“كأن همسات الموت لا تلاحقنا”، تتنافي دلالة هذه الكلمات السابقة مع ما نحياه منذ بداية العام الجاري، والذي استيقظت البشرية على كوارثه منذ الدقيقة الأولى، وصولاً لجائحة كورونا، وحصدها لآلاف الأرواح خلفها، ورغم وصفها بأكبر تحدٍ يواجه العالم منذ الحرب العالمية الثانية، فإن الأزمات والأوبئة عبر التاريخ، أهملت في خطابها ومناشدتها بشكل متناقض الحديث عن الموت، بينما وضعه الكثيرين أمام وجهمها كـ”تحية الصباح”، معترفين بأن الحياة أصبحت أكثر رعبًا .
أعادت تجربة كورونا والأزمات والكوارث التي تلتها، في عام 2020، لأذهاننا أحداثًا مشابهة ضربت الإنسانية في أوقات سابق، كالطاعون أو الموت الأسود، خلال عامي 1347 و1352 وتسبب في موت ما لا يقل عن ثلث سكان القارة، مرورًا بالإنفلونزا الإسبانية والإيدز، وإنفلونزا الخنازير، ودفعتنا دفعًا لفتح خزانات خوفنا الدفين تجاه الموت، بل زادت وعينا به وكأنه الأمر الطبيعي الوحيد في كل ما يحدث حولنا.
ويؤكد علماء النفس بأن العلاج الذي لم يتطرق الشخص فيه لمواجهة الفناء الفردي فهو وعي تسكيني خائف منقوص، لا يصل بصاحبه للراحة والسلام التام، بينما ذهب الفلاسفة إلى أن الموت هو حرمان الحياة من معانيها وجعلها عبث .
روائح الموت
“العالم مكان قاسٍ، مرعب، حزين، خطر الموت يلاحقك في كل مكان، رائحته تتهادى إلى حواسك ولكنك لا تراه”، تطرح هذه الكلمات العديد من الأسئلة حول تجربة الموت، لماذا نخاف الموت؟، إذ أن هناك من يفزعه الخوف من الموت حد الشلل، بينما يتعامل آخرون مع خوف الموت بأريحية، فيبرعون في التعامل مع الأزمات أكثر من غيرهم.
ويجيب جمال فرويز، استشاري الطب النفسي، عن الأسئلة السابقة، بقوله إن كثرة الصدمات والأزمات التي نمر بها تولد ما يُسمى بـ”المناعة النفسية والعصبية”، والتي تعمل بشكل دفاعي حول فكرة الموت والفناء، فنكسر بذلك حاجز الموت والرعب منه.
ويشير استشاري الطب النفسي إلى أن 97 % من المصريين، على سبيل المثال، يشعرون باللامبالاة تجاه الموت، بينما أقل من 1% من مرضى الوساوس القهري لاجئوا لعيادات الطب النفسي أثناء أزمة كورونا الأخيرة، من أصل 3% من إجمالي مرضى الوسواس في البلاد، وهو ما يثبت أن غالبية الشعب كسروا فكرة الموت أو الرهاب منه.
بينما أوضحت نهي النجار، الإخصائية النفسية، بأن “بعد الأزمات الكبرى والأوبئة يظهر ما يسمى بـ”الاعتياد”، هي ظاهرة نفسية تتولد نتيجة انتشار الأخبار المخيفة عن الأوبئة واعتياد مشاهدتها بشكل يومي، ما يقلل من تأثير الخوف من الموت والتفكير بأنه شيء مرعب”.
ويجدر الإشارة، إلى أن الاعتياد، في علم النفس، هي ظاهرة نفسية جسدية تحدث لأي كائن حي عندما يتعرّض لنفس مقدار الإثارة لفترة زمنية طويلة، ومع الوقت رد فعل هذا الكائن على هذه الإثارة يُفقَد وتتحول هذه الإثارة لعديمة الفائدة، وببساطة تعود عليها.
دفن النفس
على مر التاريخ، واجهت الإنسانية العديد من الأزمات والكوارث الطبيعية، صاحبها في جميعها زيادة بالوعي بالموت، رغم شعورنا بالتعرض للخطر دائمًا، ولدي البشر تاريخ في إبراز وعيهم بالموت كطريقة لتقدير الوقت المتاح لهم أحياء، حاول الفراعنة توسيع تراثهم الثقافي بعد الموت، إذ بنوا الأهرامات والمقابر، وفي العصور الوسطى حيث احتفظ الرهبان بجماجم بشرية على مكاتبهم لمساعدتهم على التفكير في الموت.
ومع الحربين العالميتين الأولى والثانية والمذابح الإنسانية عادت فكرة الموت لوعي الناس، وبدا أن أحداث، مثل: المذابح والحروب، وتغيّر المواقف البشرية حول الموت.
ويعتبر الوعي بالموت هو أحد محركات النشاط البشري، وواحد من الأسباب الرئيسية التي تعطي معنى للحياة، ويجزم مختصين النفس والاجتماع بأن لا يخاف الموت إلا من قرر دفن أجزاء من نفسه لسبب ما، أم خوفًا أو إرضاءً لسطلة ما.
في المقابل، لا يعني التصالح مع حقيقة الموت زهد الحياة، بل في بعض الأحيان يؤدي إلى التمسك بالحياة أكثر ولكن دون إنكار للأمر أو تأجيله، ويقول القديس والفيلسوف أوغسطينوس: “في مواجهة الموت، تولد ذات المرء حقًا”.
وأوضحت “النجار”، أن في وقت الأزمات يخلق ما يسمي بـ” ميكانيزمات الدفاع”، وتعني تغلب الجسم على الصدمات بشكل لا إرادي، وهي حيل نفسية استراتيجية، تعمل بشكل غير واعٍ على حماية الفرد من أوقات الحصر، والتوتر، والخوف الزائد، وهو ما يفسر عبور الكثيرين من أزمة كورونا بشكل سليم نفسيًا لحدًا ما”.
واستطردت قائلة: إن ميكانيزمات الدفاع تتضمن أساليب عدة، نسعى دائمًا لحماية سلامنا النفسي والعقلي بها، من ضمنها الإنكار، والتأكيد الدائم بأن كل العالم والأمور على ما يرام، ذلك بجانب القمع، وهو أن تتناسي ما يحدث حولك وتبتعد عن التفكير بشكل سلبي، ما يجعله من أحد الأسباب العديدة لفكرة عدم الخوف من الموت التي تخلق مع الأزمات، إذا إننا لا نفكر به ونتجاهله في الأصل.
أمثلة معاصرة
وبشأن الوعي بالموت، نجد أمثلة من حياتنا اليومية بذلك أيضًا، إذ يرتفع نسب التبرعات للمؤسسات الخيرية، كما يحدث في الموسم الرمضاني من حملات إعلانية للتبرع على أساس فكرة الوعي بالموت، نفس الأمر مع مشهد انفجار مرفأ بيروت المدمر، الذي حصد معه عشرات الأرواح في لحظة، والذي وضع تحت بند “الاعتياد” .
وتشير الإخصائية النفسية إلى أن “فكرة اقتراب الموت تزيد أحيانًا من حماس الكثيرين وتغير فكرة الروتين اليومي، فالتذكير الدائم بالموت يقوي من رغبتنا في استثمار الوقت بشكل افضل”، مضيفة أن “الكوارث التي عايشناها في 2020 أجبرت العقل البشري إلى الالتجاء للتحصين النفسي والتقليل من النقد الموضوعي، أو التفكير بعمق أكثر”.
نتائج الأوبئة
وبعيدًا عن فكرة الموت، أثرت الأزمات عبر التاريخ على الأفراد الذين عاشوا هذه الفترة الاستثنائية، إذ غيرت جانبًا من اتجاهاتهم القيمية، و تركزت تأثيرات على التركيبة النفسية لأجيال كاملة، من أبرزها تأثر منظومة القيم وأنماط التدين لدى بعض الفئات بفترات انتشار الأمراض والأوبئة الأكثر خطورة.
وقد لوحظ بأن في هذه الفترات يظل الفرد متمسكًا بمنظومة القيم التي تُفسر ما يحدث، وترشده نحو سلوكيات بعينها، مثل: الطقوس الدينية، أو الخيرية أو غيرها والتي من شأنها تخفيف معاناته بحسب معتقداته وإيمانه، غير أنه مع طول المدة وارتفاع مستوى الخطورة قد يتشكك الفرد في معتقداته وقيمه، وقد يذهب إلى ممارسات ذات صلة بعقائد أخرى لعله يكون خاطئًا فيما يعتقد، إذ تخلق أسئلة وجودية كـ “لماذا يبعث لنا الإله ما يؤلمنا ونحن نؤمن به؟”.
ووفقًا لجالوب لاستطلاعات الرأي، منذ الستينيات كانت هناك نسبة أقل من 40% من الأمريكيين يعتقدون أن الدين ليس له أي تأثير على حياتهم، غير أنه بعد حادث انهيار البرجين، وصلت نسبة الأمريكيين الذي يرون أنهم بحاجة إلى الدين إلى 71%، بينما أشارت دراسة ميدانية أخرى إلى تسجيل حالات تحول ديني بين المصابين بمرض الإيدز في التسعينيات.
وعلى النقيض من ذلك، تشهد المجتمعات موجات من الخوف الجماعي عند تفشي الأوبئة، كما تحدث ثورة في التفسيرات المرتبطة بأسباب هذه المعاناة الجماعية جراء الوباء، وتتسبب في موجة من التناقضات القيمية، فالأوبئة بطبيعتها أمراض جديدة، لا تتوافر بشأنها معلومات أو توقعات بكيفية انتشارها ومكافحتها، ولا يوجد علاج لها.
وتعقب “النجار”، بأن المجتمعات تشهد حالة من التغيرات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية في الفترات التي تلي الأزمات الكبرى، إذ تزداد احتمال الإصابة بالأمراض النفسية كالخوف والقلق المزمن، بينما يسلك البعض طرق غير عقلانية ولا منطقية في تفسير الأمور في المستقبل”.