انتشرت خلال الفترة الماضية أخبار تفيد بوجود خطابات للمحافظين، تفيد بإحالة قضايا البناء للقضاء العسكري، وقد كشف موقع مصراوي بتاريخ 22 إبريل، منذ أسبوع، بأن هناك توجيهات فعلية بإحالة قضايا البناء بدون ترخيص إلى النيابة العسكرية والقضاء العسكري، وقد ذكر موقع العربي الجديد بتاريخ 25 من إبريل أيضا، أن هذه التوجيهات تعيد إلى الأذهان ما جرى قبل سنوات عدّة، عندما أُحيلت آلاف من مخالفات البناء التي مرت عليها عشرات السنوات إلى النيابة العسكرية، وخُيّر أصحاب هذه المخالفات ما بين دفع غرامات قُدّرت بالملايين، أو استمرار النيابة العسكرية في إقامة الدعوى مع إحالة المخالف مسجوناً إلى القضاء العسكري، وذلك على الرغم من كون قطع الأرض المقام عليها البناء مدنية، وكون المتورطون في المخالفات مدنيين لا عسكريين.
وبداية، لا بد وأن نذكركم بما جاء النص عليه في المادة 204 من الدستور المصري الحالي، من أنه: “لا يجوز محاكمة مدني أمام القضاء العسكري إلا في الجرائم التي تمثل اعتداءً مباشرًا على القوات المسلحة أو منشآتها أو أفرادها…”. كما أن ذلك القرار يأتي مخالفا كذلك لما جاء عليه نص المادة 97 من الدستور المصري من قولها، إنه” تكفل المادة (97) من الدستور حق كل مواطن في التقاضي أمام قاضيه الطبيعي. ومحاكمة المدنيين أمام جهة استثنائية، لا تفي بضمانات المحاكمة العادلة تمثل انتهاكًا لهذا الحق الأصيل”.
حتى مع وجود مساحات فارغة ما بين نصوص القوانين، كعادة التشريعات المصرية، وفي هذا الصدد، نجد تلك القفزات التشريعية في قانون حماية المنشآت العامة رقم 136 لسنة 2014، والذي نص في مادته الثانية على اعتبار المنشآت التي تُساهم القوات المسلحة في تأمينها من “طرق وكباري، وغيرها من المنشآت والمرافق والممتلكات العامة، وما يدخل في حكمها، وتعد هذه المنشآت في حكم المنشآت العسكرية طوال فترة التأمين والحماية”. وقد استمر العمل بهذا القانون لمدة عامين فقط، وقد تم تعديل ذلك القانون في أكتوبر 2021، على نحو جعل من مهام التأمين والحماية لذات المنشآت والمرافق عاما دون توقيت محدد بخلاف النص القديم “مدة عامين”، مع استمرار خضوع أي جرائم في هذا الصدد للقضاء العسكري. تبدو إشكالية هذا النص الجاري والمستمر في ظل توسع الأنشطة الاقتصادية للقوات المسلحة، وتولى الأجهزة التابعة لها مهام الإنشاء والإدارة للعديد من المرافق ومنشآت البنية التحتية والحيوية في مصر، وامتلاكها والانتفاع بها حاليا، وما يعني من شأن هذا النص أن يبقى مفعلا إلى أجل غير مسمى. وفي ذات السياق فقد أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكمها في القضية رقم 33 لسنة 38 قضائية تنازع، والقضية رقم 34 لسنة 38 ق قضائية تنازع، والقضية رقم 35 لسنة 38 قضائية تنازع، والمنشور في الجريدة الرسمية في العدد 42 مكرر ب في 23 أكتوبر 2017 الماضي، والذي أوضحت فيه الضوابط الحاكمة لاختصاص القضاء العسكري لمحاكمة المدنيين طبقًا لقانون حماية المنشآت العامة أمامه على أوجه ثلاثة:
الأولى: أن تمثل الجريمة المرتكبة اعتداءً مباشرًا على المنشآت أو المرافق أو الممتلكات العامة.
الثانية: أن يقع الاعتداء حال قيام القوات المسلحة بتأمين وحماية هذه المنشأة والمرافق والممتلكات العامة تأمينًا فعليًا وليس حكميًا.
الثالثة: أن يكون الفعل الذي وقع على أي منها مؤثمًا بهذا الوصف طبقًا لأحكام قانون العقوبات أو القوانين المنظمة لهذه المنشآت أو المرافق أو الممتلكات العامة، باعتبارها القواعد العامة الحاكمة للتجريم والعقاب في هذا الخصوص، والتي تتحدد على أساسها المسئولية الجنائية بالنسبة للمدنيين الذين يرتكبون أياً من هذه الأفعال. وقد أكدت المحكمة الدستورية العليا في حيثياتها، أن الدستور اعتمد معياراً شخصياً وآخر مكانياً لاختصاص القضاء العسكري بمحاكمة المدنيين، عن الجرائم التي تقع بصفتهم كمدنيين على المنشآت العسكرية ومعسكرات القوات المسلحة، وما يأخذ حكمها من منشآت، حيث تضمنت الفقرة الثانية من المادة 204 الضوابط الحاكمة لاختصاص القضاء العسكري بمحاكمة المدنيين أمامه، بأن تمثل الجريمة المرتكبة اعتداءً مباشراً على المنشآت العسكرية أو معسكرات القوات المسلحة أو ما في حكمها.
ولكن حتى ومع وجود ذلك القانون، تبقى إحالة المدنيين في غير القضايا المنصوص عليها حصراً إلى القضاء العسكري، يمثل أحد أهم الخروقات القانونية التي تمارسها الدولة، بما يجعلها تعصف بمبدأ سيادة القانون وخضوع الدولة للقانون، وذلك لكون الأصل الدستوري والحقوقي، هو اختصاص القضاء المدني بالقضايا المدنية، ولا تكون الإحالة إلى القضاء العسكري إلا في أضيق المساحات، احتراما لاختصاص القضاء الطبيعي، وذلك ما أقرته المادة 14 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. كما أن التوسع في الإحالة إلى القضاء العسكري، يخل بشكل كبير بمفهوم الدولة الديمقراطية، كما يهدم مبدأ ديمقراطية القانون، وذلك على أقل تقدير لكونه يخضع المدنيين لإجراءات لا تتناسب مع طبيعتهم المدنية، وطبيعة ما ارتكب كذلك من عمل مدني لا علاقة له بالعسكرية وقوانينها، تلك التي تقتضي خضوع ذويها لقواعد مختلفة، تتناسب مع قواعد الانضباط العسكري، وهذا ما لا يتوافق مع المدنيين.
وإذ أنه بشكل عام فتعد إحالة المدنيين والقضايا المدنية إلى القضاء العسكري، إخلالاً جوهريا بمضمون فكرة الحق في المحاكمات العادلة، والاختصاص العام للقضاء الطبيعي، والذي هو أصل كافة المحاكمات، حتى في حالة النظر إلى الاستثناءات الواردة في مدونات دستورية أو قانونية، مثل قانون حماية المنشآت العامة، سابق البيان، فإن ذلك يجب أن يكون في أضيق النطق وأشد الحالات إلحاحاً، ذلك لكون التوسع في الاختصاصات العسكرية مع المواطنين المدنيين يمثل خرقا واضحا لحقوقهم الدستورية، وانتقاصاً لضمانات قانونية محاكماتهم، علاوة على الإخلال بالضمانات الإجرائية للمتقاضين المدنيين.
ويكفي أن نذكر القائمين على مثل هذا القرار، بأن الحق في المثول أمام القضاء الطبيعي يشكل أحد أهم الركائز لضمان المحاكمات العادلة، علاوة على أن تلك القرارات التوسعية تعد مخالفة بشكل رئيس للتضييق الوارد في نصوص الدستور المصري بخصوص اختصاص القضاء العسكري. كما أن الاحتجاج بأن تسريع وتيرة المحاكمات العسكرية، قد يكون له صدى في جرائم التعدي على الأراضي الزراعية، فإنه حتى في ظل تلك الحجة الواهية، يبقى الحفاظ على حقوق المواطنين الأساسية والدستورية أهم من ذلك، كما أن احتماء الدولة خلف القضاء العسكري، يوهن إيمانها بقدرة القضاء الطبيعي، بما يشكل خرقاً لمبدأ خضوع الدول للقانون، وهو ما يشكل أحد أهم أركان الدولة القانونيةـ فهل نجد لكل تلك الحجج الرافضة لعسكرة القضايا المدنية صدى لدى مؤسسات الدولة، وعلى الأخص مجلسي النواب والشيوخ، فلربما تكون لهما كلمة أو وقفة تعيد الحق إلى نصابه.