مرة أخرى تطل الوجوه نفسها على الرأي العام العربي تسوغ له نزع سلاح المقاومة في غزة ولبنان، كأنه إنجاز يؤسس لنوع من السلام!
بعد وقت أو آخر تتكشف حقيقة الرهانات المضللة، لكن الذين تبنوها لا يتراجعون ولا يعتذرون.
الذين راهنوا على اتفاقية “كامب ديفيد” يجدون أنفسهم الآن في مأزق سياسي وأخلاقي، لا هم مستعدون لأية مراجعة، ولا هم مؤهلون لأي اعتذار.
والذين راهنوا على اتفاقية “أوسلو”، أيدوا “السلام بلا أرض”، كما وصفه الدكتور “إدوارد سعيد“، أو “سلام الأوهام” بتعبير الأستاذ “محمد حسنين هيكل” يجدون أنفسهم الآن في نفس المأزق المحكم.
أسوأ مقاربة إشاعة روح الهزيمة وإدانة فكرة الكفاح المسلح.
ما دام هناك احتلال، فالمقاومة حق مشروع وفق القانون الدولي.
هناك فارق جوهري بين الحق في التعبير السياسي بالاتفاق والاختلاف.. وبين التماهي مع الخطاب الإسرائيلي.
الأول، حق مشروع تماما.
والثاني، خطيئة سياسية لا تغتفر أبدا.
ربما نحتاج الآن إلى مراجعة الملف العراقي، حين ارتفعت الأصوات نفسها قبل احتلال بغداد عام (2003)، تمهد للغزو الأمريكي وتسوغه فتحا ديمقراطيا.
لم تكن هناك أسلحة دمار شامل.
ثبت بيقين أن التقارير الاستخباراتية، التي تردد فحواها في مجلس العموم البريطاني والكونجرس الأمريكي كانت كاذبة، استهدفت أساسا خداع الرأي العام.
وثبت بيقين آخر، أنه لم تكن هناك أدنى صلة لنظام “صدام حسين” بتنظيم “القاعدة”، بل إن التنظيم وجد طريقه لبلاد الرافدين بعد احتلالها.
الأسوأ أن نظما عربية عديدة كانت طرفا مباشرا في الاستعدادات العسكرية اللوجيستية لغزو العراق، وشاركت بالتحريض عليه حسب شهادات متواترة وموثوقة.
أمام تكشف الحقائق اعتذر رئيس الوزراء البريطاني الأسبق “توني بلير” لشعبه عن مواقفه قبل وأثناء الحرب.
لم يخضع لمحاكمة يستحقها كمجرم حرب، كأن اعتذاره المتأخر يعفيه من بحور الدماء التي سالت.
نفس المصير لاقاه على التوالي رئيسا وزراء إسبانيا وأستراليا، الأكثر حماسا لحماقات الإدارة الأمريكية.
لم تحدث أية مراجعة في مصر، ولا في أي بلد عربي آخر، للسياسات والمواقف التي اتبعت واستخدمت في تدمير العراق وإنهاء أية أدوار جوهرية، كان يلعبها بمعادلات الإقليم.
لا نشرت وثائق ولا جرت محاسبات.
من بتحمل المسئولية السياسية والأخلاقية عن الانتهاكات الصارخة في سجن “أبو غريب”، حتى أن جنديا أمريكيا صرخ: “لقد كرهت نفسي”؟
لم يبد أحد من السياسيين والصحفيين الذين بشروا بالغزو أي ندم ولا أقدم على أي اعتذار.
لم يكونوا أصحاب رأي في أزمة كبرى، يصح أو يخيب، بقدر ما كانوا أداة في ماكينة الدعاية الموجهة من نظم فقدت شرعيتها الأخلاقية قبل السياسية.
على العكس تماما لعب الكاتب الصحفي الاستقصائي الأمريكي “سيمور هيرش” دورا رئيسيا في كشف الفظائع والانتهاكات في سجن “أبو غريب” فاضحا ادعاءات الرئيس الأمريكي الأسبق “جورج دبليو بوش” عن الديمقراطية التي يبنيها!
جرت اعتداءات مماثلة في معتقل “كروبر” قرب مطار بغداد الدولي، لم يجر الالتفات إليها على أية وسيلة إعلامية، حيث كان يعتقل الرئيس العراقي “صدام حسين” مع مائة من كبار معاونيه.
قيل إن “صدام حسين” ارتكب انتهاكات مماثلة، ربما أبشع، لتسويغ الاعتداء بالضرب والتعذيب على أركان حكمه.
أسقطت تلك الحجة، التي ترددت وقتها على نطاق واسع، أية فروق إنسانية مدعاه، وأية شرعية منتحلة لقوات الاحتلال.
في مشاهد غير إنسانية وغير قانونية بأية معايير دولية، جرى ضرب الرئيس العراقي ورفاقه، وإجباره معهم على الزحف أرضا لمسافات طويلة، أو الجلوس شبه عراة إلا من دشداشة على الرأس لساعات طويلة.
عندما نقلوا إلى المحاكمة، قيدت أياديهم وعصبت العيون، وسحبوا كقطعان غنم.
هكذا بالحرف كتب نائب الرئيس “طه ياسين رمضان” في وثيقة خطية، سربت من خلف أسلاك معسكر “كروبر” إلى بيروت ثم إلى القاهرة كأمانة عندي للتصرف.
نشرتها بنصوصها في وقته وحينه، غير أنه جرى ما يشبه التعتيم الإعلامي والسياسي المقصود، على ما احتوته من وقائع واستنتاجات.
القصة من زاوية انسانية أقرب إلى تراجيديا إغريقية مضى فيها “صدام حسين” إلى النهايات المقدرة زحفا على أرض متربة في معتقل أمريكي.
والقصة من زاوية سياسية أقرب إلى تراجيديا إغريقية أخرى، مضت فيها الأمة العربية زحفا إلى اعادة رسم خرائط المنطقة لصالح هيمنة أمريكية واسرائيلية عليها.
المخاوف نفسها تتكرر الآن بصورة أكبر وأفدح.
النوايا الإسرائيلية معلنة وتصفية القضية الفلسطينية بنزع سلاح المقاومة، وإخلاء غزة من سكانها وفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية واحتلال مناطق في سوريا ولبنان والسعودية وسيناء، إذا ما جرى سيناريو التهجير قسرا.
إنه الشرق الأوسط الجديد، على ما يعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”.. وفي الأفق صفقات لتقاسم النفوذ في سوريا بين تركيا وإسرائيل، وضغوط لتحجيم الدور الإيراني بعد إضعاف، ما كان يطلق عليه “محور المقاومة”، فيما العالم العربي كله في حالة غيبوبة سياسية.
لا يوجد عربي عاقل واحد مستعد، أن يراهن على الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” في درء المخاطر الوجودية المحدقة.
تحتاج تجربتنا مع الرئيس الأمريكي الأسبق “باراك أوباما” إلى مراجعات في النهج والنظر، حيث خيمت الأوهام على الفضاء العام كله.
الفوارق شاسعة بين “ترامب” و”أوباما”، لكن الحسابات الاستراتيجية تحكم في النهاية.
في مذكرات “أوباما” أكد ما كان متداولا في القاهرة، من أنه طلب ألا يحضر الرئيس المصري خطابه الشهير بجامعة القاهرة.
كان ذلك تجاوزا لأية اعتبارات سياسية أو بروتوكولية، لكن ما طلبه حدث!
لم تلق الحفاوة الإمبراطورية التي استقبل بها هوى في نفسه، فقد استهول الشوارع المهجورة بالإجراءات الأمنية المشددة، وعزلة “مبارك” في القصور التي يعيش فيها مغتربا عن شعبه ومعاناته.
لم يكن معجبا بأي قدر بـ”مبارك“، الذى نالت السنين من صحته وهمته وقدرته على إدارة الدولة.
كانت تلك إشارة لافتة إلى الأزمة المستحكمة، التي سوف تأخذ مداها بعد شهور قليلة في أحداث يناير العاصفة عام (2011).
بعد كل ما حدث من تطورات وحوادث، نحن بحاجة إلى مراجعة لما جرى في جامعة القاهرة والرهانات التي صاحبت زيارة “أوباما”.
لم يراجع أحد سوء حساباته وخطأ رهاناته.
باستثناء أصوات معدودة في مصر، بدا الرهان على “أوباما” كاسحا.
كان هوسا في غير محله، كأنه “صلاح الدين الأيوبي” جاء حاملا رايات النصر إلى المنطقة المنكوبة بأزماتها وحروبها.
لم يراجع أحد- هنا- ما حدث في ذلك اليوم من رهانات خاطئة، ثبت تماما أنها تجاوزت حقائق الأشياء والمصالح والاستراتيجيات.
“أوباما” نفسه استغرب في مذكراته بعض ما رآه في قاعة الاحتفالات الكبرى بالجامعة العريقة، فما أن صعد إلى المنصة وألقى التحية الإسلامية “السلام عليكم” هلل الجمهور بحماس بالغ، واستمر يصفق ويهتف طوال خطابه.
لم يقل جديدا، ولا أحدث اختراقا، وبدا النص كله متماسك إنشائيا ومهلهل استراتيجيا، كما كتبت في وقته وحينه محذرا من الرهانات الخاطئة على سيد البيت الأبيض الجديد، فلا أحد يدافع عن قضايا الآخرين بالنيابة.
في ذلك الخطاب الموجه إلى العالم الإسلامي، وصف “أوباما” العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، بأنها “غير قابلة للكسر”.
كانت تلك العبارة الصريحة تعبيرا عن حقائق السياسة الأمريكية، أراد بها “أوباما”، أن يضع حدودا استراتيجية لما يمكن أن يتبعه من سياسات في تحسين العلاقات مع العالم الإسلامي، وأن أي رهان على أي صدام محتمل بين الولايات المتحدة وإسرائيل في عهده، يتماهى مع الوهم، أو هو الوهم ذاته. فللاستراتيجيات مصالح تتحكم فيها وأهداف تصوغ حركتها، ولتعديلات الخطاب السياسي حدود لا يتخطاها.
هذا ما نحتاج أن نتعلمه من تجاربنا المريرة، ألا نراهن على وهم، وأن نتعلم فضيلة المراجعة والاعتذار، حتى يكون ممكنا عدم تكرار أخطاء وخطايا الماضي.
أما المتورطون بالتماهي مع الخطاب الإسرائيلي، فإنهم لا يراجعون ولا يعتذرون.