من الصعوبة بمكان إدراك كافة خفايا زيارة الفريق عبد الفتاح البرهان للقاهرة، خصوصا أن وفد الفريق البرهان قد تضمن وجود رئيس جهاز المخابرات السوداني، كما كان لوزير ومدير جهاز المخابرات العامة المصرية زيارة لبورتسودان مؤخرا.
في تقديري أن الملف الأبرز في هذه الزيارة هو ملف البحر الأحمر، إذ أن حجم التهديدات بات كبيرا ، خصوصا مع مقولات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن قناة السويس، وكذلك التوجه نحو تدشين الوجود الروسي البحري الذي تحبذه الحكومة السودانية، ولكن هو محل رفض من أطراف عربية أخرى، بينما الطرف الروسي يعتبره حيويا، وطبقا لهذا الوضع الإشكالي بين التوجه السوداني القائم على فكرة توظيف الورقة الروسية، والتوجه المصري الذي يملك علاقات جيدة بروسيا، بالتوازي مع الأطراف العربية الرافضة للتواجد الروسي.طبقا لهذا المشهد المعقد، سيكون التفاهم المصري السوداني مهما لتحجيم القلق الإقليمي من الوجود الروسي على البحر الأحمر، كما أن التوافق بشأن تدهور الأوضاع الأمنية في البحر الأحمر مهم، لا سيما وأن هناك أطرافا يمكنها استخدام حالة السيولة السودانية الناتجة عن الحرب من بوابة شرق السودان المطل على البحر الأحمر ،والذي بدوره فيه احتقانات سياسية، وبعض كياناته السياسية منخرط في التحالف مع قوات الدعم السريع بشأن ترتيبات الحكومة السودانية الموازية.
واتصالا بالملفات الإقليمية، فإن اللقاء بحث التطورات المرتبطة بالتفاعلات متعددة الأطراف في منطقة دول حوض نهر النيل والقرن الإفريقي، حيث تحرص القاهرة على الإعلان أن هذا الملف هو الأبرز في كل تحركاتها الدبلوماسية على المستويات الإفريقية والعربية والعالمية، ونظرا لوجود مخاوف في المجال العام السوداني بشأن تداعيات السد في السياق الفني على السودان، فقد تطابقت رؤى البلدين في ظل الارتباط الوثيق بين الأمن القومي لكل من مصر والسودان، وتم الاتفاق طبقا للبيان الرئاسي المصري الصادر عن زيارة البرهان على مواصلة التنسيق، والعمل المشترك لحفظ الأمن المائي للدولتين، ورفض الإجراءات الأحادية بحوض النيل الأزرق، وإعمال القانون الدولي لتحقيق المنفعة المشتركة لجميع الأشقاء بحوض النيل.
الملف الذي لا يقل أهمية عن الملف الأول، هو ملف الترتيبات الأمنية والعسكرية، وهنا نتحدث عن المناطق المتاخمة للحدود المصرية في الولاية الشمالية، والتي تتعرض أحيانا لهجوم بالمسيرات، خصوصا في موقع سد مروي، حيث أن هذه الترتيبات هي قديمة على المستوى العسكري بين الجيشين المصري والسوداني، في إطار تأمين الحدود المشتركة، خصوصا ويتم تطويرها أحيانا إلى مستوى المناورات المشتركة، وذلك في حالة السلم السوداني.
الأوضاع الميدانية العسكرية على صعيد الصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، هو ملف وازن في التفاعل المصري السوداني حاليا، إذ أن سيطرة الجيش السوداني على وسط السودان وعاصمة البلاد الخرطوم، لا يعني انتهاء الصراع المسلح، وذلك على الرغم من تغيير موازين القوى لصالح القوات المسلحة السودانية بعد السيطرة على الخرطوم.
وبطبيعة الحال يتصل ملف الأوضاع العسكرية والأمنية بالتشاور بشأن التعامل مع سلاح المسيرات الذي تستخدمه قوات الدعم السريع بكثافة ضد المنشآت الحيوية السودانية المؤثرة على الخدمات المهمة، مثل الكهرباء التي انقطعت لأيام عدة في الخرطوم وغيرها.
وظني أن أوضاع اللاجئين السودانيين في مصر، وسبل تسيير عودة طوعية لهم تحتل مساحة وازنة في التفاعل المصري السوداني على كل المستويات بداية من مستوى القمم الرئاسية، إلى غيرها من المستويات السياسية، إذ أن هذه العودة من جانب المواطنين السودانيين تعني اعترافا بمدى جدارة الحكومة السودانية الراهنة في القدرة على تسيير عودة مظاهر الحياة الطبيعية للعاصمة السودانية خصوصا، كما أنه بالتوازي مع ذلك هو مصلحة مصرية، وذلك في تخفيف الضغوط بشأن تصاعد الأعباء المرتبطة بارتفاع معدلات اللجوء لمصر من كافة الجنسيات إلى حد وجود تقديرات غير رسمية، أن هذه المعدلات قد ارتفعت إلى أن تصل لحوالي ٢٠٪ من عدد السكان المصريين.
وقد يكون من المثير للتساؤل في سياق التفاعل المصري السوداني هو الإعلان عن تعيين رئيس وزراء ووزير خارجية من المحسوبين تاريخيا على نظام البشير على المستويين الوظيفي والأيديولوجي، وهو ما يعني في بعض التقديرات السودانية، أنها قبول مصري بسيطرة وجوه من النظام القديم على دائرة صناعة القرار في هذه المرحلة، وتعبير عن توافق مع الرئيس السيسي بهذا الشأن من جانب البرهان، حيث تذهب هذه التقديرات إلى أن هذا القبول المصري قد اشترط ألا يلتحق بدوائر صناعة القرار الرموز المتشددة المحسوبة على الجبهة القومية الإسلامية، مع ضرورة إزاحة هؤلاء من الواجهات الإعلامية، وذلك بالتوازي مع الاعتماد على وجوه الصف الثالث والرابع، سواء من كيان حزب المؤتمر الوطني المنحل أو الجبهة القومية الإسلامية.
وفي ضوء شح المعلومات الرسمية بشأن التفاعلات المصرية السودانية في هذه المرحلة الحساسة، وتحت مظلة حرب دائرة، فإن هذا الطرح يتوافق مع الأداء المصري التقليدي من اختيار مناهج الاحتواء وليس الصدام، وهو ما تفعله القاهرة عادة مع قوى سياسية، يكون فيها قطاع مسلح، ولكن هذا الطرح يتجاهل أن رئيس الوزراء المكلف دفع الله الحاج علي عثمان، جاء من موقعه كسفير للسودان لدى المملكة السعودية، كما أنه كان عضو وفد التفاوض للحكومة السودانية في محادثات منبر جدة في مايو ٢٠٢٣، وهو الأمر الذي يعني وجود اتجاه من نوع ما للعودة لمفاوضات جدة رغم التحية الأخيرة التي أعلنها الفريق البرهان للبنادق بعد عودته للقاهرة، بما يعني أن تحالفاته قائمة، ولا تغيير فيها، ولا ضغوط عليه من القاهرة بشأن تحالفه مع رموز نظام البشير المحسوب على الإخوان المسلمين.
في السياق المصري قد يكون من اللافت تصريحات د. بدر عبد العاطي وزير الخارجية المصري في أعقاب زيارة الفريق البرهان مباشرة، بأن القاهرة تعمل على إنهاء الحرب السودانية، فضلا عن مباحثاته بهذا الشأن مع المبعوث الأممي رمطان العاممرة، وهو مجهود تواصله القاهرة تقليديا على المستوى الدولي والإقليمي، ولكن هذا لا ينفي وجود تساؤل عن ماهية الموقف المصري في هذه المرحلة من المعادلات السياسية الداخلية القادمة في السودان وطبيعة الفاعلين فيها، وذلك بعد تغير الموازين العسكرية لصالح الجيش من ناحية، وانقسامات المكون المدني السوداني من ناحية أخرى.
المعروف أن القاهرة قد اتجهت إلى تقدير برز في مؤتمر القاهرة للقوى السياسية السودانية في يوليو ٢٠٢٤ بالسعي للتوافق بين كل الأطراف السودانية على تنوعها، على اعتبار أن وجود المكون المدني مع بلورة نوع من التفاهم مع المكون العسكري الرسمي أي القوات المسلحة السودانية، هو الضمان الحقيقي لصناعة استقرار سياسي بالسودان، ولكن المؤتمر الثاني الذي سبق وأن أعلن الاتجاه إليه وزير الخارجية المصري، لم يجد طريقا للتنفيذ حتي الآن، كما أن انقسامات المكون المدني تساهم في تراجع وزنه لدى القاهرة ، بعد أن ذهب قطاع منه إلى خيار الحكومة الموازية، وقطاع آخر يراوح مكانه بشأن ارتباطاته الإقليمية، وقطاع ثالث قد سأم الحالة بأكملها وانطوى على ألمه بشأن مستقبل وطنه.