للطغاة ثلاثة أسباب جوهرية للابتهاج بسياسات وخطابات الرئيس الأمريكي الذي لم يكمل ١٠٠ يوم من ولايته الثانية:
أولًا: لأنه على شاكلتهم؛ إذ يسعى بقصد أو بغير قصد، إلى تقويض الديمقراطية الأمريكية الراسخة.
ثانيًا: أشارت سياسات ترامب- في جوهرها- إلى نهاية محتملة للالتزام الرمزي بالليبرالية العالمية، والعودة إلى عالم سياسات القوة الصارمة.
ثالثًا: ساهمت الدوافع الأيديولوجية التي تحرك سياساته وقراراته في حدوث تحولات كبيرة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بما في ذلك انخفاض الدعم لتعزيز الديمقراطية، والتحديات التي تواجه المعايير والمؤسسات الدولية، ونهج أكثر تعاملاً وقومية في الشؤون العالمية.
تمثل هذه التحولات انحرافًا كبيرًا عن النظام الدولي الذي ساد بعد الحرب الثانية وعن الالتزام الأمريكي الراسخ، وإن كان غير متسق في كثير من الأحيان وتحكمه معايير مزدوجة، بتعزيز الديمقراطية في الخارج.
يرى بعض المراقبين، أن هذه الإجراءات تشكل تقويضًا خطيرًا للقيم والمؤسسات الديمقراطية على المستويين المحلي والدولي. لا يزال تأثير هذه السياسات قيد التكشف، مع استمرار التحديات القانونية والمناقشات حول عواقبها طويلة المدى.
تقويض الديمقراطية الأمريكية
كان لسياسات دونالد ترامب تأثير كبير ومتعدد الأوجه على الديمقراطية الأمريكية. أدى التحرك نحو إعطاء الأولوية لرؤية محددة للهوية الأمريكية المتجذرة في القيم المحافظة، ورفض ما تسميه إدارته الأيديولوجيات التقدمية، إلى زيادة الصراعات الثقافية، حيث سعت الإدارة بنشاط إلى عكس السياسات وإزالة اللغة المتعلقة بالتنوع والمساواة والإدماج من القواعد واللوائح الفيدرالية.
يُلاحظ تصاعد الهجمات على الحقوق المدنية وجهود لإعادة ترسيخ التسلسلات الهرمية القديمة القائمة على العرق والجندر. تُوصف حرب إدارته على “التنوع والمساواة والشمول”، بأنها حرب على حقبة الحقوق المدنية نفسها، بهدف العودة إلى زمن كان فيه كون الشخص أبيض وذكرًا هو المؤهل الأساسي للمناصب المهمة. شمل ذلك تفكيك شرط عمره عقود من الزمن، يلزم الشركات المتعاقدة مع الحكومة الفيدرالية بوجوب توظيف المزيد من النساء والأشخاص الملونين.
عمل ترامب وإدارته على تقويض الثقة بالمؤسسات. فقد هاجم وسائل الإعلام والجامعات والقضاء مرارًا وتكرارًا، وسعى إلى “صحافة مكممة” و”جامعات خاضعة”، كما اتخذت إدارته إجراءات، اعتُبرت بمثابة تجاهل للأحكام القضائية.
في هذا السياق، بُذلت جهود كبيرة لترسيخ السلطة التنفيذية. وهناك إشارات إلى أن إدارة ترامب تبتكر مسارا لتواطؤ النخبة من خلال الشراكة مع مليارديرات غير منتخبين، مما قد يُضعف الرقابة الحكومية وجهود مكافحة الفساد، ويتماشى هذا مع القلق الأوسع بشأن تحويل السلطة نحو السلطة التنفيذية.
هناك تحديات تواجه العمليات الانتخابية والمعايير الديمقراطية. وهناك مخاوف من أن نهج ترامب في قضايا مثل مكافحة التضليل الإعلامي يتداخل مع جهود تقويض شرعية انتخابات عام ٢٠٢٠، واتهامات منه بفرض رقابة على الأصوات المحافظة. كما أن تشكيكه في إمكانية ترشحه لولاية ثالثة يشير إلى تجاهل حدود الولاية الرئاسية المعمول بها دستوريًا.
في حوار مع أحد قيادات العمل الحقوقي المصري أشار أنه: “ولولا وجود تاريخ طويل من الممارسة الديمقراطية (قادرة تقاوم شوية- مثل القضاة والمتظاهرين) كان زمان أمريكا كلها جت قعدت جنبنا في نادي الطغاة”. يضيف: “اللي بيحصل في أمريكا يخلينا نقلل جلد الذات (كحقوقيين/ ناس مؤمنة بالديمقراطية). رغم تاريخ الممارسة الديمقراطية ومؤسسات دستورية راسخة، إلا انها بتنزلق للاستبداد”.
يلفت نظرنا الحقوقي المصري إلى قضية البعد الثقافي في علاقته بفشل تجاربنا في التحول الديموقراطي؛ إذ يشير إلى: “كل التنظيرات عن أن والله احنا كشعوب عربية/ مسلمة عندنا مشكلات ثقافية وعقبات دينية، تؤدي بنا إلى الاستبداد دائما وفشل تجارب التحول الديمقراطي عندنا لهذه الاسباب (وحدها) أظن أنها طروحات تكذبها تجربة أمريكا الحالية”. الأمر في تقديري- كما كتبت سابقا عند مناقشة الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان– يتعلق بالبنى السياسية والاقتصادية التي يتحرك عليها الثقافي/ الديني ويتم توظيفه من خلالها.
إضعاف تعزيز الديمقراطية دوليًا
أظهرت إدارة ترامب ازدراءً كبيرًا للبرامج التي تركز على تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون والمجتمع المدني، وهو ما تجلى في التخفيضات العديدة في الميزانية المفروضة على المساعدات الخارجية الأمريكية. وقد خلّف هذا التخفيض آثارًا مدمرة في بعض المناطق الجغرافية، حيث كافحت القوى المؤيدة للديمقراطية.
إن إدارة ترامب تنظر إلى جهود بناء الأمة وتغيير النظام في أفغانستان والعراق، باعتبارها مشاريع غير ناجحة ومكلفة للغاية، وهذا التقييم السلبي يؤثر على وجهة نظرهم بشأن أدوات السياسة الخارجية مثل مساعدات الديمقراطية.
يشير هذا التراجع عن دعم الديمقراطية عالميًا، إلى أن الولايات المتحدة في عهد ترامب كانت أقل ميلًا لتحدي الأنظمة الاستبدادية، أو دعم الحركات الساعية للتغيير الديمقراطي من داخلها. ومن المرجح أن يرى الطغاة في ذلك تراجعًا في الضغط الخارجي والدعم المقدم لمعارضيهم.
نهج ترامب في العلاقات الدولية يعتمد على المعاملات والصفقات، حتى مع المستبدين، مع إغفال لحقوق الإنسان. هذا النهج من شأنه أن يمكّن الطغاة من التعامل مع الولايات المتحدة دون قلق كبير، بشأن كون سجلاتهم في مجال حقوق الإنسان عائقًا رئيسيًا أمام العلاقات الثنائية. وقد يفسر القادة الاستبداديون إعطاء الأولوية لشعار “أمريكا أولًا”، على أنه إشارة، إلى أن الولايات المتحدة ستعطي الأولوية لمصالحها الخاصة، ربما على حساب مخاوف حقوق الإنسان في الدول الأخرى.
أبدى ترامب إعجابًا واضحًا بالزعماء الاستبداديين مثل، فلاديمير بوتين، وازدراءً مماثلًا للزعماء الديمقراطيين، الذين غالبًا ما اعتبرهم ضعفاء. ويمكن اعتبار هذا الشعور بمثابة إقرارٍ بالحكم الاستبدادي وموافقةٍ ضمنية على أساليبه. وقد يرى الطغاة في نهج ترامب تحولًا عن الموقف الأمريكي التقليدي المتمثل في تعزيز الديمقراطية كقيمةٍ عالمية.
سعت إدارة ترامب بنشاط إلى تفكيك النظام الليبرالي الذي نشأ بعد الحرب الثانية، مفضلةً التعامل مع مجموعة من “الرجال الأقوياء”. وتضمن ذلك انتقاد المنظمات الدولية والانسحاب منها، مثل اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، كما أوقفت الإدارة تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا).
بإضعاف هذه الأطر الدولية التي غالبًا ما تُستخدم لرصد انتهاكات حقوق الإنسان وتعزيز المعايير الديمقراطية، قد يرى الطغاة، أن تصرفات ترامب تخفف القيود والرقابة التي يواجهونها على الساحة العالمية. وقد فضّل ترامب التعامل مع العالم بعقلية الشركات الناشئة، مما قد يؤدي إلى حل التحالفات بسرعة، وتفضيل العلاقات الشخصية مع القادة على الهياكل الرسمية.
أدى التوقف شبه الكامل لتمويل مساعدات الديمقراطية إلى شل المنظمات غير الربحية الأمريكية مثل المعهد الجمهوري الدولي والمعهد الديمقراطي الوطني، مما أجبرها على تسريح الموظفين وربما الإغلاق. وسيكون هذا بمثابة انتصار كبير للطغاة؛ لأنه يقلل من الدعم الخارجي للمجموعات التي تعمل على تعزيز القيم الديمقراطية وتحدي سلطتهم داخل بلدانهم.
الخلاصة: أشارت سياسات ترامب- في جوهرها- إلى نهاية محتملة للالتزام الرمزي بالليبرالية العالمية، والعودة إلى عالم سياسات القوة الصارمة، حيث قد تُعتبر الشؤون الداخلية وسجلات حقوق الإنسان في الدول الأخرى ثانوية مقارنة بالمنافع الآنية القائمة على المعاملات بالنسبة للولايات المتحدة. ومن شأن هذا التحول أن يخلق بيئة أكثر تساهلًا للزعماء الاستبداديين لتعزيز سلطتهم وقمع المعارضة، دون خوف كبير من تدخل أو إدانة أمريكية مؤثرة.
دوافع أيديولوجية
يبدو أن هناك عدة دوافع أيديولوجية رئيسية تدعم تحديات دونالد ترامب للمعايير الديمقراطية الراسخة، حيث تسود نظرة قومية (“أمريكا أولًا”)، ويمتلك رؤية تقليدية محافظة للهوية الأمريكية، بالإضافة إلى معارضته للأجندات التقدمية، وإدراكه بأن النظام الليبرالي العالمي الذي نشأ بعد الحرب الثانية عام 1945 قد أضر بالمصالح الأمريكية، وعمل لصالح حلفائها وخصومها على حد سواء، ويرتبط بهذا التشكيك في دور المنظمات الدولية.
١- “أمريكا أولًا”: يشير هذا المنظور، إلى أن العلاقات- سواء مع الحلفاء أو الخصوم- تعتمد في المقام الأول على الصفقات والمنافع الملموسة للولايات المتحدة، وليس على القيم المشتركة أو الالتزام بالمعايير الدولية. ويبدو أن إدارة ترامب تنظر إلى البرامج التي تعزز الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون بازدراء، وربما يرجع ذلك إلى هذه النظرة النفعية، والاستعداد للتعامل مع كل من المستبدين والديمقراطيين على أساس الفوائد الآنية المتصورة. هذا النهج القائم على مبدأ “أمريكا أولًا” يعني بشكل متزايد “أمريكا وحدها”- كما أشار أحد المراقبين.
٢- التركيز على رؤية ضيقة للهوية الأمريكية: عكست سياسات الإدارة رغبة في العودة إلى رؤية محددة وأكثر تقليدية للهوية الأمريكية، وإعطاء الأولوية للقيم البيضاء المحافظة والأدوار الجندرية التقليدية على المساواة العرقية والجنسانية والتسامح مع الأقليات. وقد ارتبط هذا برفض ما يُطلق عليه “ثقافة اليقظة” والمخاوف بشأن تأثير “النخب”، وتدخل الحكومة في الهندسة الاجتماعية. وقد ساهمت هذه الدوافع الأيديولوجية في حدوث تحولات كبيرة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بما في ذلك انخفاض الدعم لتعزيز الديمقراطية، والتحديات التي تواجه المعايير والمؤسسات الدولية، ونهج أكثر تعاملاً وقومية في الشؤون العالمية.
٣- رفض النظام الدولي الليبرالي: تشير تصرفات ترامب وخطاباته إلى خيبة أمل جوهرية في النظام الليبرالي الذي نشأ بعد الحرب الثانية ومبادئه الأساسية. ويبدو أنه يفضل عالمًا يحكمه الأفراد الأقوياء على الأنظمة القائمة على القواعد أو التحالفات أو المنتديات متعددة الجنسيات. ويتضمن هذا التشكيك في التحالفات طويلة الأمد والانسحاب من الاتفاقيات والمنظمات الدولية مثل، اتفاقية باريس للمناخ ومنظمة الصحة العالمية. وبدا أن إدارته تعتقد أن عصر الهيمنة الأمريكية في إطار ليبرالي قد انتهى، وأن عالم “سياسات القوة الصارمة” قد عاد. وأشار بعض المراقبين إلى أنه في حين قد يبدو نهج ترامب فوضويًا، إلا أنه قد يكون بمثابة اعتراف بعالم متعدد الأقطاب.
٤- المعارضة لأيديولوجية “الاستيقاظ” والأجندات التقدمية: يُعد رفض ما تعتبره إدارة ترامب وأنصارها سياسات “الاستيقاظ” دافعًا أيديولوجيًا قويًا. ويتضمن ذلك معارضة تعزيز المساواة بين الجنسين، وحقوق مجتمع الميم، والإدماج العنصري والعرقي، سواء على المستوى المحلي أو من خلال المساعدات الخارجية. وقد اعتبرت الإدارة هذه الأمور جزءًا من أجندة تقدمية، سعت إلى تفكيكها. وكان هذا الموقف واضحًا في إجراءات مثل الأمر التنفيذي الذي يمنع الرياضيين المتحولين جنسيًا من الانضمام إلى الفرق الرياضية للفتيات والنساء، وتفكيك سياسات التمييز الإيجابي في التعاقدات الفيدرالية لصالح النساء والملونين. وقد اعتبر البعض أن “حرب الإدارة على التنوع والإنصاف والشمول” بمثابة “حرب على عصر الحقوق المدنية نفسه”.
٥- التشكك تجاه المنظمات الدولية والتعددية: أظهرت إدارة ترامب انعدام ثقة كبير تجاه الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية. وقد نشأ هذا التشكك من تصور مفاده أن هذه المنظمات كانت منفصلة عن رقابة المؤسسات المنتخبة، وروّجت لسياسات لا يمكن أن تمر عبر الكونجرس الأمريكي، وربما قوضت السيادة الأمريكية. سعت الإدارة إلى خفض التمويل لهذه المنظمات وتساءلت عن مدى توافقها مع سياسة “أمريكا أولًا”.
إن سياسات ترامب، التي اتسمت بنظرة عالمية قائمة على الصفقات، وانخفاض في الترويج للديمقراطية، وتقارب واضح مع الزعماء الاستبداديين، ساهمت على الأرجح في خلق بيئة عالمية أكثر ملاءمة لتعزيز الاستبداد وتوسعه المحتمل. وقد أشار هذا التحول إلى انحراف عن السياسة الأمريكية الراسخة، وإن ميزها ازدواجية المعايير، وكانت غير متسقة في كثير الأحيان، والمتمثلة في تعزيز الديمقراطية، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من القوة والأمن الأمريكي.