المرور بالقناة أصبح بالمجان… مزاد وفرصة أوكازيون أمريكي… فمن لديه قوة عسكرية وقدرة على البلطجة الدولية، يفتح القناة ويمر عنوة… هكذا بدا المظهر العام عقب إعلان ترامب أنه “يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجانا عبر قناتي بنما والسويس. فهاتان القناتان ما كانتا لتوجدا لولا الولايات المتحدة الأمريكية. لقد طلبت من وزير الخارجية ماركو روبيو، أن يتعامل فورا مع هذا الوضع”.
بالطبع حديث ترامب، علاوة على ما يشتمل عليه من “فتونة” سياسية و”جر شكل”، فإنه لا يخلو من جهل بَيِن، فهذا الرجل الذي يتعامل بعقلية التاجر، يظهر على أنه لا يعرف شيئا عن تاريخ ما يتحدث عنه. في شأن قناة بنما، يبدو أن حديث ترامب به ما يقبل الأخذ والرد، لكون الولايات المتحدة بذلت الكثير من أجل حفر تلك القناة، وإن كان عليها أن تلتزم بما وقعه رئيسها الأسبق جيمي كارتر، وصادق عليه الكونجرس عام 1978 لاستعادة القناة إلى الدولة الأم بنما.
في شأن قناة السويس الوضع مختلف كلية، ففكرة الحفر فرنسية بالأساس، وامتياز الحفر خضع في البداية لأسهم عدة دول أجنبية منها الولايات المتحدة، التي ما لبثت- ودول أخرى- أن سحبت وعدها بالتمويل باستعادة أموال الأسهم المشتراة، حيث رأت وقتئذ، أن الفكرة هزلية، فما كان من مصر إلا أن اقترضت للحفر والتأسيس، الذي انتهى بفتح القناة في 17 نوفمبر 1869.
بالطبع للقناة تاريخ إبان الأسرة الـ12 الفرعونية عهد الفرعون سينوسرت الثالث، أي قبل ولادة الولايات المتحدة بـ36 قرنا. لكن على أي حال، وما دام الجهل سيد الموقف والبلطجة هي خير مثال، فيبقى التصرف المصري للرد على تلك الحماقات مهم، خاصة وقد كلف ترامب وزير خارجيته بمتابعة الموقف.
الرد الشعبي
شعبيا انطلقت النكات والتي يبدو أن السفارة الأمريكية في القاهرة قد قامت بترجمتها، وكلها يعبر عن رفض مصر الشعبي لهذا التصريح الأرعن.
فمصر دولة فقيرة، واقتصادها محدود، وهي تحتاج لكل ما يسهم في دعم مصادرها الريعية الدولارية، وكلها مصادر ذات بعد خارجي، كتحويلات العاملين المصريين بالخارج والسياحة والصادرات وقناة السويس. من هنا يبدو كلام الرئيس الأمريكي، كما لو كان خصما عمديا من تلك الأرصدة، في وقت ترزح فيه مصر تحت موجات متتابعة من التضخم، ممثلا في ارتفاع أسعار الخدمات إلى جانب السلع. فهناك ارتفاع متواصل في أسعار الكهرباء والنفط والغاز ومياة الشرب، هنا يظهر بوست على مواقع التواصل يقول (فاجر.. عايز يعدي قناة السويس ببلاش، واحنا بنروح الشروق ومدينتي بكارته).
من زاوية التاريخ الذي تحدث عنه ترامب، وجهله بأبسط المعلومات التي يمكن أن يدور بأصابعه على أي موقع نت لكي يخبره عن تاريخ القناة، يظهر بوست آخر مصور هذه المرة لشبيه له متعب ويمسك بفأس أو معول يضرب به في الصحراء، ومن خلفه مئات الأشخاص يحفرون القناة إبان عهد سعيد باشا، عندما بدأ الحفر في إبريل 1859، هنا يكتب تحت الصورة “صورة نادرة لجد ترامب، وهو يشارك في حفر قناة السويس مع الفلاحين المصريين”. وهذا المظهر يسخر من قول ترامب، فيجعل لفرمانه مرجعية وسند تاريخي.
وصف آخر، لم يصل إلى حد كتابة بوست، ولكنه نعت لترامب خلال الكلام عليه، وهو لقب “حنفي”، وهو كناية عن اسم الممثل المصري الكوميدي الراحل والمعروف عبد الفتاح القصري في أحد أفلامه السينمائية، حيث مرد “حنفي” على إطلاق الفرمان تلو الآخر، ثم ما يلبث أن يتراجع بسرعة تحت ضغط من حوله “زوجته تحديدا”، ما جعل المشاهد ينظر إليه كرجل ناقص الأهلية. وهذا الوصف هو تعبير بليغ لكون ترامب يصدر القرار تلو الآخر، ثم ما يلبث أن يتراجع عنه تحت ضغط الشارع أو ضغط من حوله، لكونه لم يستشر أحدا، ما يظهر في تداعيات سريعة لقراره تجبره على التراجع صاغرا، ودون أي خشية من أن تهتز صورته ومكانته كرئيس لأقوى دولة بالعالم، وقد كان حريا به أن يصمد ويتخذ قرارات للتنفيذ، وليس للتراجع عنها، مهما كانت العواقب، ما دام كان يصدر هذا القرار بآلية معتبرة.
بوست آخر، لا يرى في الرجل إلا شخصا معتوها أو مجنونا، فهو يرتدي لباسا أبيض أشبه بلباس نزلاء مستشفيات الأمراض العقلية، وإلى جواره الرئيس السيسي يسترضيه- حتى لا يتهور عليه- بدخول المصحة النفسية، قائلا له: “أنا هجيب لك واحدة تانية” أي اترك قناة السويس، وسوف أحضر لك لعبة أخرى بديلا عنها تلهو بها!!
الرد الرسمي
لا يبدو في الأفق رد رسمي علني على تصريحات ترامب. فوزير الخارجية قبل ساعات قليلة جدا من تصريح ترامب المثير، وفي لقاء بينه وبين أعضاء مجلس أمناء الحوار الوطني مساء 26 إبريل 2025 بوزارة الخارجية قال: “تصريحاته من الأفضل عدم الرد عليها”. لكن على الأرجح، وما دام ترامب كلف وزير خارجيته بالتباحث مع القاهرة في شأن ما قال، فسوف تقوم مصر على الأرجح بالرد داخل الغرف المغلقة.
أولا، مصر دولة مدينة للكثير من الدول؛ بسبب ظروفها وأحوالها الاقتصادية، ومن ثم فهي أحوج إلى كل دخل لتحسين أوضاع الاقتصاد.
ثانيا، أن قناة السويس بُذِل فيها الغالي والنفيس، ولا زالت مصر تساعد بلدان العالم كافة لجعلها وسيلة انتقال سلسة ومعتبرة ومتطورة تكنولوجيا.
ثالثا، أن مصر دولة مؤسسات، ولا تخضع أمورها المالية لرغبات شخص أو أكثر، مصري أو غير مصري، ومن ثم فإن ما ذكر لن توافق عليه الأغلبية، خاصة وأن المساس بالقناة وحقوق مصر فيها هو مساس بالسيادة الوطنية، خاصة في شأن رمز وطني رفيع كقناة السويس، بسبب تاريخ هذا المرفق، وما عانته مصر من ويلات لدعم استقلاله وسيادتها عليه.
رابعا، إن مصر لم تطلب من أي جهة عامة أو من الولايات المتحدة خاصة، أن تدافع عن حق المرور في القناة، كي تسدد فاتورة هذا الطلب، ومن ثم فإن مرور أساطيلها العسكرية وسفنها التجارية، هو أمر يرتبط بمصالحها الاستراتيجية والاقتصادية. بل إن مصر رغم خسارتها من أحداث باب المندب الناتجة عن العدوان الصهيوني على غزة، إلا أنها لم تحث يوما ما على قصف جماعة أنصار الله الحوثية.
خامسا، أن المرور في قناة السويس له معايير وضوابط، وقانون القناة يمنع التمييز بين السفن، فيما يتعلق بالرسوم، وأي تفضيل لدولة ما في حق المرور هو خرق واضح للقوانين المصرية.
سادسا، أن قانون البحار في ديسمبر 1982، هو معاهدة دولية، شاركت الولايات المتحدة في صياغتها، وهي تدعم حرية الملاحة، وتخضع لتنظيم القنوات الاصطناعية التي تمر داخل الدولة الواحدة، وهي خاضعة على وجه الخصوص لاتفاقية دولية خاصة هي اتفاقية القسطنطينية 1888، وهي اتفاقية تضمن حرية الملاحة والسيادة الوطنية المصرية على ضفتى القناة، وهي جزء من إقليم الدولة المصرية بلا منازع.
لكل هذه الأسباب الشعبية والرسمية وأسباب أخرى، فإن القناة يستحيل أن تخضع لرغبات هذه الدولة العظمى أو غيرها، وإلا تعرضت مصر لانتقادات من قبل الغير ومطالبة بالمعاملة بالمثل، ناهيك عن أن ما يحدث يعبر عن نوع من الانتكاسة الكبيرة ليس فقط للقانون الدولى أو ميثاق الأمم المتحدة، بل للتنظيم الدولي برمته المؤسس عقب الحرب العالمية الثانية. ومن ثم فإن الطلب الأمريكي إذا ما أُرفِق بالطلبات الأخرى المتعلقة باستفزاز الدانمارك وكندا وبنما والصين والمكسيك والاتحاد الأوروبي وبلدان الناتو، يبدو كما لو كان فتح مواجهة بين الولايات المتحدة والعالم!!