في كل رمضان من كل عام، يبدأ موسم التلاهي، موسم المسلسلات والفوازير. في هذا الوقت يخرج كل منتج، بما يتفتق له ذهنه من عمل فني؛ غرضه في الأغلب الأعم الربح السريع على حساب كل القيم النبيلة. مظلومة هي آذان وأعين بل وعقول المشاهدين، خاصة المراهقين والشباب، لكونهم يروا بعضا أو كل ذلك.

التلفزيون مخترق كل البيوت

أغلب الأعمال التلفزيونية أصبحت ميدانا لرمي السهام من كل حدب وصوب دون جدوى. واحد من أكثر الأسباب التي تجعل النقاد والمثقفين، يتناولون تلك الأعمال بالنقد والتقييم، هي لكونها أعمالا فنية معروضة على عامة الناس. بعبارة أخرى، إذا كان الكتاب يحتاج لقارئ، ولمن يشتريه، وإذا كان المسرح والسينما يحتاجان لمن يدفع مالا، ويكلف ذاته عناء الذهاب إليهما، فإن التلفزيون لا يحتاج لكل هذا، فهو في متناول كافة الفئات والطبقات، يحتاج الأمر فقط لامتلاك هذا الجهاز الصغير والرخيص، وآذان تسمع وعين ترى دون أن تدفع مالا. فقط على المشاهد أن يكرس جزءا من وقت فراغه، وهو في مصر كثير، ويشاهد ما يقوم به الآخرون من غرس قيم، عادة ما تكون سلبية، ما يجعل إمكانية نقل تلك القيم ومحاكاتها أمر غاية في السهولة، بل والقبول، كونها قد تم تمريرها عبر التلفزيون، دون ضابط أو رابط، اللهم سوى الضابط السياسي الذي يعتمد على الموائمة والحس في تناول العمل الثقافي من وجهة نظر حقوقية أو سياسية، هنا يصبح الإيحاء أحيانا هو سيد الموقف في مواجهة مشاهد واعي يستنبط ويترجم المقاصد المسكوت عنها.

هكذا، أصبح التلفزيون بكل أعماله، من شركات إنتاج ومخرجين ومؤلفين وممثلين، في مواجهة مباشرة مع ملايين الناس في المنازل. فقط على هؤلاء أن يتباروا بين أنفسهم، حتى لا يقوم المشاهد بغلق الجهاز، أو أن يقوم بالانتقال لعمل فني وترك عمل فنى آخر.

نشر قيم سلبية كثيرة ولا حصر لها

ما هو حادث اليوم، ولسنوات مضت، هو أن تكون أعمال الدراما في الأغلب الأعم مشوهة للواقع، ومثيرة للاشمئزاز، لكونها:-

1- تصور المجتمع المصري، بأنه مجتمع أغلبه من الشاردين والجانحين، من خلال تضخيم الظاهرة التي يتحدث عنها العمل الفني، فالمجتمع كله مجموعة من المرتشين والمفسدين والمنحرفين أخلاقيا. وكل ذلك يسهم في تشويه صورة البلد، ويخلق حالة من القرف والغصة في نفوس الأغيار، وأحيانا المقيمين والمواطنين، ويضعف فرص الغير في الاستثمار في اقتصاد المجتمع.

2- غرس التلفزيون قيما غريبة على المجتمع المصري، فبدلا من أن ترد عنه قيم مرد على غرسها في عقود غابرة، كالشجاعة وأخذ الرأي والمشورة والنخوة والإقدام والذود عن الحق والإنقاذ والكرم والشهامة والرحمة وحب الغير المختلف عن الذات دينيا وعمريا ونوعيا، أصبح المبثوث- وربما الهدف المطلوب- هو غرس قيم النذالة والحطة والبذاءة والبخل والقطيعة والفتن الطائفية وكراهة الجنس أو النوع الآخر والتعذيب والتسلط والاستبداد.. إلخ.

3- بناء على ما سبق، تصبح المحاكاة مع تكرار العمل الفني السلبي هى الأمر السائد، وتنتشر الجريمة في المجتمع، وتسود الأنامالية والاغتراب بين الناس، ويصبح الانعزال هو سيد الموقف، وحمل المطاوي والشفرات، والسباب العلني لكل معارض في الطريق العام أمرا طبيعيا، كما تترجم الحرية بكونها هي الصوت العالى والمذياع والميك الصاخب، وعدم احترام الكبير، ونبذ العطف على الطفل أو الفقير، وزجر المحتاج.. إلخ، وكلها أمور تصبح سيدة المشهد في الشارع نتيجة تلك الأعمال.

4- وتماشيا مع ما سبق، يصبح سلوك الناس في المأكل والمشرب والملبس هو ترجمة شبة حرفية، لما شاهدوه من أمور شائهة وسيئة بالأمس في التلفزيون، فالشباب ما برح يقلد أسوأ ما شاهده كالملبس الممزق وشعر الرأس القاذح المقزز، والجسد العاري للرجل والمرأة في الطريق العام، أما حديث الإيفيهات السخيفة، فباتت هي عنوان الحديث المتبادل بين الناس في الحقيقة، ناهيك عن أن الجدل والحوار بين الناس، بدلا من أن يكون في أمور ثقافية وسياسية وهموم مجتمعية، بات عنوانه من طلق من ومن تزوج من من الفنانين، ومن ضُربت، ومن حملت بلا زواج، وذلك بعد رؤية حوارات الفنانين في برامج التلفزيون، والتي تفضح أسرار البيوت، وتخرق الحياة الشخصية للفنان من نفسه وبنفسه.

5- ارتباطا بأمر المحاكاة آنف الذكر، تظهر صورة سلبية أخرى ناتجة عن الإعلانات التلفزيونية التي يُجبر المشاهد على رؤيتها لكونها معروضة ومبثوثة بين الدراما التلفزيونية، والتي تفوق في زمن عرضها زمن عرض المسلسلات ذاتها. هنا يكون التأثير على الأطفال كبيرا، كما أن التأثير على الكبار لا يقل أهمية، لأنها تدعم قيم الاستهلاك الشره، وكذلك الرغبة في الشراء واقتناء المأكولات الغريبة، والتي أحيانا ما تضر بصحة الناس؛ بسبب الألوان ومكسبات الطعم والهدرجة.  

ملهاة بعيد عن المشاكل الحقيقية للمجتمع

واحد من أكثر التفسيرات التي تساق لسيادة هذا النمط من الدراما، هو أنها تُفرض فرضا؛ أملا في إلهاء الناس عن المشاكل الحقيقية للمجتمع. فالغلاء، وتداول السلطة، وأزمة الإسكان، وزيادة السكان، وتلوث الغذاء، والبناء على الأرض الزراعية، وأزمة الأسمدة، وشح المياه، ونقص الاستثمارات، والبطالة بين الشباب، وتزوير الانتخابات، وأزمة القمح، والاستهلاك الشره، واحتكار السلع، والاستيطان في فلسطين والعدوان الصهيوني على البلدان العربية.. إلخ، معظمها قضايا غائبة عن الدراما التلفزيونية، لكونها قضايا تثير الغضب، وتشحذ همم المواجهة، وتعبئ الناس وتحرضهم على الابتكار وإيجاد السبل والبدائل للقضاء على تلك المظاهر السلبية.   

التعليم والثقافة بداية حل المشكلة

بطبيعة الحال، يجد المرء التعليم ومؤسسات التنشئة الاجتماعية المتصلة به مباشرة، هي واحدة من الأمور التي يجب التعويل عليها لوقف تلك المهازل والنكبات والكبوات التي تنتظر المجتمع كل يوم، وهو يشاهد الأعمال الفنية التي يغلب عليها الإسفاف. لكن ما هي تلك المؤسسة التي تتحكم في التنشئة؟. الأسرة السوية من خلال الأب والأم والأجداد، وما يغرسونه من قيم الأصالة قبل قيم المعاصرة، وكذلك المدرسة من خلال المناهج التي يجب أن تثير وتحفز، وتحث وتحرض الأطفال والشباب على قيم النخوة والكرم والإقدام ونبذ المكاره واستحباب المحامد، من خلال اشتمال تلك المناهج على المخترعات التي أفادت البشرية، ومن سخرها من المخترعين لخدمة الناس، وكيف يمكن استعمالها في كل ما يفيد، ونبذ الاستخدامات السلبية لها. فالسكين يمكن أن تقطع الطعام، ويمكن أن تستخدم في قتل النفس، كذلك التلفزيون يمكن أن يُستفاد منه في مشاهدة السمين، ونبذ كل ما هو غث ومرير.

من الأمور الأخرى المهمة في شأن التعليم خاصة، والثقافة عامة، والتي تسهم في القضاء على تأثير ظاهرة الدراما المقيتة، تمييز المواهب وجعلهم قدوة، لتشجيع النشء على العمل الصالح، وكذلك تشجيع القراءة والتأليف والنقد، ومنح درجات إضافية للطلاب المتميزين في المستوى الرفيع وفي ممارسة الرياضة البدنية بكافة أنواعها، والاهتمام بالمكتبات ودور الثقافة والمسرح ومراكز الشباب وغيرها من وسائل التنشئة.  

رقابة فعالة لأمن نظام الحكم لا المجتمع

ولا شك، أن الرقابة على المصنفات الفنية عامة عامل مهم للوقوف على تقييم أعمال التلفزيون، خاصة في مواسم المشاهدة كشهر رمضان. واحد من أسوأ ما تقوم به الرقابة، هي أنها تعكف فقط على الرقابة بغرض ضمان وحماية نظام الحكم من كل ما ينتقده، دون أن تهتم بأمن المجتمع والدولة. لذلك فهناك حاجة ماسة لإعادة تقييم دور الرقابة على الأعمال التلفزيونية من دراما، وإعلانات، وفقرات حوارية، حتى يكون الهدف هو الخلاص من كل إسفاف. هنا لا يجب أن يعار أي اهتمام، بأننا سنكون مقبلون على عمل تسلطي أو حجر على الحريات. فالحريات لا يجب أن تكون أداة لهدم المجتمعات، وانهيار الدول، بل تكون أداة لرفعتها وتقدمها.