدة مع الديكتاتورية، وإما الحرية مع التفكك والصراع، ثم الانقسام، ديكتاتوريات صدام حسين في العراق وآل الأسد في سورية والقذافي في ليبيا وعلي عبد الله صالح في اليمن، كانت بقسوتها المتفاوتة تضمن وحدة البلاد وتماسكها، ثم مع سقوط الديكتاتوريات باتت وحدة هذه البلاد في معصف الريح العنيفة. 9- نظم التعليم في ظل الديكتاتوريات لم تخلق عقليات نقدية أو حوارية أو تفاهمية أو قادرة على فرز نقاط الخلاف من نقاط الاتفاق ومعالجة أسباب الأولى وتعزيز الثانية، تعليم تلقين وتوجيه وتربية وطنية، تختصر المواطن الصالح في الطاعة والخضوع، ومعها منظومات الثقافة والإعلام ومنابر الوعظ الديني، بل والتنظيمات السياسية والنقابية والمهنية، كل ذلك تكاتف لخلق عقل مبرمج غير قادر على مسؤولية التفكير الحر. 10- أضف إلى ما سبق أن فكرة المعارضة سواء في عهود الاحتلال أو الانقلابات، أو الديكتاتوريات المستقرة آخرها وأعلى ما فيها، أن تكون حركات احتجاج في أحسن الأحوال، فلم تسمح الطروف بتأسيس معارضات مستقرة في ظل دولة القانون والدستور، معارضات مسموح لها أو تنتزع بنفسها حق المنافسة على السلطة واكتساب حق التداول السلمي على الحكم، العكس هو ما كان يتم على أرض الواقع، حيث عمدت الديكتاتوريات إلى تخوين ثم تجريم ثم تحريم المعارضة الجادة، باعتبارها خروجاً أثيماً على أصول الوطنية الصالحة.

ترتب على ما سبق، أن وقعت الشعوب بين خيارين: إما الرضوخ للاستبداد السياسي، وإما الخضوع لقوى الإسلام السياسي، فهي النتاج الطبيعي لعقود من الديكتاتوريات البغيضة، فجاءت الثمرات من جنس الشجرات، والفكرة الأساس لدى الإسلام السياسي بكل قواه المعتدل منها والمتطرف، هي دولة العقيدة، وليست دولة المواطنة، دولة مؤمنين وليست دولة مواطنين، هي إعادة انتاج للديكتاتورية، لكن في ثوب ديني، ومن ثم فهي عاجزة عن الأمرين: عاجزة عن أن تكون قوة توحيد وطنية لكافة المكونات على قدم المساواة في الحقوق والواجبات. كما عجزت عن بسط الحريات واحترام الحقوق والثقة في اختيار الناس. والنموذج السوداني حيث أخذ الإسلاميون فرصتهم ثلاثة عقود 1989- 2019، انتهت بتقسيم السودان والبلد مرشح لمزيد من التقسيم، كما انتهت بالقضاء على تراث السودان في التعدد والتنوع الحزبي والفكري، كما انتهت بتشويه وداعة الانسان السوداني وسماحة نفسه ونقاء فطرته، وكرم معدنه كل ذلك لم يسلم من التشويه، ثم انتهت بحروب أهلية بين فريق الحكم الواحد، الحكم الإسلامي في السودان نموذج دال على ممكنات قوى الإسلام السياسي، ولا يُقاس عليه النموذج الإيراني فهو الامبراطورية الفارسية، لكن تحت عمائم الفقهاء الأولياء عن الإمام الغائب، كما لا يُقاس عليها الإسلاميون في تركيا، فهؤلاء إسلام تخوم محكوم بعلمانية أتاتورك التي تظل السياج الواقي ضد مخاطر الاندفاع الإسلامي. وباستثناء الإسلاميين في تركيا، فإن كل ما حدث من تطور هو قسوة في سبيل الله، حلت محل قسوة في سبيل الوطن. ويخرج من المقارنة الإسلاميون في مصر، فلم تكتمل تجربتهم حيث لم يمر عليها أكثر من عام.

 ويزيد من المحنة عدة عوامل: 1- غياب الفكر المدني القائم على توازن الحقوق والواجبات وحماية الحريات المدنية من خلال حكم الدستور والقانون واستقلال القضاء وبرلمان حر منتخب من الشعب، دون تزوير وسلطة تنفيذية تخضع لسيادة القانون، ولا تتغول على سلطة التشريع، ولا تتدخل في استقلال القضاء فقد تكاتفت الديكتاتوريات العربية على تعميق الحكم الفردي المطلق، أو حكم الأقليات المنتفعة ذات الامتيازات أو حكم الحزب الواحد الذي هو ملحق بالجهاز التنفيذي. 2- غياب القوى المدنية ذات الفكر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي وذات القدرة على مخاطبة الجماهير وتنظيمها وتحريكها، وذات القدرة على تمويل أنشطتها بنفسها، دون مصادر مشبوهة وذات القدرة في التأثير على القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي. 3- غياب الصحافة الوطنية والإعلام الوطني الحر المستقل، وقد ملأ هذا  الغياب الإعلام الخليجي منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين، وبعض هذا الإعلام يتبنى قوى الإسلام السياسي المعتدل منها، والمتطرف، وخلق حالة من الهوس الديني في الفضاء الإعلامي، وخلق ولاءات وتحالفات وانتماءات ومصالح وهويات افتراضية، تتجاوز الهويات الوطنية وتضربها في صميم وجودها، هذا الإعلام- الذي هو أكبر مليون مرة من حجم دوله- لم ينشأ مصادفة ولا خبط عشواء ولا بغير رسالة، وجزء من الفوضى الفكرية التي تضرب الشرق الأوسط، إنما هو من تداعيات هذا الإعلام. 4- ساعد ويساعد على كل ما سبق أن فكرة الوطنية ذاتها التي تأسست عليها الدولة الحديثة فقدت الكثير من مصداقيتها في أعين المواطنين، فقد تحولت من فكرة جمعت الشعب ضد الاحتلال حتى نال الاستقلال إلى فكرة، يستمتع تحتها عدد قليل بالنفوذ والثروة والسلطة والوجاهة والامتيازات والمنافع، بينما يدفع باقي الشعب وهو الأغلبية فواتير رفاهية الأقلية المحظوظة، تحت شعار الوطنية، باتت مهمة الشعب هو تمويل راحة ورفاهية الحكام ومن حولهم من المحظوظين. 5- استعادة مصداقية الفكرة الوطنية، حتى تكون الرباط الجامع لكل المواطنين، وحتى تكون ولاءهم وانتماءهم الذي لا يزاحمه ولاء وانتماء آخر، كما كانت في أول عهدها هو الديمقراطية أي حق المواطنين جميعاً في خيرات بلدهم دون استثناء، ثم الديمقراطية بمعنى المساواة الكاملة في الحقوق والواجبات والمغانم والمغارم، ثم الديمقراطية بمعنى حق الشعب في اختيار حكامه بمحض إرادته، ونقدهم ومراجعتهم ومعارضتهم ومحاسبتهم ومساءلتهم وعزلهم بمقتضى الدستور والقانون، عندما تقتضي المصلحة العامة عزلهم. لا وطن بلا مواطنين، ولا مواطنون بلا وطن، ولا مواطنة دون ثلاث: عدل للجميع، مساواة للجميع، حريات عامة للجميع.

……………………………

عندما كانت شعوبنا تكافح الاستعمار، كان هدفها بناء دولة وطنية يحكمها الدستور والقانون وتضمن لمواطنيها: العدل والمساواة والحرية بتعدد أديانهم وأعراقهم ومذاهبهم وطوائفهم، هذه كانت نقطة البداية، وما تزال هي نقطة البداية، مع عدة فوارق: أن الاستعمار بات هيمنة أمريكية- صهيونية، أخبث من الاستعمار القديم، ثم كانت الجارتان تركيا وإيران مشغولتين داخل حدودهما، ولم تكونا قوتين لديهما طموحات شبه استعمارية في بلادنا كما هما اليوم، ثم لم تكن سطوة الإعلام الخليجي والمال الخليجي موجودتين، ومن ثم لم يكن هناك ذلك الطوفان الذي لا ينقطع على مدار الساعة، يغمر كل شبر في الشرق الأوسط.

مصر- بالذات- ليس أمامها من خيار، إلا أن تكون دولة وطنية، لكن ديمقراطية وعادلة.

وهذا هو مقال الأسبوع المقبل بمشيئة الله تعالى.