بعد غياب طويل، أثار التساؤلات وعدد الشكوك، ظهر حميدتي يوم 16 مارس 2025، توعد بزيادة حدة المعارك، وأكد أن قواته لن تتراجع عن القصر الرئاسي، أو عن العاصمة الخرطوم، وتحدى بأن يوم 17 مارس «ذكرى تأسيس قوات الدعم السريع سيكون “حسرة وندامة” على الجيش وحلفائه».. كان واثقا متحديا مطمئنا إلى نجاح قواته في إدخال أسلحة متطورة ومسيرات لحماية القصر والمواقع الأمنية والعسكرية المحيطة، مستهدفا رفع معنويات مقاتليه بعد سلسلة الهزائم التي لحقت بهم منذ سبتمبر 2024.

قوات سلاح المدرعات كانت تتقدم شمالًا بالعاصمة على مدى شهور، حتى بلغت جسر الحرية وسط الخرطوم، بعد معارك شرسة ضد ميليشيات الدعم السريع، التي تراجعت نحو القصر الرئاسي ومقرات المؤسسات الحكومية وجزيرة توتي، وبات واضحا، أن نتيجة معركة القصر سوف تحسم بصورة نهائية معركة العاصمة «الخرطوم».

الجيش استهدف تحرير العديد من الأهداف الاستراتيجية في قلب العاصمة، ولكن بمشرط جراح، لأن المدينة كانت مكتظة بالمدنيين، أهمها القصر الجمهوري، ومطار الخرطوم، والبنك المركزي، وبرج زين للاتصالات، وبرج الفاتح، ومبنى رئاسة الوزراء، ومنطقة السوق العربي، وأرض المعسكرات سوبا، والمدينة الرياضية، ومعسكر الدفاع الجوي، ومقر الاحتياطي المركزي، ومعسكر طيبة، ومبنى جهاز الأمن والمخابرات، ومباني فرع الرياضة العسكري، ومباني معهد الاستخبارات العسكرية، وأكاديمية الأمن العليا، وإدارة العمليات الخاصة، ومقر الشرطة العسكرية، ووزارتي الداخلية والخارجية.. قيادة الجيش كانت تدرك أن تحرير القصر- برمزيته السيادية- سيكون بداية لانهيارات متتابعة في مواقع الميليشيات بأنحاء العاصمة.

عملية القصر الرئاسي

المدرعات نفذت مساء 17 مارس عملية موسعة، سمحت بالتقدم من أقصى جنوب الخرطوم باتجاه الشمال والشرق، والسيطرة على مساحات واسعة من أحياء الخرطوم 2 و3، إضافة إلى جسر «المسلمية» وأبراج «النيلين» التي كانت تستخدمها الميليشيات كمواقع للقناصة ضمانا للسيطرة على ممرات العاصمة الاستراتيجية.. التحام قوات المدرعات مع قوات القيادة العامة شرقي العاصمة، قضى على أي وجود للميليشيات بمنطقة غرب القيادة، ما أحكم الحصار حول القصر الجمهوري ومقر الاستراتيجية وباقي المواقع الهامة وسط الخرطوم، وفتح الطريق استعدادا للتوجه نحو المنطقة الجنوبية، حيث مجمع اليرموك العسكري، ومعسكر الاحتياطي المركزي، ومعسكر طيبة حتى جبل الأولياء، فضلا عن الانفتاح نحو مطار الخرطوم.

تقدمت قوات الجيش مساء 19 مارس باتجاه القصر مدعومة بسلاح المدفعية وبتغطية كثيفة من سلاح الطيران «70 مسيرة»، للتغلب على كثافة كمائن الميليشيات وقناصتها الذين احتلوا أسطح البنايات بالعاصمة ومحيط القصر، وتسببوا بالفعل في وقوع أعداد من القتلى والجرحى، وكان تقدم الجيش على محورين:

المحور الأول: من الشرق حيث مقر القيادة العامة، وسيطرت القوات في طريقها على أبراج العمارة الكويتية، وحيّدت مبنى وزارة الخارجية؛ لتصبح على بعد أقل من نصف كيلومتر عن البوابة الشرقية للقصر.

المحور الثاني: من الجنوب حيث تقدمت قوات سلاح المدرعات مباشرة فى اتجاه القصر.

***

كما تضمنت العملية إجراءات تجهيز ودعم على ثلاثة اتجاهات ضمانا للنجاح، واستكمالا لحصار الميليشيات، والحيلولة، دون تلقيها أي دعم بشري أو إمدادات عسكرية أو تموينية لمقاتليها:

الاتجاه الأول: نشر تعزيزات عسكرية في المحور الجنوبي الغربي لمدينة أم درمان، تأمينا للمداخل الغربية للخرطوم.

الاتجاه الثاني: دفع وحدات استطلاع بالقوة من قوات الجيش نحو محور جبل الأولياء جنوب الخرطوم، لكنها واجهت مقاومة شرسة فتراجعت.

الاتجاه الثالث: تنفيذ قوات الجيش ولواء النخبة بالمخابرات العامة عمليات تمشيط وتعقيم لعشر مناطق في القطاع الجنوبي الغربي من ولاية الجزيرة المتاخمة للخرطوم.

***

الميليشيات بادرت بشن هجوم مضاد انطلق من منطقة مايو جنوب شرق الخرطوم، لكسر الحصار المحكم الذي فرضه الجيش على قواتها وسط الخرطوم، ما قطع خطوط الإمدادات عنها، إلا أن هذه القوات وقعت في كمائن الجيش، كما تعرضت لاستهداف المسيرات، التي دمرت أكثر من فصيلتين بمحيط القصر الجمهوري، وبذلك أجهض الجيش الهجوم المضاد، ومنع الميليشيات من الوصول لمنطقة العمليات.

في طريقها إلى القصر الرئاسي، فرضت قوات الجيش سيطرتها على مبنى رئاسة جهاز الأمن والمخابرات الوطني، وتمكنت من الوصول إلى البوابة الشمالية للقصر، قبل استكمال سيطرتها على باقي البوابات، ما فرض على الميليشيات داخله التراجع باتجاه الأسوار، محاولين فجر 20 مارس الانسحاب من القصر ومحيطه، ومن مجمع الوزارات الحكومية وسط الخرطوم، إلى شارع القصر لفتح مسار عبر جسر الحرية، مستخدمين عربات دفع رباعي ومدرعات خفيفة ودراجات نارية، ولكن مسيرات الجيش دمرت أكثر من 30 عربة و10 دراجات نارية وتصفية عشرات المقاتلين، وأصبح الجيش يتحكم في كل الطرق المؤدية للقصر بعد إغلاقها بالمشاة، وتغطيتها بالمسيرات، من غرب الخرطوم، حيث المنطقة الصناعية إلى الشرق حيث أبراج النيلين، والجنوب حتى مقرن النيلين والشمال مدينة بحري.

نشوة الانتصار سمحت للجيش بالحفاظ على زخم الهجوم والضغط، ما دفع العديد من الميليشيات للانشقاق أو الفرار، مما زاد من عزلة جيوبهم، وأضعف قدرتها على الاستمرار في المقاومة.. كان الهروب جماعيا، وتم ضبط أعدادا كبيرة من المرتزقة من جنوب السودان وتشاد والنيجر وإفريقيا الوسطى وكولومبيا، إضافة إلى أجانب لم يتم تحديد هوياتهم.

عملية المالحة

في الوقت الذي الحق فيه الجيش الهزيمة الكاملة بالميليشيات في الخرطوم، هاجمت الأخيرة منطقة المالحة بولاية شمال دارفور في 20 مارس، مستخدمة 700 مركبة قتالية من ثلاثة محاور، وتمكنت من احتلالها والسيطرة على تقاطع الطرق الحيوية التي تربط شمال السودان بغربه، واتخذتها نقطة ارتكاز؛ نظرًا لموقعها الاستراتيجي، الذي حرم التنظيمات المسلحة المتحالفة مع الجيش من المعسكرات المحصّنة بالجبال، وقطع أي إمدادات متجهة من مركز حشدها بمدينة الدبة إلى قوات الفرقة السادسة للجيش المحاصرة في الفاشر، فضلا عن السيطرة على الطرق مع ليبيا، بما يسمح باستخدامها فى الحصول على إمدادات السلاح والوقود والمواد الغذائية.. والأخطر، أن السيطرة على المنطقة كان يمكّن الميليشيات من الهجوم على شمال السودان، والدبة، وشندي، ودنقلا، ويسمح بنقل الحرب لمناطق جديدة، تشتت جهود الجيش.

تهديد تشاد وجنوب السودان

بعد سقوط المالحة اتهم الفريق ياسر العطا مساعد القائد العام للجيش مساء 23 مارس، تشاد وجنوب السودان بالتدخل في الشؤون السودانية، وهدد بأن مطارات «نجامينا واميجراس» التشادية ستكون أهدافًا عسكرية شرعية للطيران السوداني، وحذر جنوب السودان من إيواء الخونة.. الدولتان رفضتا التهديد، وتوعدتا بالرد، والأمم المتحدة نبهت، إلى أن التصعيد العسكري في السودان يعطل جهود التسوية، ويشكل تهديدًا للأمن الإقليمي.

نقاط على حروف الأزمة

1.  تقدير الجيش السوداني بعد مؤتمر نيروبي، أن احتمال تشكيل الميليشيات لـ «حكومة موازية» بمشاركة عدد من الجماعات المسلحة، في المناطق التي تخضع لسيطرتها داخل الخرطوم، والتي تضم قصر الرئاسة والمنشآت السيادية والوزارات ومقرات أجهزة تعتبر رموزا لسلطة الدولة وسيادتها، يمكن أن يصيب قضية تحرير المناطق الخاضعة للميليشيات في مقتل، ويفجر نزاعا حول مشروعية الجهة الممثلة للدولة، ويهدم التحفظات الدولية على فكرة تشكيل الحكومة الموازية، مما يفسر سرعة وزخم تحركات الجيش لتطهير العاصمة، لحرمان الميليشيات من تحقيق انتصار سياسي، يجهض ما حققه الجيش من مكاسب في ولايات الوسط والجنوب والعاصمة.

2.  قوات الدعم السريع تعرضت لضربة قاصمة في الخرطوم، تفوق أهمية المنشآت والمناطق التي تراجعت عنها، وذلك نتيجة لكثافة تغطيات الإعلام المحلي والإقليمي والدولي لتهديدات «حميدتي»، وتأكيداته التمسك بالسيطرة على القصر الرئاسي ومدينة الخرطوم، قبل سقوطهما بأقل من 48 ساعة فقط، مما انعكس على الروح المعنوية لمقاتليه، وأدى لانهيارات في صفوفهم، زعزعت تمسكهم بالمواقع التي تمددوا فيها منذ بداية الحرب في إبريل 2023 وحتى سبتمبر 2024، عندما بدأت موجة التراجع. 

3.  وقد فرض ذلك على الميليشيات سرعة تحقيق انتصار المالحة، بوضعها الاستراتيجي الذي يفتح خطوط إمدادها، ويقطع خطوط إمدادات قوات الجيش المحاصرة في الفاشر.. والحقيقة المرة، هي أن انتصارات الجيش في وسط السودان والعاصمة قابلها تمدد للميليشيات في الغرب، وبعد أن كان هناك تداخل في مواقع القوات بمختلف الولايات، تبدو ملامح فض اشتباك، وإعادة رسم خطوط مواجهة أقرب ما تكون لحدود التقسيم، التي رُسِمت بدماء الشعب السوداني الشقيق.

4. استرداد الجيش للخرطوم، لا تعني انتقال مؤسسات الحكومة من بور تسودان إليها، لأن ذلك ينبغي أن تسبقه عمليات تمشيط وتعقيم للعاصمة ومحيطها من جيوب المقاومة، ومعالجة تناثر الجثث في الشوارع، والقذائف غير المنفجرة، والمسارعة بترميم المباني العامة، وتهيئة البنية التحتية الخاصة بتقديم الخدمات الكافية لعودة النازحين والحكومة.

5. انتصار الجيش بالعاصمة، لم يعد كافيا لإحباط المشروع الخارجي الذي استهدف إعادة هندسة الأوضاع داخل المنطقة، والسيطرة على السودان بموقعه الاستراتيجي وثرواته المختلفة، فاحتلال الميليشيات للمالحة، يعزز تدفق الدعم الخارجي، ويمكنها من استكمال السيطرة على غرب السودان، الأمر الذي يفرض تحرك الدولة السودانية في أربع اتجاهات رئيسية:

الأول: حرمان الميليشيات من تثبيت سيطرتهم على المالحة بأي ثمن، اعتمادا على تفوق سلاح الطيران السوداني و«المجهول».

الثاني: سرعة تطهير المناطق المحررة، واستعادة منطقة جبل الأولياء، ليتمكن الجيش بسرعة من نقل زخم عملياته إلى غرب السودان.

الثالث: الشروع في تهيئة البنية التحتية لعودة المواطنين للمدن والقرى والمزارع، حتى تعود الحياة وتدور عجلة الإنتاج.

الرابع: الشروع في ترتيبات عقد مؤتمر قومي يؤسس لحل سياسي مجتمعي، يضع صيغا عملية وآليات للتعامل مع النزاعات العرقية، ويمهد لإصدار دستور دائم ينزع فتيل الحرب القبلية، ويغلق أبواب التدخلات الخارجية.

6. تجربة السودان المريرة- شعبا وحكومة- تفرض التوقف والمراجعة والتصحيح، وتقييم المخاطر والتهديدات الوجودية التي خرجت منها كل الأطراف خاسرة.. السودان الشقيق، لو تمكن من القضاء على الفساد، وحوكمة الإدارة والنظام السياسي والاقتصادي، لأصبح أكثر الدول الإفريقية قوة وثراء.. القادم إما أن يثبت للعالم عراقة الشعب وأصالته وتوحده- رغم اختلاف أعراقه- في وجه الأزمات، وإما يتحول إلى ممالك وكيانات وشظايا سياسية منفتحة على الاستغلال الاستعماري.. لكننا نثق في حكمة ورشادة اختيارات هذا الشعب العريق.

27 مارس 2025

اقرأ أيضا : جمال طه يكتب: تشكيل حكومة موازية للميليشيات وتداعياته على وحدة السودان «2/2»

اقرأ أيضا : جمال طه يكتب: الجيش السوداني وحرب تحرير العاصمة المثلثة «2/3»

اقرأ أيضا: جمال طه يكتب: معركة مصفاة الجيلي.. وهجمات الفاشر.. ومؤشرات تغير الدور الإماراتي «3/3»