الهوية الوطنية المصرية هي هوية مستحدثة ناشئة، مثلها مثل الهويتين الوطنيتين التركية والإيرانية، إذ الهويات الثلاث، تبلورت قبل مائة عام أي في خواتيم الربع الأول من القرن العشرين، الهويات الثلاث لديها سوابق من تراث إمبراطوري خارج حدودها، هذا التراث ليس مجرد تاريخ انتهى وانقضى، وليس مجرد مراودة في الخيال لمطامح توسعية، لكنه كان وما زال ضرورة أمنية وحقيقة جيوسياسية ونزوع طبيعي لروح الدولة في الهويات الثلاث. لهذا تمددت مصر فيما حولها سواء في العهد الملكي أو الجمهوري، وبلغ ذروته مع مصر الناصرية، كما تمددت الدولة إيرانية سواء في ظل البهلوية العلمانية أو الخمينية الإسلامية، كما تذكرت تركيا أصولها الشرقية، بعدما أخفقت مطامحها في عضوية الاتحاد الأوروبي، فعادت تتمدد في الشرق، بترتيب مع أوروبا وأمريكا، حتى نجحت في تثبيت نفسها كمثال إسلامي ناجح لدى جماهير الإسلام السياسي في العالم العربي، ثم بلغ هذا التمدد التركي ذروته مع المجيء بحكام جدد لبلد عربي مهم هو سوريا، هؤلاء الحكام الجدد لهم ولاء كبير نحو تركيا سواء بأواصر التمويل أو التسليح أو التوجيه المعنوي أو بكفالتهم وضمانتهم أمام المجتمع الدولي، فباتت سوريا منذ خواتيم العام 2024 في زمام وحزام النفوذ التركي المباشر دون ممانعة من إسرائيل أو أوروبا أو أمريكا، بدخول دمشق تحت المظلة التركية يبدأ تاريخ المنطقة فصلاً جديداً، يتناقض مع تاريخ المائة عام الأخيرة من تاريخ سورية وتركية والعرب ومجمل الشرق الأوسط، فمن دمشق عام 1918 كان الخروج النهائي لتركية من بلاد العرب، ثم من دمشق 2024 يعود النفوذ التركي من جديد إلى بلاد العرب، محوطاً بولاء غامر من قوى الإسلام السياسي، هذا التسلل التركي هو أكبر اختراق يهيل التراب على تاريخ من النضال العربي ضد تركيا، وكانت الشام وفي القلب منها دمشق في قيادة ثورات العرب ضد الأتراك، وفي دمشق أقام الهاشميون أول دولة عربية مستقلة بعد زوال الحكم العثماني الذي دام ثلاثة قرون، هذه واحدة من ألغاز التاريخ العجيبة، فقبل مائة عام كان العرب يكافحون العثمانيين، مثلما يكافحون غيرهم من قوى الاستعمار الأوروبي، ثم ها هي قوى الإسلام السياسي ترحب بعودة الاختراق التركي للعالم العربي.
السؤال الآن: هل العيب في تركيا وفي مناصريها من قوى الإسلام السياسي؟ الجواب: العيب ليس في تركيا، فالطبيعي لأي دولة نابضة بالحياة، ألا تنكفئ على نفسها، وأن تسهى لتمد نفوذها وتعظم مصالحها، وتحمي أمنها وتخلق أنظمة تابعة لها، وتجتذب قوى جماهيرية، تتعاطف معها وتفرض نفسها قوة إقليمية مؤثرة فيمن حولها، هذه بديهيات لا تحتاج مزيد إثبات. كذلك العيب ليس في قوى الإسلام السياسي، فهي في عواطفها التركية وحميتها الأردوغانية، تتسق مع منظومتها الفكرية الراسخة، إذ هي مع الدولة الإسلامية، وليست مع الدولة الوطنية، الإسلام عندها هو مدار الجنسية والعقيدة هي محور الدولة، وهم- في الحقيقة- لم يخترعوا هذا الوضع، فمنذ دخل الإسلام مصر، وحتى سقوط الدولة العثمانية قبل مائة عام، كان الدين هو مركز الانتماء السياسي، ولم تظهر الرابطة الوطنية إلا على استحياء مع مشاريع محمد علي باشا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، حيث ظهر الجندي المصري المقاتل خارج الحدود، الجندي الفلاح القادم من صفوف العمل الزراعي الذي لم يحترف سواه آلاف السنين، بكل يقين لم يكن الباشا يرفع لواء الوطنية المصرية، لكن بكل يقين كذلك حروبه أخرجت الفلاح المصري من التاريخ القديم، وألقت به في قلب التاريخ الحديث، حيث كانت أفكار الوطنية والقومية مزدهرة في القرن التاسع عشر، الفلاح المصري كان هو عماد القوة المقاتلة والمنتصرة في ثلاثة حروب مشهودة: حرب المورة 1827، حرب الشام الأولى 1831، حرب الشام الثانية 1839، حيث وصل المقاتل المصري إلى كوتاهية، وصار بينه وبين العاصمة استانبول فركة كعب، لا تزيد عن مسافة خمسين كيلو مترا، حتى اضطر السلطان للاستعانة بأشد أعدائه وهم الروس، ثم اقتضت مصلحة التوازن الدولي، أن تتدخل أوروبا لترد المارد المصري إلى قمقمه على ضفاف النيل، لست أدري، إذا كان الباشا قرأ تاريخ مصر القديمة في عهد الدولة الحديثة 1570 قبل الميلاد- 1087 قبل الميلاد أم لا؟ لا علم لي بذلك، لا أعلم على وجه اليقين، وإن كنت قرأت، إنه كان يأتي بمن يقرأ له كتب تاريخ مصر القديمة، وسواء قرأ واستفاد، أم كان يتحرك بوازع من غريزته السياسية حادة الذكاء، فإنه لم يكن غير فرعون مصري عظيم، يقتفي أثر تحتمس الثالث 1481 قبل الميلاد- 1425 قبل الميلاد، هذا القائد الذي رسم حدود الجغرافيا السياسية لأمن مصر القومي من الفرات والأناضول في الشمال، حيث أخضع الميتانيين، فيما بين النهرين وأخضع الحيثيين في الأناضول، وحيث بسط سلطان مصر على غرب آسيا من الأناضول عند الرأس، وحتى غزة عند القاعدة، ثم حتى الشلال الرابع في الجنوب، انظر حولك، أو حول مصر من كل الجهات الأربع، ترى تحتمس الثالث، ثم الباشا ومعهما المقاتل المصري ضرورة آنية أمنية وطنية قومية واقعية راهنة وقائمة اليوم والغد، التاريخ يختصر نفسه، ويعيد تقديم نفسه ويعيد إنتاج نفسه ولا يغيرها ولا يبداها ولا يكررها؛ لأن حقائقه صلدة ثابتة هي حقائق الجغرافيا التي لا تزول ولا تضعف ولا يصيبها الوهن ولا تزيدها ثورة المواصلات كالسكك الحديد ولا ثورة الاتصالات كتكنولوجيا المعلومات، إلا وضوحاً وجلاءً وقوة، تظل غرب آسيا من الفرات حتى الأناضول ومن الأناضول حتى غزة، ويظل جنوب مصر ليس فقط حتى الشلال الرابع، كما بلغ تحتمس الثالث، لكن حتى خط الاستواء ومنابع بحيرات النيل، كما فعل الباشا وأكمل خلفاؤه من بعده، فكان النيل كله من المنابع حتى المصب داخل الأملاك المصرية وتحت السيادة المصرية وفي حراسة الجند المصرية، حتى جاءت قوى الاستعمار الأوروبي، وأخرجت مصر من إفريقيا كما سبق، وأخرجونا من الهلال الخضيب والأناضول والشام وجزيرة العرب. هذا هو ما أضافته دولة الباشا وذريته- بقصد أو غير قصد- إلى صرح الهوية المصرية الناشئة، خير إنجاز لها- بغض النظر عن حسن أو سوء نيتها- أنها أعادت اكتشاف عبقرية الفلاح المصري، فجاء منه المقاتلون المصريون لأول مرة منذ انطفأت حضارة مصر عند منتصف الألف الأولى قبل الميلاد، وتوالى على حكمها الفرس والإغريق والرومان والعرب من خلفاء، ثم أمويين وعباسيين وفاطميين ثم أيوبيين ومماليك وعثمانيين حتى الإنجليز، كان لا بد من تجربة يثبت فيها المصري جدارته، هذا هو ما قدمه الباشا وذريته، فلم يثبت المصري جدارته في القتال فقط، بل تعداه إلى ميادين العلم والفكر والإدارة العامة، صحيح ليس بالكثرة الكافية، حيث كانت الفرص تذهب في أغلبها إلى الوافدين مع الباشا ومن حوله من ترك وأرمن وشركس وشوام، لكن كانت بالقدر الكافي لإثبات جدارة المصريين وقدرتهم على التفوق والنبوغ، ويكفي رفاعة الطهطاوي ثم علي مبارك ثم أحمد عرابي وجيله من العسكريين ثم الأستاذ الإمام محمد عبده وتلاميذه من أحمد لطفي السيد وقاسم أمين وسعد زغلول.
ثم مع مطلع القرن العشرين، كان بناء الهوية الوطنية من كفاح الفلاحين المصريين، الذين ابتكروا قاعدة مصر للمصريين، فليست للأوروبيين، وليست للعثمانيين، وتحت مظلة هذا المعنى، أسس المصريون الجامعات الحديثة والصحافة الحديثة، وسعوا لتمصير القانون والقضاء، وانتزعوا الحريات العامة وخلقوا فضاء عاماً، يتحررون فيه من كافة ما ورثوا من قيود وطغيان.
عند مطلع القرن العشرين، أي قبل مائة عام أو يزيد، كانت مصر لديها مشكلة هوية: حيث الهوية الدينية اضمحلت لاضمحلال الرابطة العثمانية، وحيث كان الاحتلال البريطاني ومعه جاليات أوروبية واسعة النفوذ والتأثير، يسعى لإدخال مصر في الحضارة الغربية، كما كان يسعى لذلك في الهند وأماكن كثيرة من العالم، وقعت تحت هيمنته. الإدارة الفعلية كانت لقوى الاحتلال، لكن دماء وعروق المجتمع والدولة كانت من مواريث العثمانيين الذين حكموا مصر أربعة قرون أو يزيد قليلا، يكفي أن تعرف أنه لم يكن لمصر قانون جنسية حتى عام 1926، ولم يتم تطبيقه غير عام 1929، ولم يتبلور في شكله النهائي غير عام 1958، وقبل ذلك لم تكن لنا هوية في القانون الدولي تقول، إننا مصريون، لكن كنا رعوية عثمانية، كنا من مجرد رعايا من جملة رعايا السلطان، فبعد عزل الخديوي اسماعيل 1879 وتولية نجله توفيق صدر الفرمان السلطاني، يؤكد أن المصريين رعاياه، والضرائب تُجبي منهم باسمه وليس باسم الخديوي، وليس من حق الخديوي إبرام معاهدات سياسية مع الدول الأجنبية، فقط مسموح له بالإدارة الداخلية وعقد اتفاقات ذات طابع تجاري، ورغم التغريب والأوربة في ظل الاحتلال ظل المؤثر العثماني في بنية الثقافة والمجتمع والعسكرية قائما بالذات في الطبقات العليا التي سعت للجمع بين التركية والأوروبية، ومن يقرأ رواية “رد قلبي” لـيوسف السباعي، وهي صادرة عام 1954 يتثبت من عمق الحضور التركي، حتى في قواميس المصطلحات العسكرية داخل الجيش المصري رغم السيطرة الكاملة للإنجليز عليه ثلاثة أرباع قرن.
إذن الأردوغانية المنتشرة بين قوى الإسلام السياسي في مصر لها جذور في أربعة قرون من الميراث العثماني في مصر، لكن السؤال: لماذا الآن؟ الجواب بعضه سهل قريب وسطحي أيضاً، وهو أن قوى الإسلام السياسي في مصر اعتبرت وصول هيئة مسلحة مثل، هيئة تحرير الشام إلى حكم بلد عربي مهم مثل سورية، هو نصر لكل قوى الإسلام السياسي، نصر رد لهم الاعتبار والأمل بعد إخفاقهم في بلدان مهمة مثل مصر وتونس، ولما كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو- مع دولة قطر- الراعي والكفيل والضامن ومصدر التمويل والتسليح والتوجيه والرعاية والتنصيب لحكام سورية الجدد من هيئة تحرير الشام، فإن أردوغان بذلك يتوج نفسه بعد ثلاثة وعشرين عاماً من تربعه على حكم تركيا رمزاً عالياً، يحلق بالنصر والفخر في سماء الإسلام السياسي، ولا يتوقفون عند مخاوف غيرهم مثل: أن هيئة تحرير الشام جاءت للحكم من حرب أهلية ومن خلفية طائفية ومن صنع تدخلات أجنبية، وأن من خلق هيئة تحرير الشام في سورية، يستطيع أن يخلق عدداً مماثلاً منها في أي بلد آخر في المنطقة، هذه الوجوه السلبية التي تتسبب في قلق، كل من هو ليس من أنصار أردوغان، وليس من أنصار الإسلام السياسي، لا تحظى بأي قدر من الاعتبار رغم خطورتها، فلن تطمئن- بعد هذه التجربة- أي دولة في الإقليم لأردوغان ولا للإسلام السياسي، هذا هو السبب السطحي لانتشار التعلق بأردوغان، حتى صار مثل العقيدة بين محبيه من الإسلام السياسي في مصر وغير مصر، لكن ليس هو السبب المهم.
لنعرف السبب الحقيقي وراء انتشار الأردوغانية في مصر، يلزم البحث عنها خارج أردوغان وخارج قوى الإسلام السياسي، بل وخارج الحدود الضيقة للحظة التاريخية الراهنة، يلزم البحث عنها في حقيقة كبرى مهمة وهي: أن الدولة الوطنية المصرية في المائة عام الأخيرة عجزت، ثم عجزت ثم عجزت، أن تكون لكل المصريين على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، ومن هذا العجز انفتحت الثغرات التي تسلل منها النفوذ الخارجي إلى داخل مصر. وهنا يلزم الوقوف عند بعض النقاط:
1- النقطة الأولى: أنه دائما كان للأجانب نفوذ، وكان نفوذهم يتسلل عبر مصريين تجمعهم بهم مصالح وأفكار ومبادئ، فمنذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، كان الروس والفرنسيون والإنجليز يحاولون التسلل، وكان لكل منهم رجال متعاونون معهم من بين المماليك الذين لم يكونوا يتورعون عن اللعب مع الجميع، حتى الباشا الكبير نفسه، كان يتلاعب بكافة القوى الأوروبية، كما كانت تسعى للتلاعب به، لكنه كان أقوى وأذكى من السقوط من فوق الحبل المشدود الذي يسير فوقه ومن تحته النار، وهي اللعبة التي لم يتقنها خلفاؤه من ذريته، فصاروا دمى تلعب بها القوى والمصالح الأوروبية، فاخترقوا البلاد على مدى قرن كامل من بعد رحيل الباشا عند منتصف القرن التاسع عشر، حتى زوال حكمهم تماماً عند منتصف القرن العشرين، طوال هذا التاريخ الحديث في قرن ونصف قرن من الزمان، لم تكن مصر للمصريين، كانت للأجانب، كانت للنخب التركية والشركسية والأرمنية، ثم لبعض المصريين الذين كافحوا، وأصابهم الحظ، فكانوا طبقة كبار الملاك، وهي الطبقة التي تحالفت مع الجيش في الثورة العرابية 1881، ثم انفردت مع الطبقة الوسطى بقيادة ثورة 1919، ثم لم تجتهد بالقدر الكافي في توسيع قاعدة مصر للمصريين، فظلت فقط لكبار الملاك وحلفائهم من الأفندية فكانت ثورة 23 يوليو 1952، ثورة الشرائح الدنيا من الطبقات الوسيطة المتعلمة سواء داخل الجيش أو خارجه وهذا يفسر لك أمرين: أ- لماذا التفت ثم اصطفت لأول وهلة هذه الشرائح الدنيا من الطبقات الوسيطة المتعلمة حول حركة الضباط، ما نفى عن الحركة طابع الانقلاب، وأضفى عليها طابع الثورة. ب- كما يفسر لك لما عجز النظام القديم بكل أركانه عن الوقوف في وجه حركة الضباط، كان النظام القديم بغير قاعدة اجتماعية مثل تلك التي ولت وجهها شطر الضباط القادمين من الظلام عند منتصف ليل 23 يوليو 1952.
2- النقطة الثانية: بعد ثورة 1919 كانت قاعدة مصر للمصريين تعني المصريين الأغنياء من كبار الملاك وكبار الرأسماليين وكبار الأفندية، فجرى إهمال القاعدة الاجتماعية العريضة من فقراء المدن والأرياف، وهم الأغلبية العظمى في البلاد، ولو كانت الطبقة العليا تفهمت مطالب العدل الاجتماعي، ما كانت سقطت. ثم بعد ثورة 23 يوليو 1952، حدث العكس تماما، أصبحت قاعدة مصر للمصريين تعني المصريين الفقراء، فجرى سحق عبر التأميم والمصادرات والحراسات للطبقة العليا، كان من الممكن تحقيق العدل الاجتماعي دون إزالة طبقة مهمة تكونت عبر مائة وخمسين عاما، وصارت رصيدا وطنيا مهما في التكوين الاجتماعي بلد صاعد في سلم الحضارة المعاصرة في ذلك الوقت، لكن مصلحة النظام الجديد الذي يروم الضباط تأسيسه، كان يستلزم نسف القاعدة الاجتماعية للنظام الذي سقط. صحيح أن مصر الناصرية 1954- 1970 عرفت عدالة اجتماعية غير مسبوقة في تاريخ مصر الحديثة، وصحيح أنها تخلدت في التاريخ بالسد العالي، وهو غير مسبوق ولا ملحوق، وصحيح أنها كانت ذات الكلمة الأقوى في تقرير مصير الشرق الأوسط، وليس مصر والعروبة فقط، لكن الصحيح كذلك: أنها لم تكن لكل المصريين، كانت للفقراء، ودخلت في جفاء مع الأغنياء، وهذا حرم البلد من مزايا طبقة ذات خبرة لا يستهان بها. ثم من الصحيح كذلك، أنها حرمت الفقراء والأغنياء من القدر المعقول من الحريات العامة وحكم الدستور ودولة القانون. ثم من الصحيح كذلك، أنها لم توازن بين الطموحات الخارجية والإمكانات الداخلية، فأرهقت اقتصاد البلاد ثم استنزفت البلد كلها بين عامي 1962، حيث حرب اليمن وعام 1975، حيث فض الاشتباك الثاني بين القوات المصرية والإسرائيلية، بين التاريخين رحلة مرهقة منهكة، أثقلت كاهل الدولة وقطعت أنفاس الشعب، صحيح أن نصر 1973 عالج الآثار النفسية المدمرة للهزائم في حرب اليمن، ثم حرب النكسة، لكن بقيت الخسائر المادية في اقتصاد البلد أكبر من أن يعوضها شيء.
3- النقطة الثالثة: عند منتصف السبعينيات من القرن العشرين، وبعد ربع قرن من حكم الضباط، خرجنا منتصرين من حرب 1973، لكن خرجنا منهزمين منكسرين، ليس لأن السادات- كما في رواية الأستاذ هيكل- أضاع مكاسب الحرب، عندما ذهب للسلام، لكن الربع قرن من حكم الضباط كانت محصلته النهائية انخفاض وزن مصر الاقتصادي في لحظة بدأ فيها البترول يرفع أوزان دول الخليج، ويزيد من تأثيرها ليس فقط في السياسة الإقليمية التي تراجعت فيها مصر، لكن كذلك بدأت تؤثر داخل مصر ذاتها، بدأت المؤثرات الخليجية العفوية والمخططة، تغزو نسيج المجتمع والقيم والأخلاق والثقافة والمعايير سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات. للأسف الشديد مصر التي قامت الغزو الثقافي الأوروبي على مدى قرن ونصف قرن، وهنت قواها وسقطت مناعتها بعد ربع قرن من حكم الضباط أمام الغزو الثقافي والقيمي والديني والأخلاقي الخليجي، وثبت السلفية والوهابية على العقل المصري وثبة أذهلته عن نفسه، ثم شغلته عن ذاته، ثم أعادت تشكيله دون أن يدري، تزامن ذلك مع الفترة الأخيرة من الحرب الباردة، فكان للأمريكان رغبة في ذلك يشايعهم الحكام في مصر والسعودية والأردن والباكستان، دخلت مصر تحت ضباب ديني سلفي أصولي وهابي كثيف، يمتد بامتداد المصالح الأمريكية من المغرب حتى الباكستان في تحزيمة أخيرة للنفوذ الثقافي للسوفييت، حتى سقطوا وانفرد الأمريكان بقيادة العالم منذ مطلع التسعينيات من القرن العشرين.
……………………………………
منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين، بدأ الأمريكان في تكوين تشكيلات شرق أوسطية جديدة مفرداتها الرئيسية ثلاث: قطر، تركيا، قوى الإسلام السياسي.
وهذا موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.