على الرغم من أن الموقفين الإقليمي والدولي يدعمان وحدة التراب الوطني السوداني، والذي تم التعبير عنه في مؤتمر لندن المعقود مؤخرا بشأن الأزمة السودانية، فإن تقسيما جديدا للسودان بات منظورا على المستوى المتوسط، وبتكلفة عالية الأثر على الدولة السودانية، وأيضا على الإقليم المرشح للانقسام، ألا وهو دار فور.
أما الأسباب والعوامل التي تجعل سيناريو تقسيم جديد للسودان، وانفصال دار فور متوقعا، فهي متنوعة، بين ما هو تاريخي، وبين ما هو سياسي، وبين ما هو اقتصادي، وما هو قبلي، حيث تبدو أن عملية الانقسام قد بدأت فعليا بتكوين تحالف تأسيس في نيروبي التي انضوت تحتها عدد من المكونات السياسية السودانية، وتسببت في جدل انشقاقي في الأحزاب الكبرى السودانية، بما يساهم في إضعاف دورها السياسي في هذه المرحلة الحرجة والمتطلبة فاعلية وقدرة للأحزاب السياسية، باعتبارها عاملا أساسيا في عوامل قوة المكون المدني السوداني.
أما رصاصة البدء في استئناف التفاعلات الانقسامية السودانية، ولكن من بوابة دار فور هذه المرة، فهي إعلان محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع عن هياكل حكومة تحالف تأسيس الذي تم إعلانه في نيروبي مؤخرا، وكذلك الإعلان عن أهداف هذه الحكومة ووظائفها، وذلك بغض النظر عن مصداقية هذه الأهداف والوظائف.
على المستوى التاريخي، نحن أمام إقليم انضم لجسم الدولة السودانية قبل قرن تقريبا فقط، ومع ضعف حالة الاندماج الوطني السوداني، وطبيعة ممارسات دولة الاستقلال الوطني، من حيث تهميش أطراف السودان عن عمليات التمثيل السياسي العادلة أو التنمية المستدامة، حيث كانت دار فور سلطنة مستقلة بنظامها الإداري وجيشها الوطني وعلاقاتها الخارجية، ويتعامل معها العالم على هذا الأساس حتى آخر سلاطينها، علي دينار، الذي حكم من 1898 إلى 1917.
وطبقا لهذا المعطى، فإن التكوينات القبلية في دار فور، والتي تزيد عن خمسين قبيلة، كانت ضعيفة العلاقة مع مركز البلاد، كما شهدت علاقات بينية غير مستقرة؛ نتيجة الشح المائي المتصاعد تحت مظلة نشاط اقتصادي رعوي وزراعي، احتكر فيه العرب تقريبا الرعي، بينما استقر ذوو الأصول الإفريقية في نطاق الإنتاج الزراعي، وقد أنتج هذا الشح المائي صراعا برز في أربعينيات القرن الماضي على نطاق محدود وتعمق تدريجيا مع الاتجاه نحو التصحر؛ بسبب تغير المناخ، خصوصا في العقود الأخيرة.
ومع فشل دولة الاستقلال التي تم إعلانها عام ١٩٥٦ في حل العلاقات البينية بين القبائل، فقد لجأت لتسليح البعض منها ،ضد البعض الآخر في ثمانينات القرن الماضي، وهو ما أنتج قلائل أمنية في مراحل تالية.
ومع بروز حالة الصراع على السلطة بين جناحي الحكم في السودان البشير والترابي عام ١٩٩٩، انعكس هذا الصراع في دار فور عام ٢٠٠٣، حيث تكونت فصائل مسلحة، طالبت بالانفصال أيضا، بما حصل عليه السودانيون الجنوبيون من استقلال عام ٢٠١١، حيث حاولت توظيف الاختلافات العرقية في دار فور؛ لتحقيق الهدف الانفصالي.
في هذا السياق، بات إقليم دار فور مهددا لسلطة نظام البشير، الذي مارس إبادة جماعية ضد السكان تحرك ضدها المجتمع الدولي في منتصف العقد الأول من الألفية، حيث أصدرت المحكمة الجنائية الدولية في عامي 2009 و2010 أمرين باعتقال البشير، وبعض أركان نظامه في تهمة ما زالت معلقة في أعناقهم.
ومع الفظائع التي ارتكبتها قوات الدعم السريع خلال حرب ٢٠٢٣، ضد الإثنية الإفريقية في مدينة الجنية في غرب إقليم، والتي أدانها المجتمع الدولي، أصدر سلطان دار مساليت سعد عبد الرحمن بحر الدين مع خروجه إلى تشاد بعد شهرين في يونيو ٢٠٢٣، بياناً أوضح فيه الاتجاه نحو مراجعة اتفاقية قلاني، المعقودة في العقد الثاني من القرن العشرين، والتي بموجبها انضم المساليت بأراضيهم إلى السودان تحت مظلة الصراع الفرنسي الإنجليزي، اعتبارا من عام ١٩٢٢، وتنازلوا عن منطقة أدري التابعة حاليا لتشاد. هذه الاتفاقية أعطت قبيلة المساليت، بما يتبع لها من أراضي الحق في مراجعة أوضاعهم بعد مائة عام، كما نصت على أن من حقها أن تختار الاستمرار في السودان أو الاستقلال عنه.
وينضم إلى حالة التمرد على المركز في الخرطوم الفور، وهم الأغلبية في الإقليم الذي سمي باسمهم، وذلك تحت زعامة عبد الواحد نور رئيس حركة تحرير السودان، والذي يمارس إدارة للمناطق الخاضعة تحت سيطرته؛ مستغلا الموارد الاقتصادية من ذهب ومعادن وغيرها.
وبطبيعة الحال الفصائل الدار فورية المسلحة المتحالفة مع الجيش السوداني بموجب اتفاقية جوبا ٢٠٢٠، ستحدد موقفها في الاستمرار في هذا التحالف أو الانسلاخ عنه، طبقا لمسار الصراع الراهن بين قوات الدعم السريع والجيش، وطبيعة المكاسب الذاتية المترتبة عليه.
وفضلا عن هذه البيئة الداخلية في إقليم دار فور، فإن ثمة عوامل إضافية ترجح انفصال الإقليم، منها موقف النخب السلطوية ذات الأصول العربية التي ترى أن الهامش السوداني جنوبا وغربا واختلافه العرقي؛ السبب الرئيس في قعود مناطق الوسط والشمال عن التنمية والتقدم؛ بسبب الصراعات الداخلية المسلحة التي يفرضها الهامش على المركز، من هنا ظهر إلى العلن اتجاهات سودانية داخلية غالبيتها في مكونات حكم نظام البشير، تدعم فكرة انفصال وسط السودان وشماله وشرقه عن غربه وجنوبه لتحقيق نقاء عرقي وديني.
على صعيد مواز، فإن هناك مجهود غربي وإسرائيلي لاستعمال نفس آليات تصعيد الضغائن بين المركز في الخرطوم وجنوب السودان، وذلك في دار فور هذه المرة، وهي الآليات التي أسفرت في النهاية عن التقسيم الأول للسودان قبل أكثر من عقد، حيث تم رصد مجهود تبشيري في الإقليم الذي ينتمي سكانه للدين الإسلامي، ويوصفون بأنهم حفظة القرآن الكريم، كما تنشط منظمات المجتمع المدني اليهودي في الولايات المتحدة في معسكرات النازحين في شرق تشاد، وذلك فضلا عن علاقات عبد الواحد نور بإسرائيل وزيارته لها أكثر من مرة.
على الصعيد الاقتصادي، فإن ثمة مصالح بارزة لشركات عالمية في استغلال موارد السودان في إقليمه الغربي، وخصوصا الذهب والصمغ العربي، وتكمن مصالح هذه الشركات في تقسيم السودان، حيث يسهل الحصول علي الموارد عبر قادة محليين متصارعين علي الأرض والماء والموارد كالحالة في الكونغو مثلا، حيث تشير تسريبات أن هذه الشركات هي الداعمة حاليا لتحالف تأسيس بزعامة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، حيث ستضمن هذه الشركات لحميدتي قدرة على تصريف موارد الإقليم لصالح منظومته السياسية والعسكرية.
ومن غير المتوقع في ضوء خبرة جنوب السودان استقرارا في دار فور، حيث برز في الأولى صراعات داخليا أنتجت حربا أهلية، هي غير بعيدة عن دار فور، إذا ما توافر له خيار الانفصال عن السودان في المرحلة القادمة، من هنا فإن المجتمع الدولي والسياق الإقليمي يقاوم هذه الفكرة، ويعتبرها ميلادا لقلائل وصراعات؛ نظرا للاختلافات القبلية والعرقية في الإقليم، ولكن تبدو أدواته في منع هذا الخيار ضعيفة حتى هذه اللحظة.
وطبقا لمجمل هذه المعطيات الداخلية والخارجية، فإن ما ينقذ السودان من تقسيم جديد هو قدرة الأطراف السياسية والعسكرية السودانية على التوافق لإنتاج صياغة علاقات دستورية بين المركز والأطراف، تدشن تمثيلا سياسيا واقعيا، وتنمية اقتصادية مستدامة، وقدرة على إنتاج دولة المواطنة المتساوية.
ومن أسف أن التفاعلات الداخلية الراهنة لا تتجه لإنتاج هذه الحالة السياسية من السعي للتراضي الوطني، حيث أن المطروح حاليا صيغا صراعية تفتح الباب لتقسيم السودان، وهذه المرة من بوابة دار فور، بينما ستكون المرات القادمة من بوابات أخرى!!