منذ بداية شهر مارس، وربما قبلها بقليل، بدأت نقابة المحامين في اتخاذ إجراءات تصعيدية، متمثلة في الامتناع عن سداد أي رسوم مالية أمام الخزينة بمحاكم الجمهورية، وذلك اعتراضاً على آخر القرارات القضائية بزيادة الرسوم القضائية ورسوم الخدمات القضائية بشكل غير مسبوق، ولم يزل الأمر مستمراً حتى يوم الثلاثاء الموافق الثامن من إبريل الحالي، والذي عقدت فيه النقابة العامة للمحامين اجتماعاً عاماً، وقد أصدرت خلاله قراراً استكمالاً لما أصدرته بتاريخ الثامن من مارس الماضي، وكان أهم ما جاء فيه الامتناع عن توريد أية مبالغ مالية بجميع خزائن محاكم الاستئناف ومأمورياتها لمدة ثلاثة أيام، تبدأ من 15/ 4/ 2025، وحتى انتهاء يوم عمل 17/ 4/ 2025. ذلك بخلاف الدعوة إلى وقفة احتجاجية على مستوى المحاكم الابتدائية بجميع محافظات الجمهورية يوم الأحد الموافق 13/ 4/ 2025 لمدة نصف ساعة، تبدأ من الساعة الثانية عشر والنصف ظهرًا، وتحت إشراف مجالس النقابات الفرعية.
ومن ناحية ثانية، فقد أصدرت النقابة العامة للمحامين قرارًا بالامتناع عن الحضور أمام محكمة جنح مدينة نصر، وذلك كرد فعل لما حدث من رئيس المحكمة أثناء انعقاد إحدى الجلسات الخاصة بأحد الأساتذة المحامين، وبحضور لفيف من كبار المحامين، وبعض أعضاء النقابة العامة ونقابة القاهرة الفرعية، وقد ذكر الأستاذ/ منتصر الزيات، وهو أحد حضور هذه الجلسة، بأن ما حدث هو أن القاضي تحدث بصوت عال وغاضب قائلا نصاً، بحسب ما ذكره موقع الموقف المصري: “قبل ما أفتح الجلسة أولاً: البنش الأول دا يفضى ويخصص للدولة مش عاوز حد من المحامين يضايق أو يدوس على حقيبة حد من الحاضرين عن الدولة”، ثم أتبع ذلك بقوله: “مش عاوز أصوات واللي واقفين يقعدوا ولو سمعت صوت أياً كان اسم وصفة صاحبه هدخله القفص”.
وهنا ثارت ثورة جموع المحامين، وقد حاول النقيب السابق للمحامين الأستاذ/ سامح عاشور الاعتراض على هذه الإهانات، ولكن دون جدوى.
وقد بدأت نقابة المحامين في التحقيق في هذه الواقعة، كما قررت الامتناع عن الحضور أمام هذه الدائرة، وكلفت نقابة القاهرة الجديدة الفرعية بمتابعة ذلك.
لكن هذين المشهدين، وبوصفهما قد حدثا في توقيت متقارب جدا، فإنهما قد يعبران عن موقف عام، تشهده الحياة العامة، أو الوضع السياسي العام، بأن الغلبة للسلطة والسلطان، وأن صوت القانون يخبو أو يخفت أمام رغبة السلطة، وهو الأمر الذي يتناقض بصورة أو بأخرى مع المفهوم الأساسي لمبدأ سيادة القانون، وهو ما يبدو واضحاً في عدم اكتراث السلطة السياسية بهاتين الواقعتين، إذ لم يصدر أي بيان يعبر عن موقف السلطة تجاه أي منهما سلبا أو إيجاباً.
فهل ذلك الموقف الرسمي متعمداً من الحكومة إقلالاً منها لشأن ما حدث أو ما يحدث على الساحة القضائية؟ أم أن الدولة ترغب في إخفات صوت نقابة المحامين أكثر مما يجب، وأكبر مما هو عليه الوضع، مقارنة بتاريخ نقابة المحامين مع كافة الأحداث والمواقف الاجتماعية والسياسية، تلك المواقف التي لم تكن لتغيب عن أي من المواقف الوطنية أو السياسية، وقد كان على سبيل التذكير، وكذلك أيضا ما يعد له علاقة وثيقة بالقضاء ذاته، والذي يعد طرفا في أحد هذين الموقفين، وهو ما حدث من نقابة المحامين إبان أزمة القضاة في عصر مبارك، سنة 2006 حال الرغبة في تعديل قانون السلطة القضائية، وهو الأمر الذي لاقى اعتراضات واسعة من تيار استقلال القضاء، حيث تمسك القضاة مدعومين من القوى السياسية والوطنية وجموع من المحامين بمطالبهم في إصدار قانون استقلالِ السلطةِ القضائية الذى أعده النادي، وحتى يتمكنَوا من الإشرافِ الكاملِ والحقيقي على الانتخاباتِ العامةِ، كي تخرجَ معبِّرةً بحقٍّ وصدقٍ عن الإرادةِ الحرةِ للشعب، خاصة بعد أن قاموا بدورِهم في الإشرافِ على الانتخاباتِ النيابيةِ في عام 2005، وحاولوا بكل ما أوتوا من طاقةٍ وجهدٍ، تحمُّلَ الأمانة والقيامَ بالمسئولية والتبعة على أفضل وجه ممكن، وقد تعرض عددٌ من هؤلاء القضاة أثناء قيامهم بدورِهم إلى كثيرٍ من العَنَت والإهانةِ والعدوانِ على يدِ أجهزةِ الأمنِ، ثم اندفعت السلطةُ التنفيذيةُ إلى منزلقِ تحويلِ بعضِ المستشارين، وبينهم المستشاران هشام البسطويسي ومحمود مكي إلى التحقيقِ أمام نيابةِ أمنِ الدولة العليا، ثم بعد ذلك إلى لجنةِ الصلاحيةِ، وهو أمرٌ رفضه القضاة، واندلعت ضده احتجاجات شعبية واسعة. وكان رفقة القضاة أمام لجنة الصلاحية جموع غفيرة من المحامين، ولم تتوان نقابة المحامين في تقديم الدعم القانوني، بخلاف المناصرة لنادي القضاة.
لكن على ما يبدو من الوضع الحالي، أن السلطة لا ترغب في سماع أي صوت مواز أو مجاور لصوتها وأصوات مؤيديها، إذ أن السلطة السياسية تعي جيداً قيمة نقابة المحامين وقدرها وقدرتها على الحشد في المواقف التي تستدعي ذلك، بحسب كونها النقابة الأعرق والأكبر عدداً، والتي لها علاقة بسياسات الدولة وتوجهاتها، وبشكل أخص ما هو مرتبط بالسياسات التشريعية، وهي القوانين والقرارات التي تعبر عن توجهات السلطة العامة، وهو أمر لا يخرج من حسبان السلطة العامة.
لكن أمر ترك الخلاف بين جناحي العدالة يسير، كما يسير، دونما التدخل من السلطة بتهدئة الموقف، أمر لا يبدو عصيا على الفهم والإدراك، بل يبدو أكثر وضوحا في انحياز الدولة إلى جانب السلطة القضائية، ربما بهدف مستقبلي يتلخص في تجنيب المحامين ونقابتهم من الوقوف إلى جانب القضاة في أية حوادث مستقبلية، أو أنه يهدف إلى تهميش دور نقابة المحامين بشكل أعم، وجعل صورتهم تبدو أكثر خفوتاً أمام الرأي العام المصري، وأن السلطة ترغب في سريان قرارات رفع الرسوم القضائية والخدمات اللاحقة بها، دونما أي اعتبار لأي صوت معارض له.
وبشكل أعم، فإن الأمر يتعلق بضمانة العدالة ذاتها، لكون ممارسة كافة الإجراءات القضائية، وعملية التقاضي ذاتها غايتها المثلى تقف عند حد تحقيق العدالة في كافة المنازعات القضائية، وهو ما يضفي قيمة فعلية على وجود القوانين كلها، وهو ما يعني أن تبذل الدولة بكافة أجهزتها، ما يقتضيه الأمر من تسهيل طرق التقاضي وتذليل العقبات أمام الحق في المقاضاة، وتيسير الوصول للقضاء، وتسهيل أمر التقاضي بكافة إجراءاته، وهو الأمر الذي يرتبط ارتباطاً لا يقبل الانفصال بمبدأ سيادة القانون.