المنظومة الحقوقية في مصر متشابكة الأطراف، فالمواطن أو الجماعة في مواجهة الإدارة أو السلطة التنفيذية، وكلا الطرفين يقفان متابعين لحركتهما الجهات الحقوقية الرقابية المعنية بمنظومة حقوق الإنسان محليا ودوليا.
أطراف المنظومة الحقوقية
المواطن مفهوم أنه الطرف الذي يتعرض إلى الغبن، ومظلمته تكون عادة ناتجة عن شكوى إدارية سواء من صاحب العمل، لكن الأغلب أن تكون تلك المظالم في مواجهة الدولة، لأنها المجال الأرحب للعلاقة مع المواطن، ولأن الأخيرة هي مالكة أدوات العنف، ما يمكنها من إنفاذ القانون، أو السلوك أو العرف المعمول به في النظام السياسي، وكل ذلك قد يكون مطابقا للمنظومة الحقوقية أو غير مطابق. وحتى لو كان كل ذلك مطابق لتلك المنظومة، فقد يكون التنفيذ بوسائل وطرائق تتسم بالصرامة والشدة، ما يجعل المواطن، حتى لو كان مدانا متعرضا للقهر المفرط.
الدولة هي مالكة أدوات القهر، وهي في الدول النامية حديثة العهد بالمقرطة والتمسك بالقواعد الحاكمة لحقوق الإنسان، كما سطرتها الأعراف والمواثيق والعهود الدولية، هذه الدول ترتكب العديد من المثالب التي تجعل سجلها الحقوقي غاية في التعقيد، بسبب انتهاك الحق في التعليم والصحة والمسكن، وكافة الحقوق السياسية والمدنية، بدءا من حق الحياة وانتهاء بحق الرأي والتعبير، مرورا بحق الترشح والانتخاب وحق المعاملة بشكل إنساني وغير حاط بالكرامة، أينما وجد حتى في أماكن الاحتجاز.
المنظمات العاملة في مجال الرقابة على سير العدالة وحقوق الإنسان، وتلك المنظمات سواء محلية أو دولية، تقوم على رصد أية انتهاكات للحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي من يعمل على كتابة التقارير وإيصالها للسلطات العامة في النظام السياسي المعني بانتهاك حقوق الإنسان. هذه المنظمات يجب أن تعمل بحرية وبكفاءة، وأن توفر لها كافة السبل لممارسة واجبها الذي جبلت عليه، ومردت عليه للذود عن حقوق المواطن والمقيم في الدولة.
سلامة النوايا أهم شروط النجاح
وبطبيعة الحال، فإن هناك شروطا كثيرة يمكن من خلالها العمل على إنجاح المنظومة الحقوقية في النظام السياسي، لكن مهما تعددت تلك الشروط، فإن شرطا واحدا لو فقد أو لو لم يتوفر ستُقوض العملية برمتها. هذا الشرط هو سلامة نوايا النظام السياسي والقائمين عليه للذود عن حقوق الإنسان والمنظومة الحقوقية.
من سلامة نوايا النظام السياسي للعمل على نجاح تلك المنظومة، يبدأ التقدم على كافة الأصعدة، فتفتح أبواب مجمل التسهيلات والمُيسرات للعمل على النجاح، حيث تصدُر القوانين وتُنفذ بحرفية عالية، وتُحترم أجهزة الرقابة السياسية (البرلمان والأحزاب)، والحقوقية (منظمات المجتمع المدني ذات الأغراض الدفاعية)، وكذلك الأجهزة الرقابية الإدارية (الرقابة الإدارية وغيرها)، والتي تسعى للقضاء على الفساد، مهما كان مصدره، وأيضا الأجهزة الاتصالية والإعلامية الرسمية (الصحافة والتلفزيون)، والتي تهدف رغم قربها من الدولة وأجهزتها؛ لكي تعمل بمهنية وكفاءة عالية، بما يحقق جودة المنظومة الحقوقية.
زيف التمسك بالمنظومة لتجنب الضغط الخارجي
يرتبط بما تقدم زيف الدعاوى التي تقدمها السلطات العامة في الدولة، وكذلك السلطات غير الرسمية كالإعلام والأحزاب السياسية، بحتمية التمسك بالمنظومة الحقوقية، حتى لا تتعرض مصر لنقد من الخارج، أو لابتزاز اقتصادي من الدول الأخرى عند الحصول على القروض والمنح الأجنبية والاستثمارات الأجنبية، ولربما ابتزاز سياسي عند التعاطي مع المصالح والأغراض السياسية ولربما العسكرية.
سبب زيف التمسك بالمنظومة الحقوقية لتجنب الضغوط الخارجية بسيط، وهو أن النظام السياسي يتحتم عليه أن يتمسك بالقيم الحقوقية لرغبته في التمسك فيها؛ ذودا عن الكرامة الإنسانية، وليس خشية من هذه الدولة الغربية المانحة أو تلك، أو حتى الخشية من تقارير تكتب من مجلس حقوق الإنسان بجنيف للقدح بالمنظومة الحقوقية، أو بلجنة الحريات الدينية في مجلس الشيوخ الأمريكي، أو تقرير حقوق الإنسان في وزارة الخارجية الأمريكية… إلخ. كل هذه الأمور يجب إلا يهتم بها أي نظام سياسي، يحترم ذاته ويحترم مواطنيه ويحترم كل مقيم على أرضه. لأن اهتمامه بها يعني، أن سيطيح بكافة تلك القيم في الخفاء أو بمجرد فتور ملاحظات تلك القوى الأجنبية بدافع المصالح المتبادلة أو غيره.
بعبارة أخرى، النظام السياسي يتحتم عليه أن يذود عن كرامة مواطنيه، لما جبلت عليه النفس البشرية من حب الخير وكراهة التعذيب، وتلقي الناس لحقوقهم في الصحة والتعليم والتنقل وغيرها-ووفائهم بالتزاماتهم أيضا- لأن كل ما سبق هي حقوق طبيعية لصيقة بالذات الإنسانية.
سوء التلكؤ بالبيئة والخصوصية المصرية
ولعل أبرز ما يذكر أيضا لتبرير انتهاك حقوق الإنسان، ذلك الذي يقال عنه، إن للمصريين خصوصية محددة، وأن البيئة المصرية لها طابع مميز، يمنع انطباق العهود والمواثيق الدولية الحقوقية التي يتمسك بها الغرب على الشأن المصري. هذا الأمر المعيب كان يقوله صراحة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، كما أنه- وبدون تصريح- ينطبق على المسلك المصري الرسمي الحالي في التعقيب على انتقادات الغير بشأن ملف مصر الحقوقي.
ما من شك، أن التشبث بالخصوصية المصرية لتبرير الانتهاكات هو أمر يؤكد على فشل القائمين على تنفيذ المنظومة الحقوقية داخل السلطة التنفيذية، لأنه ببساطة يقول للغرب، إن المصريين لا يعترفون أمام جهات التحقيق إلا تحت وطأة التعذيب، أو إن القبض على المجرمين لا يأتي إلا بالقبض على ذويهم؛ لإجبارهم على تسليم أنفسهم، أو إن الحبس الاحتياطي لمدد طويلة هو السبيل الأمثل لتجنب الجريمة في الدولة المصرية، أو إن الحبس الانفرادي هو وسيلة أكثر تأديبا للمصري المحبوس، أو إن الاختفاء القسري سيخلص الناس من شرور هذا السياسي وكثرة إزعاجه للسلطة، أو إن تزوير الانتخابات هي الوسيلة الأفضل للوصول لصناع قرار محددين بعينهم.. إلخ.
عيب الحديث عن أن النظرة الاقتصادية والاجتماعية الحقوقية أولى من السياسية
من أكثر التبريرات التي تجعل السلطة في مصر تتراجع دوما عن النظرة الحقوقية، هو الحديث المتواصل من قبل ممثليها، عن أن حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية هي أولى من الحقوق السياسية. ولعل الناظر إلى تلك المقولة فارغة المضمون يتبين للوهلة الأولى- ومع مرور الوقت- أن البلاد لم تتقدم كثيرا لا في هذا ولا ذاك ولا تلك. فكوريا الجنوبية على سبيل المثال، تمسكت منذ نصف قرن بتلك النظرة، وحققت بالفعل تقدما اقتصاديا واجتماعيا مذهلا، ثم بعد ذلك بدأت في التنمية السياسية لنظامها، ورغم أن هذا الموقف سبب لها مشكلات كثيرة؛ بسبب خطأ هذا المنهج، إلا أن التنمية في المجالات الثلاثة حدثت، واستكملت بالفعل، وأصبحت الانتهاكات السياسية في ذمة التاريخ.
في الحالة المصرية دوما يتم اللجوء في تبرير الفشل في نجاح المنظومة السياسية لحقوق الإنسان عبر الحاجة للدفع للأمام بالنظرة الحقوقية الاجتماعية والاقتصادية، لكن هذا كما ذكر آنفا لم يحدث، فالبلاد غارقة في الديون، وأزمات الإسكان لا زالت قائمة، وأزمة توزيع الأسمدة على الفلاحين مستشرية، والتعليم والصحة من أكثر مجالات عدم المساواة وإبراز الفوارق بين الناس.
ولعل الغريب في كل ما تقدم، هو أن الإصلاح السياسي هو إصلاح مجاني، بينما الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي هو إصلاح مكلف. بعبارة أخرى، إننا نترك المجاني ونتشبث بالمكلف، لسبب بسيط وهو أن المجاني قد يؤدي إلى تداول السلطة!!!
لا شك، أن النظرة السياسية لحقوق الإنسان لها الأولوية عن الاقتصادية والاجتماعية، لأنها ببساطة لو جرت على سبيل المثال انتخابات حرة ونزيهة لفاز فيها، من هم طرحوا برامج معتبرة للخلاص من عدم المساواة والفساد الاقتصادي والاجتماعي.
كيفية الارتقاء
لا يمكن الارتقاء بمنظومة حقوق الإنسان في مصر إلا من خلال: –
– سلامة نوايا السلطة تجاه التمسك بالقيم الحقوقية.
– تضمين القيم الحقوقية في مناهج التعليم الأساسي والجامعي.
– توقيع مصر على القوانين والعهود الدولية الحقوقية التي لم توقع ولم تصادق عليها، والتمسك بتنفيذ العهود والاتفاقات الدولية الموقعة.
– إجراء إصلاح تشريعي معتبر يطول مراجعة كافة القوانين السارية كي تواكب القيم الحقوقية.
– سن البرلمان للتشريعات التالية بالتوافق مع القيم الحقوقية.
– الاهتمام تحديدا بإجراء تعديلات تشريعية لقوانين محددة، وعلى رأسها الانتخاب والتظاهر ومنع التمييز وتداول المعلومات.. إلخ.
– تدريب كافة المعنيين بالشأن الحقوقي على قيم حقوق الإنسان، وعلى وجه الخصوص العاملين في هيئة الشرطة/ القضاة/ رجال النيابة.
– تحقيق إصلاح دستوري يُنحي القضاء العسكري عن محاكمة المدنيين أمامه، ويمنع تدخل السلطة في تعيين رؤساء الهيئات القضائية، ويلغي الحبس الاحتياطي داخل السجون ويجعله فقط إلكترونيا.. إلخ.