لستُ أجادل مع من يعتقدون أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فيه حماقة أي اندفاع في التفكير وتسرع في القرار، وانتهاك لقواعد الذوق العام وعدم مبالاة بالعواقب، لست أجادل في ذلك، لا لأثبت أنه غير أحمق، لكن لأقول إن وراء هذه الحماقة منطقا كامنا، هذا المنطق يعكس واحدة من محطات تحول القوة الأمريكية من قوة عظمى إلى إمبراطورية عظمى، من قوة عظمى تدرجت من معاداة الاستعمار عند تأسيسها في النصف الثاني من القرن الثامن عشر؛ لتصبح ذروة الاستعمار المتجدد في النصف الأول من القرن الحادي والعشرين، ولدت أمريكا أمة مناضلة مجاهدة في سبيل الحرية والاستقلال، وكان هذا الميلاد مصدر إشعاعها الأخلاقي الذي تجسد، فيما عُرف بالحلم الأمريكي، حيث أمة حرة مستقلة ناهضة متنوعة الأعراق متعددة الأجناس، بدأت من حيث انتهت البشرية، فأخذت عصارة النضال الإنساني، ثم انطلقت منه، ثم زادت عليه، ولادة أمريكا هي ولادة ثانية للإنسانية، ولادة جددت شباب التاريخ، ولادة أعطت دفقة لروح الحضارة، لكن الأسس الأخلاقية لم تكن كافية لتردع القوة الأمريكية عن الانزلاق، إلى نقيض ما تأسست عليه، تأسست على معاداة الاستعمار والتحرر وحق الشعوب في تقرير المصير، لكنها كلما تمكنت من قيادة العالم، ذهبت مع الريح قوة استعمارية عاتية، لا تبالي إن عصفت بدول وشعوب وحضارات، قوة طالما عميت عن الحق، فطاحت تقصف اللحم الحي من البر أو من الجو أو من البحر، فهي آلة الحرب الأقوى في العالم، قواعدها العسكرية في كل القارات، بوارجها الحربية في كل المحيطات، سلاح الجو لديها يطير في كل السموات.
منذ سقط الاتحاد السوفيتي- الذي كان ينافسها على قيادة العالم- 1992، حتى اليوم والغد وأخبار العالم الأولى هي أخبار أمريكا، وأخبار أمريكا هي أخبار حروب أمريكا، وأخبار حروب أمريكا هي طحن دول، وفرم شعوب، ودهس مبادئ وتدمير قيم، ونسف أخلاق تحت مبررات ومزاعم لا أول لها ولا آخر. طوال هذه الفترة من 1992، حتى كتابة هذه السطور، وأمريكا تتحول- من حيث تقصد عمداً أو بفعل الحركة العفوية للتاريخ- من جمهورية إلى إمبراطورية، جمهورية معناها أنها دولة ذات سيادة ملتزمة باحترام سيادة غيرها من الدول، كبرت أو صغرت، إمبراطورية معناها قوة يحكمها منطق القوة، وليس منطق السيادة، يحكمها منطق القدرة الكلية، وليس منطق القانون المحدد، يحكمها منطق الإرادة، وليس منطق التوافق، يحكمها منطق الفردية، وليس منطق الجماعية. وهذا يفسر لك مثلاً: لماذا يصرح الرئيس الأمريكي برغبته في أن تكون جارته الشمالية الوادعة الطيبة كندا مجرد ولاية أمريكية، بما ينزع عنها استقلالها وسيادتها ومركزها القانوني بين الدول، بل وبما يلغي وجود شعبها من الأساس كصاحب سيادة، وكلمة عليا في تقرير مصيره ومصير دولته، وهي كندا الحرة المستقلة، ثم هذا يفسر لك كلامه الصريح عن عبور السفن الأمريكية من قناتي السويس وبنما، دون دفع الرسوم المستحقة، فهو هنا- كما في حالة كندا- لا يبالي مثلاً أن مصر دولة مستقلة فيها شعب صاحب سيادة، وأن هذه القناة وتر حساس في تاريخ مصر المعاصر، حيث دار عليها صراع بين إمبراطوريات أوروبا الاستعمارية في القرن التاسع عشر، وحولها تشكلت الوطنية المصرية، وأن كلامه ليس سوى تجديد صريح لمنطق الاستعمار الأوروبي الذي كان يرى لنفسه الحق ليس في قناة السويس فقط، لكن في مصر كلها، وليس في مصر فقط، لكن في كل البلدان التي تقع بين البحر المتوسط والهند، حيث دُرة التاج البريطاني وقبلة الصراع الأوروبي على السلب والنهب، هذان مثالان فقط من ترسانة تصريحات تصدر عن الرئيس الأمريكي تعصف بأسس النظام الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت أمريكا أحد المؤسسين الكبار له.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، هو التطور الطبيعي لتطور القوة الأمريكية منذ انفردت أمريكا- دون منازع- بقيادة العالم في العقد الأخير من القرن العشرين، ثم تواصل في الخمسة وعشرين عاماً الكئيبة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، أي ما يزيد على ثلث قرن من الزمن، وبالتقريب خمسة وثلاثون عاماً، شاهدنا فيها أمريكا تحارب في الكويت وبنما والصومال والبوسنة وهاييتي وأفغانستان والسودان والعراق، ووضعت خططاً وتمويلاً، وجندت العناصر المحلية لإحداث تغييرات داخلية في بلدان الشرق الأوسط تحت مسمى الفوضى البناءة التي تتساقط خلالها الأنظمة الحاكمة، كما تتساقط منظومات الفكر والثقافة السائدة، ثم يُعاد تشكيل السياسة والثقافة والاجتماع في بلدان الشرق الأوسط على نحو ديمقراطي، يحترم حقوق الإنسان وحرياته المدنية، نجحت الفوضى في النصف الأول من المهمة، وهو إسقاط الأنظمة الحاكمة، فكانت فوضى هدامة، كما أُريد لها في هذا الجزء من المهمة، لكنها عجزت أن تكون فوضى بناءة في الجزء الثاني الذي أريد لها من المهمة، فقد عجزت أمريكا عن بناء أنظمة ديمقراطية وثقافة ديمقراطية ومجتمعات ديمقراطية في بلدان الشرق الأوسط، فتحول الربيع إلى خريف، تساقط فيه كل أخطر وعم الخراب في كل مكان من الشرق الأوسط: فوضى سياسية، استقطابات اجتماعية، انهيارات اقتصادية، صراعات طائفية، انقسامات انفصالية، مجازر دموية، هجرات وتهجير ونزوح في الداخل والخارج. كلما قطعت القوة الأمريكية مسافات جديدة نحو الإمبراطورية، جاء ذلك على حساب الشرق الأوسط الذي فقد في الخمسة وثلاثين عاماً الأخيرة سلامه واستقراره، وكل ما أنجزه على طريق الحداثة، ويعود كل يوم إلى العصور الوسيطة عصور ما قبل الدولة الحديثة، ولو استمرت سياسات أمريكا في الشرق الأوسط على هذا النحو، فإن مستقبلاً أشد كآبة ينتظر شعوبه؛ لأن حكم بلدانه سوف يستعصي على الجميع مع تزايد النوازع الطائفية والمذهبية والعرقية والانفصالية وشيوع السلاح وسهولة اللجوء للعنف، وانهيار المؤسسات وفقدان العدالة وانعدام النظام والقانون وتلاشي بواقي الدساتير وأطلال القوانين، أكرر استمرار الأوضاع في الشرق الأوسط تتداعى بهذه المعدلات المتسارعة، سوف ينتهي إلى استحالة أن تعيش فيها أنظمة حكم مستقرة، كما استحالة أن تأتلف فيها مجتمعات متماسكة، كما استحالة أن تنبت فيها ثقافة أو حضارة. العودة الى احترام فكرة الدولة ذات السيادة هي الحل الوحيد، لما يجري من تفكيك ثم تخريب كامل لبلدان وشعوب الشرق الأوسط. الدولة ذات السيادة- بكل عيوبها- هي الإطار الموضوعي الوحيد الذي يمكن من خلاله، أن يناضل الشعب لانتزاع حرياته وحقوقه المدنية وكذلك لانتزاع استقلاله وتقرير مصيره، وكذلك لخلق هويات وطنية جامعة تطوي تحت جناحيها الشعب كله بكافة مكوناته العرقية والطائفية والدينية والمذهبية والجهوية في ظل دولة الدستور والقانون. أي مساس بالدولة الوطنية- تحت مبررات فسادها واستبدادها، وهما يقين لا شك فيه، وواقع لا إنكار له- أي مساس بها بما يؤدي إلى سقوطها لن يكون من ورائه أي خير للشعوب، فهو فقط يفتح الأبواب للتدخلات والمطامع الأجنبية، كما يفتحها للانقسامات والدعوات الانفصالية، كما ينقل مراكز الفساد والاستبداد من السلطة الموحدة إلى أكثر من سلطة مشتتة وممزقة ومتنافسة ومتصارعة في حروب أهلية كامنة أو ظاهرة.
ما يبدو أنه حماقات من الرئيس الأمريكي لا منطق لها هو- في الحقيقة- المنطق كله الذي استجد، بعدما تغيرت أمريكا في الخمسة وثلاثين عاماً الأخيرة، هذا المنطق يقوم على عدة حقائق:
1 – الأولى: أن سقوط الاتحاد السوفييتي كقوة توازن مع القوة الأمريكية، ثم عدم صعود قوة وازنة بديلة، خلق حالة فراغ في السياسة الدولية، وهذا الفراغ سمح بتفاقم الصراعات في كافة القارات، وأن أمريكا وجدت نفسها- بحكم الأمر الواقع- إمبراطورية تملك ربع اقتصاد العالم، وأول عسكرية في العالم، وهيمنتها مبسوطة على الكوكب الأرضي بره وبحره وجوه، كل هذا يجعل من خيار الانعزال لغو كلام، كما يجعل من خيار الحياد أو الانكفاء على الذات موقفاً غير مسئول، والعكس هو الصحيح، فعلى أمريكا أن تتقدم وأن تقود وأن تعاقب وأن تُكافيء، ذلك لمصلحتها أولاً، ثم لمصالح حلفائها ثانياً، ثم لمصالح الأمن العالمي ثالثا، الأمريكان يخفون رغبتهم في أن يكونوا رجل شرطة العالم، والكونجرس لديه موقف تقليدي يتحفظ على نشر قوات أمريكية في مناطق الصراعات، والشعب الأمريكي لديه اعتقاد أن الله وفر له الحماية الربانية بين محيطين عازلين، حيث الأطلنطي في الشرق والهندي في الغرب، وحيث جارة طيبة في الجنوب وهي المكسيك وجارة أطيب في الشمال وهي كندا ، فلماذا إذن نذهب لنتورط في صراعات العالم؟ لكن هذا الأمان الرباني ثبت لهم أنه خرافة مرتين: الأول عندما قصفت اليابان ميناء بيرل هاربور، فقرر الأمريكان خوض الحرب العالمية الثانية، بعد أن كانوا بمنأى عنها، خاضوا الحرب، وانتصروا، وأعادوا تشكيل النظام الدولي بأكمله، ثم المرة الثانية بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، ومنذ ذلك التاريخ وأمريكا ترفع سيفها وتصوب رمحها فوق رقاب ورؤوس شعوب الشرق الأوسط التي أنجبت الفرقة السعودية المصرية المشتركة التي نفذت حوادث الهجوم على أمريكا من داخلها.
2- كان التوازن السوفيتي الأمريكي من نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى مطلع تسعينيات القرن العشرين، يقوم بدور الكابح والضابط للكثير من الصراعات الإقليمية غير ذات الخطر الاستراتيجي على أي من القوتين العظميين، لكن بعد اختفاء القوة السوفيتية تفاقمت الصراعات في كل القارات، وعجز النظام الدولي ممثلاً في الأمم المتحدة عن مواجهتها، كما ثبت أن قوى مثل أوروبا والصين لا تملك القدرة ولا الرغبة ولا عندها المصلحة التي تدعوها للتدخل، في تلك الاجواء بدأت تتبلور فكرة أن استقرار العالم يحتاج إلى إمبراطورية لديها القدرة، وتتوفر لها الإرادة وعندها المصلحة التي تدعوها للقيام بدور- لا يوجد غيرها يقوم به- في حفظ السلام والأمن الدوليين بعد انتهاء الحرب الباردة، وقد أفرد الألماني هرفريد مونكلر كتاباً مهماً لشرح هذه الفكرة، عنوانه “إمبراطوريات منطق السيادة الكونية من روما القديمة إلى الولايات المتحدة، ترجمة الدكتور عبد السلام حيدر، ونشره مركز المحروسة عام 2000، فهو يدعونا ألا ننظر إلى فكرة الإمبراطورية منذ البداية بوصفها أمراَ ذميماً مُستنكراً، وإنما بوصفها حلاً ومعالجةً لمشكلات قائمة، ويقول إنه ينبغي علينا أن نتشكك في قدرة نموذج الدول الذي يقوم على المساواة والتعاون على التصدي في الفترة القادمة للتحديات التي باتت ظاهرة للعيان، وذلك لأن إخفاق الدول وانهيارها بصفة خاصة، من شأنه أن يستدعي التدخل، وهذا يساعد ويبرر قيام الإمبراطورية، وعلى هذا الأساس باتت منظمة الأمم المتحدة مجرد ذراع تشريعي لأمريكا، يصدر لها القرارات التي تريد، أو يمنع القرارات التي لا تريد، وباتت أمريكا هي الذراع العسكري للأمم المتحدة تطول كل مكان في العالم، أما حلف الناتو فلم يعد أكثر من أداة في يد أمريكا للسيطرة على أوروبا فقط.
3 – الثالثة: رغم اختلاف الإدارات بين ديمقراطي وجمهوري، فإن الثابت هو أن النزوع الإمبراطوري يتقدم بخطى ثابتة، الخلاف فقط في مقادير الدبلوماسية ومقادير القوة العسكرية، متى وإلى أي حد يجري الاعتماد على الدبلوماسية والحلول السلمية، ومنها الأعمال السرية، ومتى وإلى أي حد يجري استخدام القوة المسلحة سواء لدعم الدبلوماسية أو لإنجاز المهمة من أساسها، لدى الأمريكان اعتقاد مطمئن، أن الزمان يسمح لهم بمائة عام قادمة من حرية الحركة الإمبراطورية، قبل أن تظهر قوة لها القدرة على إحداث توازن استراتيجي معهم، ثم لديهم توافق مطمئن كذلك، أن مؤسسة الرئاسة هي الكفيلة بالقيام بهذا الدور، حيث يتمتع الرئيس بصلاحيات غير محدودة في السياسة الخارجية في مقابل صلاحيات مقيدة في الشؤون الداخلية، مقيدة بتوازنات الكونجرس والقضاء والصحافة وحكام الولايات والمجتمع المدني. المائة عام من التفوق الأمريكي وغياب المنافس الدولي تقوم على التسليم، بأن الاتحاد الأوروبي يموت أو في طريقه للموت، والصين تتحول إلى غول اقتصادي يتضخم، لكن مع أرباح تتدنى، بعض القوى الإقليمية مثل روسيا وتركيا والهند سوف تتحسن أوضاعها، لكن في إطار لا يخرج عن الحدود التي ترسمها أمريكا. جورج فريدمان- عالم المستقبليات الأمريكي- أصدر كتابين مهمين، أولهما عن القرن القادم وثانيهما عن السنوات العشر القادمة، وهذا الكتاب الأخير تقوم فكرته على أن يتقبل الأمريكان فكرة أن بلدهم- دون قصد منهم- صارت إمبراطورية مثلها مثل روما القديمة، ثم يقوم على فكرة أن رئيس الجمهورية يلزم تمرينه، وتدريبه على فكرة أنه إمبراطور وحيد في هذا العالم سلطاته مقيدة بالدستور في الداخل، لكنها غير محدودة في الخارج، ثم يقوم على فكرة إعادة النظر إلى العالم من منظور إمبراطوري جديد غير المنظور الذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية القائم على الشرعية الدولية التي تمثلها الأمم المتحدة والقانون الدولي، المنظور الجديد استعماري في عدسته التي يرى منها العالم، حيث يجري تقسيم العالم إلى أقاليم، ثم هندسة هذه الأقاليم عبر خلق توازنات ضابطة ورادعة بين القوى المحلية في هذا الإقليم، في هذا السياق أوروبا لم تعد بالأهمية القديمة بالنسبة لأمريكا، وتركيا سوف تزداد أهميتها في لعبة التوازنات سواء في أوراسيا أو الشرق الأوسط، والأخطر أن إسرائيل ذاتها سوف تفقد مكانتها التي كسبتها في السياسة الأمريكية منذ تأسيسها عند منتصف القرن العشرين، خلاصة الفكرة هي ضبط العالم بالتوازنات المحلية واستنزاف بعضه ببعضه وإسباغ الحماية على الطرف علانيةً، وعلى خصمه سراً مع العودة الصريحة للمكيافيللية السياسية التي تنتهك الأخلاق من أجل الفضيلة العليا، وهذه الفضيلة العليا هي مصلحة أمريكا في عالم يزداد كل يوم خطورة.
…………………………..
الكتاب فيه أفكار جديدة بالكلية:
1- أن يمارس الرئيس الأمريكي السياسة الخارجية كإمبراطور.
2 – تنأى أمريكا بهدوء عن إسرائيل.
3 – تتوصل أمريكا إلى تسوية مع إيران.
4 – تقوية الباكستان أو على الأقل وضع حد لتدهورها.
5 – زيادة وجود ونفوذ تركيا في المنطقة.
وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.